عندما أنقذني المهدي بن بركة من الموت .. يوم أرادوا اغتياله!
أنطلق من مسلمة أولية وهي أن الكتاب الذي نحن بصدده، كصيغة من صيغ المذكرات الخاصة بمولاي المهدي العلوي، لن يكون كافيا بتاتا لتلخيص حياته.
لن يستطيع أن يضعها كلها، بكل تشعباتها ودروسها، بكل ألمها وانفلاتها، بكل تعددها وتميزها، بين دفتي كتاب، حتى ولو كانت مذكراته بلسانه هو.
تقودني هذه المسلمة إلى الاعتراف بأنني قرأتها مرتين، وبأني سأعود إليها باستمرار.
لا لأنها مكتوبة بلغة شاعرية تفترض العودة المستمرة إلى ينابيعها، بل لأن فيها ما يهمنا من مواقف ومن إضاءات تاريخية جوهرية، بالنسبة للاتحادي المناضل، وبالنسبة للإعلامي المتلهف للاطلاع على خبايا حياة تقاطع فيها الوطني بالإيديولوجي بالقومي بالحقوقي بالأممي بالاشتراكي الديموقراطي، حياة تجسر الفجوة فيها بين محيط الأمير ومحيط المتمرد والمعارض.
ولا بد أيضا من التسليم بأننا أمام حياة كل عناوينها فارقة، تحيل إلى حيوات أخرى لشخصيات وملوك وأمراء ورؤساء دول، طالما غذوا كل الخيالات والأفكار والتصورات عنهم، في أذهان أجيال متعاقبة.
حياة تعكسها العناوين، التي تتقاطع حولها مسيرة غنية للغاية لقيادي وطني، يساري اتحادي، وديبلوماسي فريد من نوعه، مع مسيرات عظماء من المغرب ومن العالم.
يخبرنا الديبلوماسي والصديق محمد بنمبارك أن إرهاصات هذا المؤلف »لاحت منذ سنة 2002 بالعاصمة الأردنية، لما التقيت لأول مرة بمولاي المهدي العلوي بصفته سفيرا للمغرب بعمان، بعد التحاقي بهذه البعثة الدبلوماسية شهر غشت 2001 كنائب للسفير. أدركت منذ البداية أنني أمام قامة سياسية من العيار الثقيل، شخصية فذة مشهود لها بالرصيد النضالي والوطنية الصادقة».
وظلت الفكرة تراوح نفسها، إلى أن مرت سبع سنوات سمان، من التمرينات، يقول عنها بنمبارك،» تجددت لقاءاتنا بالرباط خلال عام 2016 حيث فاتحته في موضوع إعداد مذكراته، اعتبارا لكون ما يحمله في جعبته في غاية الأهمية بالنسبة للأجيال الحاضرة والقادمة حول تاريخ المغرب المعاصر.
تحولت الفكرة إلى مشروع، بعدما انطلقت اللقاءات الثلاثية خلال سنة 2019، بين مولاي المهدي، والصحفي المقتدر سعيد منتسب وعبد ربه. حرص خلالها مولاي المهدي على إعادة شريط الذكريات بكل عزيمة وإصرار على الإدلاء بدلوه وبسط أفكاره وآرائه ومواقفه وعرض ما عايشه من أحداث سياسية، بإيقاع حيادي يسند كل شيء إلى الحقيقة، بعيدا عن التحيز والتحامل والحسابات الباردة المتجنبة للنزق السياسي، لا يميل إلى الكلام بالألغاز واللعب بالألفاظ والعبارات التي كثيرا ما تفقد الكلام معناه. فكانت آراؤه ومواقفه مشجعة تتوخى الموضوعية والنزاهة الفكرية تحكمها المصلحة الوطنية بالدرجة الأولى، فكان بذاك الشاهد الأمين على فترات مهمة من أحداث ووقائع وشخوص الأمس«.
واعتبر أن هذا الحكم النبيه واليقظ من لدن من رافق مولاي المهدي العلوي في دروب الديبلوماسية إلى أن صار صديقه وصديق العائلة، يشفي كثيرا، كما أنه يسلط الضوء على بعض البياضات، لا شك أنها مقصودة في سيرة مناضل وقيادي من طراز فريد.
