في مذكرات مولاي المهدي العلوي (2) : العلاقة مع الملوك وما رافقها من اتصالات وقطائع..

أنطلق من مسلمة أولية وهي أن الكتاب الذي نحن بصدده، كصيغة من صيغ المذكرت الخاصة بمولاي المهدي العلوي، لن يكون كافيا بتاتا لتلخيص حياته.
لن يستطيع أن يضعها كلها، بكل تشعباتها ودروسها، بكل ألمها وانفلاتها، بكل تعددها وتميزها، بين دفتي كتاب، حتى ولو كانت مذكراته بلسانه هو.
تقودني هذه المسلمة إلى الاعتراف بأنني قرأتها مرتين، وبأني سأعود إليها باستمرار.
لا لأنها مكتوبة بلغة شاعرية تفترض العودة المستمرة إلى ينابيعها، بل لأن فيها ما يهمنا من مواقف ومن إضاءات تاريخية جوهرية، بالنسبة للاتحادي المناضل، وبالنسبة للإعلامي المتلهف للاطلاع على خبايا حياة تقاطع فيها الوطني بالإيديولوجي بالقومي بالحقوقي بالأممي بالاشتراكي الديموقراطي، حياة تجسر الفجوة فيها بين محيط الأمير ومحيط المتمرد والمعارض.
ولا بد أيضا من التسليم بأننا أمام حياة كل عناوينها فارقة، تحيل إلى حيوات أخرى لشخصيات وملوك وأمراء ورؤساء دول، طالما غذوا كل الخيالات والأفكار والتصورات عنهم، في أذهان أجيال متعاقبة.
حياة تعكسها العناوين، التي تتقاطع حولها مسيرة غنية للغاية لقيادي وطني، يساري اتحادي، وديبلوماسي فريد من نوعه، مع مسيرات عظماء من المغرب ومن العالم.

 

كان من الطبيعي، وأنا أشرع في قراءة المذكرات، الخاصة بمولاي المهدي العلوي، الذي نسبناه دوما إلى الأسرة الملكية، أن أتساءل مع نفسي عن علاقته مع الملكين محمد الخامس والحسن الثاني. كان ذلك طبيعيا، لأن في القضية أمرا غير طبيعيٍّ، وهو وجوده في الوقت ذاته،عضوا في تنظيمات الحركة الاتحادية المعارضة من موقع قيادي.
وإذا كان التوقع في ما يخص العلاقة مع محمد الخامس ممكنا، ويمكن إجمالا تلخيصه في السؤال: ماذا قدم المعني بالأمر، في معركة التحرير، وإلى أين قاده نضاله بالقرب من محمد الخامس أوبعيدا عنه، في كنف الحركة الاستقلالية؟ فإن الأمر غير قابل للتوقع في العلاقة مع الراحل الحسن الثاني، ولا يمكن نيله إلا من صاحبه، ومن خلال ما أراد الكشف عنه هو نفسه….
ومع القراءة وعلى مر الصفحات، تتوالى المشاهد، وتترسخ الفكرة التي نتوقعها، عن المشاركة في التحرير الوطني، الذي يقود بالضرورة والحتمية إلى نبعه في أعلى الدولة الواقعة تحت نير الحماية.

محمد الخامس، اللقاء …وما بعده.
قد لا يختلف المشهد العام في توصيف المرحلة الصعبة من تاريخ المغرب، مع ارتفاع وتيرة الكفاح الوطني، مقابل ارتفاع منسوب الوحشية من لدن المستعمر، كما قد لا تختلف الكثير من تفاصيل ذلك الوضع، إلا بالقدر الذي تفاجئنا به المذكرات، بنوع من السرد المرح لأشياء عالية الأهمية والصعوبة.
فالجميع يعرف التواطؤ الوطني بين الملك محمد الخامس والحركة الوطنية، لكن لا أحد يعرف كيف كان يعبر عن ذلك أحيانا، بلغة المغاربة الواصفة، الفقهية والنابعة من تراثنا الشفهي، وكان الشاهد الآخر، الوطني الكبير والفذ سيدي بوبكر القادري، رحم الله الجميع.
يقول مولاي المهدي: كان /يعني محمد الخامس / يساند القيادة، فيما نقله إلينا «الأستاذ بوبكر القادري»، ويشجعها على الثبات والاستمرار في كل أشكال المقاومة الشعبية للمد الاستعماري ورفض المناورات التي تحيق بوحدة المغرب والمغاربة، بينما يتولى، رحمه الله، مواصلة نضاله على المستوى السياسي برفضه الإذعان لكل أشكال الضغط والامتناع عن توقيع الظهائر والمصادقة على قرارات الإقامة العامة، وهو ما كان يعبر عنه السلطان موجها قوله إلى قادة الحزب:
«غير انتوما حيحوا وأنا نسقَّط»، بما معناه: «عليكم إثارة الجلبة لإثارة الوحيش وإخراجه من أوكاره وأنا أصوب لأوقع بالطرائد««. ومما يثير في القصة المرادفة لعودة محمد الخامس، هو اشتراكها في الكثير مما قيل عن تمازج الخوف من مستقبل البلاد بعد الاستقلال مع الفرحة بعودة الملك، رمز السيادة والعزة الوطنية والصمود الكفاحي.
وفي مشهد يليق بالسينما، كما يليق بالملاحم، الموزعة بين فرحة القلب وتشاؤم التوقع، بين ربيع الوطنية المنبثق من شتاء استعماري طويل وكآبة خريف يسري كقشعريرة في الجلد، يصف مولاي المهدي العلوي هذا التأرجح الملتبس بقصة صديقه ودموعهما.
كل يؤول الدموع كما يرى المستقبل والحاضر، يقول مولاي المهدي، أذكر أنه في يوم عودة السلطان إلى بلده في 16 نوفمبر 1955، كنا متسمرين جنب المذياع في بيت الصديق «سيدي أحمد الشرقاوي»، نستمع إلى التعليقات المواكبة للعودة، وكلها كانت تؤرخ لحدث سياسي ووطني مشهود ضحى الكثيرون من أجله وفي طليعتهم جلالة السلطان وعائلته، مما جعل مشاعرنا تهتز، ولم أشعر بالدموع إلا وهي تنهمر على خدي حتى نظرت إلى صديقي فوجدته بدوره يُداري دموعه، فبادرته:
– لماذا تبكي؟
فردَّ من جهته سائلا:
-ولماذا تبكي أنت؟
فأجبت:
-إنها دموع الفرح.
فقال:
-بل هي دموع الخوف مما ستؤول إليه حال البلاد بعد الاستقلال«.
قبل العودة إلى المغرب، كانت العودة الأولى إلى «سان جرمان أونلي»، وهناك يشتغل مولاي المهدي ضمن خلية من أعضائها، السي أحمد السنوسي، ممثل المغرب في الأمم المتحدة والديبلوماسي المخضرم الذي فارقنا منذ أيام، وأحمد عصمان.
هي خلية بمثابة سكرتارية الملك المغفور له محمد الخامس، وسيعيش في تلك الفترة الحدث الخاص بالباشا لكلاوي، وكذا أول سفير فرنسي في المغرب، مما يتحدث عن تفاصيله في ثنايا الكتاب…