وهو ما يفسر إلى حد بعيد ابتعاده عن المعطيات التي قد تشكل مجالا وثيقا من البوليميك، ولعل القارئ، مثل ما حدث لصاحب هذه السطور، سيجد نفسه في حديث سعيد منتسب عن المذكرات، عندما يقول »يعوزها ذلك الألق الذي يمنحها أسباب الوجود، ذاكرة رجل متعدد المراكز وله دور تأسيسي في صنع المغرب الراهن، وفي ضبط تحولاته الكبرى، من موقع الفاعل المشارك جنبا إلى جنب مع أهم السياسيين الذين عرفهم المغرب المعاصر، رجل مشبع برائحة بلاده، يتنفسها ويعمل من أجل انتشارها، حتى تكون لها السيادة التي يؤمن أنها لن تتأتى إلا بالعمل المثابر والدؤوب. رجل تحس، حين تجالسه للإنصات إليه، أنه يداري تاريخه الشخصي الضاج بالتجارب، ليقدم ذلك التاريخ الذي ينحدر منه رجال وطنيون أفذاذ، أمثال المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي وعلال الفاسي وأبو بكر القادري وعبد الله إبراهيم.. والقائمة طويلة.«..
ولن نجانب الصواب، إذا قلنا بأن أشياء فيه كثيرة، لم تكن محل حقيقة كاملة حتى قدم شهادته، وفي ذلك أمثلة غير قليلة، ومنها ما وقع في تأسيس الاتحاد المغربي للشغل، إذ يكشف مولاي المهدي عملية تزوير رهيبة، محاطة بأشواك الحقيقة المرة، قليلون فقط اقتربوا منها وباحوا بها.
تزوير المحجوب بن الصريق للنتيجة التي وصل إليها التصويت بين مندوبي المؤتمر التأسيسي، وترهيب المحجوب للقادة الاتحاديين والمناضلين،على حد سواء، بتفجير المؤتمر أو .. بتحريض المخزن!
ويحمل مولاي المهدي نقدا لاذعا للقيادات النقابية، ومنها المحجوب والأموي رحمهما الله….
ومن بياضات الألم التي لم يسهب فيها، ما وقع في المؤتمر الخامس للاتحاد في 1989، بمركب محمد الخامس بالرباط. لقد كنت حاضرا، ولم أر من الحقيقة سوى جانب ضئيل، قدم إلينا بشكل غير وفي.
جرت مياه كثيرة، ولكن الألم يبدو أنه سكن العظم، عندما يتعلق الأمر بتنظيم تساهم فيه بعرق إيمانك وجهدك ووفائك، ثم تجده يضيق عليك…
بياض آخر سيحمل مولاي المهدي إلى الماوراء، يتعلق بالعلاقة مع الفقيه البصري، والتي يلخصها بجملة واحدة يتيمة : أعتقد بأن الاختيار الذي اختاره الحزب في 1975 كان هو الاختيار الصالح وليس اختيار الفقيه..
مقابل ذلك يحتفظ مولاي المهدي لابن بركة وعمر بنجلون بفصول طويلة في المحبة والامتنان النضالي .
وسأختار روايته لحادثة واد الشراط، والتي كان الشاهد الوحيد عليها بعد المهدي ومخزن الستينيات.
هي تدل على أشياء كثيرة بين المهديين..
لم تكن وظيفة هذه القراءة السريعة لكتاب مولاي المهدي هي أن تقدم ملخصا وافيا لما جاء فيه، أبدا، كانت قراءة عرضانية تسير من أفق إلى آخر من البداية، وتتبع على آثاره قصصا..فليس من حق المعجبين أن يفشوا أسرار الكتاب كلها، بل هو طعم أولي، سيليه شفاء غليل حقيقي عند قراءة المؤلف.
حادثة السيارة المدبرة
في «وادي الشراط»
نُفذت حادثة السيارة المدبرة في «وادي الشراط»، في واقع الأمر، لإنذار «المهدي» أو إصابته بعجز جسدي لفترة معينة، أو تصفيته نهائيا. فهي تدخل في سياق حالة السُّعار التي أصابت المجموعات المتحكمة قبيل الاستفتاء على الدستور في عام 1962، لتوجيه رسالة إلى المناضلين يكون عنوانها الأبرز «رأس الأفعى»، الذي كان يمثله «بن بركة»، بعمله واجتهاده ومثابرته وتأثيره على الجموع.
في ذلك اليوم، 16 نونبر 1962، كنتُ أرافق «المهدي» على متن سيارة فولسفاكن في طريق العودة من الدارالبيضاء إلى الرباط، وكُنا منخرطين في تقويم ما تم إنجازه من عمل، وما تم القيام به لتأطير موقف الحزب من الاستفتاء على الدستور، ومقاربة مستوى تَمثُّل المناضلين لخلفية القرارات المتخذة، وما إذا كان بالإمكان المراهنة على حضور أكثر قوة لمواجهة المد المتصاعد لآلة القمع والتطبيع مع الفساد.
في هذا الوقت نبهني «المهدي»، بفطنته المعهودة إلى وجود سيارة من نوع بوجو 403 ترافقنا وتراقبنا منذ خروجنا من الدار البيضاء، طالبا مني عدم إثارة الانتباه، حتى نتبيَّن الأمر.
وكنا عند مغادرتنا لمبنى الجريدة في يوم سابق، قد لاحظنا أن سيارة تتبعنا، مما جعلنا نعمد إلى مراوغتها في الدروب المحاذية لمقر الجريدة، حتى تأكدنا أنها فقدت أثرنا، فاستأنفنا الطريق عائدين إلى الرباط.
أدركنا بأن في الأمر ما يدعو إلى الريبة، لذلك عمد «المهدي» إلى بعض المناورات، حتى يتبين مقاصد السيارة المرافقة، فكان يزيد من السرعة أحيانا، ثم يتعمد التجاوز في بعض المحاور الممنوعة أحيانا أخرى، ليتأكد من نية السائق الآخر، ويربح بالتالي مسافة تجعلنا نسيطر على الوضع.
ما لبثنا مركزيْن على ما نحن فيه، حتى بدا لنا أن سائق السيارة الأخرى قد أصبح يتجاوز بجنون ليقترب من سيارتنا شيئا فشيئا، حتى إذا بلغنا المنحنى الطويل القريب من بوزنيقة، على مستوى وادي الشرَّاط، حيث تضيق الطريق ويصعب التجاوز، فتكون الفرصة مواتية له لتنفيذ خطته بدفعنا إلى الخروج عن خط السير والاصطدام بحافة الطريق ثم السقوط في المنحدر.
وعلى ذكر سائق السيارة التي كانت تطاردنا، أذكر أنه خلال أطوار محاكمتي، إلى جانب عدد من المناضلين في ما يُعرف بـ»المؤامرة»، سأتناولها بالتفصيل في فصل مستقل، أخبرني الصحافي المعروف «عبد اللطيف جبرو» أنه لاحظ حضور السائق الذي تسبب لنا في حادثة وادي الشراط، بشكل منتظم لمتابعة فصول المحاكمة.
ذهبت لأتعرف على السائق المعلوم في إحدى فترات الاستراحة وطلبت منه، بسخرية لاذعة، أن يخبرني عن مصير سيارة «بيجو Peugeot « ، التي كانت تطاردنا، فما كان منه إلا الهروب باستمرار من هذه المواجهة.
وعودة إلى الحادثة، لم يكن بوسعنا تفادي هذا المصير الذي كنا نتوقعه، فكان الاصطدام قويا جدا، جعلني أفقد الوعي للحظات، قبل أن أستفيق على صوت «المهدي» وهو يُحاول أن يساعدني على الخروج من السيارة، فكان ذلك يشكل خطرا عليّ، حيث كان جسمي قد انقلب رأسا على عقب، فأصبح رأسي إلى الأسفل بينما انقلبت رجلاي إلى الأعلى، أما «المهدي» فقد وجد نفسه مرميا وسط الطريق، وكان من الممكن أن تجهز عليه أي سيارة قادمة من الاتجاه المعاكس، لولا ألطاف الله.
أبدى «المهدي» رباطة جأش كبيرة، إذ تمالك نفسه بعدما أحس بخطورة الأمر، فتناول ورقة وقلما ليسجل أرقام السيارة التي كانت متوقفة على مسافة من مكان الحادثة، في تَحدّ صارخ لمشاعرنا. ذلك أنهم كانوا يريدون التأكد من مستوى الخسائر وهل مازلنا على قيد الحياة، قبل أن يغادروا المكان بعد الجلبة التي أحدثها حضور عدد من الفلاحين الذين تجمعوا حول «المهدي»، مما حال ربما دون استكمال مخطط الإجهاز على «المهديين»: «المهدي بن بركة» وعبد ربه «المهدي العلوي».
ومن الصدف الغريبة أن أول من مر بسيارته بعد الحادثة كان هو وكيل الملك بالمحكمة العليا، فاقترح إيصالي بسيارته إلى مدينة «بوزنيقة»، فيما أصر «المهدي» على قيادة سيارتنا، ليتبعني إلى المستشفى ويطمئن على حالتي الصحية، ذلك أن المهدي لم يشك في البداية من أي ألم.
في الطريق إلى المستشفى، قصصت على السيد القاضي ما مرّ بنا من أحداث وأطلعته على كل التفاصيل، مما جعلني أطمئن حينها، وأطمئن رفيقي بعدها، بأن الله أرسل لنا في الوقت المناسب مسؤولا من ذلك المستوى ليكون شاهدا على ما لحقنا من اعتداء آثم، وربما يساعدنا على القصاص من الذين ظلمونا، بيد أن الغريب هو أنه في الوقت الذي قدم الكولونيل «أوفقير»، مسؤول أجهزة الأمن حينها، شكوى ضد جريدة التحرير، على نشرها خبر اتهامنا لأجهزته بالتسبب في الحادثة، طلبت حضور القاضي المذكور إلى المحكمة ليدلي بشهادته عما شاهده عيانا وعما حكيت له مباشرة، إلا أنه أنكر كل شيء!
عند وصولنا إلى بلدة «بوزنيقة»، خشي «المهدي» من مضاعفات إصابتي، فاقترح علي الانتقال إلى الرباط أو الدار البيضاء، لإجراء الفحوصات بالأشعة ليطمئن أكثر على حالتي، فما كان منّا إلا أن قصدنا مستشفى «ابن سينا» في العاصمة، حيث أجريت لي الفحوصات الضرورية، التي أكدت أن الأمر يتعلق ببعض الرضوض، وأن لا شيء يدعو إلى القلق، فعدتُ بعدها إلى البيت بسلا.
من جهته قصد «المهدي» بيته بالرباط، ليتصل رأسا بجريدة «التحرير» التي يُصدرها الحزب من الدارالبيضاء، فأبلغ طاقم التحرير، بالهاتف، بمحاولة التصفية، التي تعرضنا لها وبتفاصيل الحادثة التي كنا معا ضحية لها.
بعد ذلك شعر «المهدي» بألم شديد في عنقه، فتوجه مباشرة لمصحة «ديبوا روكبير»» Dubois-Roquebert « بشارع الجزائر في الرباط، حيث ستُجرى له فحوص طبية، وُضعت له بعدها جبيرة بالجبس في عنقه بطريقة «بدائية»، كما عبرعن ذلك في ما بعد، مما ضاعف من آلامه، وكانت تلك المصحة التي توجه إليها المهدي هي الأكثر شهرة في الرباط، كما تربط مديرها علاقات وثيقة مع القصر، الأمر الذي دفع قيادة الحزب إلى وضع حراس يتناوبون ليلاً ونهاراً على حراسة باب غرفة بن بركة، خوفا على حياته من بعض «الأفراد المشتبه فيهم»، بيد أن ذلك لم يمنع المهدي مطلقا من المساهمة الفعالة في حملة الاستفتاء.
بعد الانتهاء من حملات الاستفتاء على الدستور بالنتيجة المعروفة، رحلتُ إلى فرنسا لاستكمال العلاج، فتبين لي بعد الفحوصات التي أجريتها في باريس أنني مصاب بكسر في الفقرة الأولى من العمود الفقري ورضوض على مستوى العنق 7ème Opophyse، مما جعلني أخضع للعلاج من جديد، فتحسنت حالتي الصحية ولم أعد أحس بمضاعفات الحادثة، كما كنت أحس بها قبل ذلك. أما «المهدي» فقد اختار الذهاب إلى ألمانيا في 22 نونبر، وبالضبط إلى مدينة كولونيا التي يستقر بها شقيقه عبد القادر، حيث خضع، لمدة خمسة عشر يوما، لفحوصات دقيقة، ومعالجة الآلام التي كان يعاني منها على مستوى عنقه.