العلاقة مع الحسن الثاني

العلاقة مع الملك الراحل الحسن الثاني كانت أشد تعقيدا، ليس مع مولاي المهدي سليل الدم العلوي، بل مع مولاي المهدي المناضل اليساري، الذي كان يعتز برفاقيته مع عمر بنجلون، الذي اشترك معه في قضايا اليسار الجديد في الاتحاد الوطني.
سنعرف بأن المهدي العلوي وعبد الله العروي وعمر بنجلون انكبوا على تقديم مذكرة حول الخروج من جبة الاستقلال، والعمل باستقلالية عنه، من زاوية جديدة تعلن انتماءها الوطني التقدمي بوضوح.
وسيكون أول حديث لمولاي المهدي عن ولي العهد، في فترة الستينيات، وفي جوار زمان حكومة عبد الله إبراهيم.
وشابت العلاقة شروط عامة، هي التي تحكمت في علاقة مولاي الحسن، ولي العهد، بالحركة الاتحادية، ولا سيما منها حكومة عبد الله إبراهيم. واللقاء مع ولي العهد بباريس تم وجها لوجه، في أواخر العام 1960، ويحكي مولاي المهدي أن اللقاء »رتبه الأمير «مولاي علي» الذي قدِم إلى الحي الجامعي للطلبة بزنقة المدارس Rue des Ecoles، وأرسل من يبحث عني في غرفتي، ناقلا إلي بأن «سميت سيدي» (وهو اللقب الذي يُعرف به ولي العهد في القصر) موجود بباريس ويريد مقابلتي«.
وقد »فهمت دعوته المبطنة لي، بكيفية أو بأخرى، للاشتغال في محيطه، لاسيما بعد ما سمعتُه منه من مواقف تُفيد نفيه لكل ما يروج عن معارضته للحكومة ووقوفه في وجه سياسات عبد الله إبراهيم.
على كل، علاقة المرحوم الحسن الثاني بحكومة عبد الله إبراهيم يروي تفاصيل أخرى عنها الفقيد عبد الرحيم بوعبيد في دفاتره، التي تشرفت بترجمة جزءين اثنين منها على صفحات الجريدة.
وهي تفاصيل تبين نية الحسن الثاني في الحكم، وسعيه إلى إقناع العديد من الشخصيات الاتحادية بقبول الدخول في تجربة ما بعد حكومة عبد الله إبراهيم.
وقد كتبت عن هذا الأخير الصحافية والباحثة الكبيرة زكية داوود في كتابها عن «عبد الله إبراهيم، تاريخ الفرص الضائعةَ»، الذي سبق عرض مضامينه على صفحات جريدتنا ذات صيف.
القارئ للشهادات التي يبرزها مولاي المهدي يدرك أنها تعطي جانبا آخر مكملا لما كتبه عبد الرحيم بوعبيد وما نقل عن مولاي عبدالله إبراهيم.
في نفس اللقاء مع ولي العهد، حضر عمر بنجلون في السفارة المغربية بباريس،
و»بعد تحية الحاضرين، أعاد مولاي الحسن التأكيد على المواقف التي سمعتها منه بالأمس، مبرزا أنه لا يعارض التجربة الحكومية (بقيادة عبد الله إبراهيم)، ولكنه يُقدر صعوبة الظرفية التي تبقى غير مواتية لتحقيق سياساتها، مما جعلنا أمام اختيارات صعبة شكلت موضوعا لنقاش طويل وصريح مع الطلبة استغرق زهاء ساعة ونصف، أعرب في نهايته ولي العهد عن ارتياحه للنتائج التي سيحرص على نقلها بأمانة لجلالة الملك محمد الخامس، مع التأكيد على أن الوطن يعتز بأبنائه، الذين يقدمون صورة مشرقة عن بلادهم في الخارج بحضورهم المتميز كسفراء ناجحين،
وختم الأمير كلامه للطلبة الحاضرين: «إن بلادكم اليوم لا يمثلها في فرنسا سفير واحد- هو المرحوم الدكتور عبد اللطيف بنجلون آنذاك- بل كلكم سفراء يعتز المغرب بكم وسأنقل ذلك إلى جلالة الملك»».
في السرد الذي يلي هذا، تتعقد العلاقة مع المرحوم الحسن الثاني، ضمن تعقد العلاقات مع الاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي من بعده، والحق أن مولاي المهدي لا يكون متسامحا مع الملك الحسن الثاني في الكثير من ذكرياته، ويلتمس الموضوعية في كل مايقول، سواء أكان لفائدة الملك الراحل أو لغير فائدته.
ومن الأشياء التي يسهب فيها مولاي المهدي بخصوص علاقته مع الملك الراحل، ترتيبات حكومة التناوب أو في نقل رسائل من الملك إلى اليوسفي، لقد حكى مولاي المهدي كيف أن الملك الراحل كلفه بنقل رسالة أصر أن تكون بالدارجة المغربية.
وقد أوردها حرفيا في الكتاب، وتتعلق بطلب من اليوسفي أن -عندما قال لي الحسن الثاني «قل لليوسفي يخلي اولادنا بعاد على هاذ الخنز ديالنا ««، وهي قصة تتعلق بلقاء بين اليوسفي ومولاي هشام، الذي كانت نبرته النقدية قد تزايدت.
ولقد قادته مسيرته الديبلوماسية من الأمم المتحدة إلى لاهاي بهولاندا ثم عمان، كانت كلها عواصم للملكيات، تقرب فيها من الملك عبد الله الهاشمي، وكان الجميع يناديه «يا ابن العم»، كما اقترب من الملكة الهولندية، وعمل، أيضا، مع الملك الراحل في مستوى آخر من التزامه الوطني.
يروي القيادي الاتحادي كيف كان وقع اقتراحه للعمل في الديبلوماسية على أعضاء المكتب السياسي الذي كان عضوا فيه في الثمانينيات من القرن الماضي، كما يحكي عن شروط العمل وقتها في خدمة القضية الوطنية الأولى، وهو أمر يستحق لوحده حلقة كاملة، لاسيما وأن الشرط الحالي والقضية تناقش في مجلس الأمن، مناسبة للاطلاع على تفاصيل نعرفها أول مرة .

 


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 26/10/2021

أخبار مرتبطة

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

  ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *