في ندوة «الفن وسلطة التقنية» بأصيلة: الإستتيقا أحد الميادين الكبرى التي تستثمر فيها الرأسمالية اليوم هل أصبح الذوق أسير المركزية المعلوماتية؟

طرح باحثون ونقاد، مغاربة وأجانب، يومي الجمعة والسبت 3 و4 أكتوبر الجاري بأصيلة خلال ندوة تناولت موضوع «الفن وسلطة التقنية» على هامش الدورة 46 لمنتدى أصيلة الثقافي، طرحوا العلاقة بين التعبيرات الفنية وسلطة التقنية، وما تمارسه هذه الأخيرة من تهديد لقيمة الإبداع ووظيفته في الحياة وارتباطه بجدوى الفعل الانساني.
ووقف المشاركون في هذه الندوة، التي سيرها على مدى يومين كل من الناقد الجمالي شرف الدين ماجدولين ومدير المعهد الأكاديمي للفنون نور الدين أفاية، وقفوا على تأثيرات تطور هذه التقنية على الممارسات الثقافية والذائقة الجمالية، لا سيما بعد طفرة الذكاء الاصطناعي.

 

أكد حاتم البطيوي، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، على أن اختيار موضوع الندوة نابع من كون التقنية قد فتحت مجالا أرحب لتقاطع الفن العلم، حيث «أضحت مكونا أساسيا من مكونات الممارسة الفنية، ولم تعد تقتصر على دورها كأداة مساعدة أو وسيط آلي ،بل تحولت الى فضاء إبداعي مستقل يعيد تعريف مفاهيم الفن والجمال والتجربة الجمالي ذاتها».
وأضاف البطيوي أن التقنية ساهمت في توسيع وسائط التعبير الفني، حيث تجاوز الفن حدوده التقليدية المألوفة (رسم، تصوير، نحت … ) ليتجسد في تعبيرات وأشكال جديدة مثل الفن الرقمي وفن الفيديو والتفاعلي،» ما ساهم في ترجمة أفكار معقدة بأساليب مبتكرة» وفتح فضاءات جديدة للتجريب، وهي التعبيرات التي مكنت من تعزيز التفاعل بين الفنان والمتلقي في العملية الإبداعية الذي انتقل من وضع المتفرج الى دور المشارك الفاعل، ومن ثم أدت الى «دمقرطة العمل الفني الذي لم يعد يقتصر على المؤسسات الأكاديمية بل أضحى الأمر متاحا للجميع عبر المنصات الرقمية».
لا يعتبر الفنان ومدير العام لمراكز الفنون بوزارة الثقافة المصرية علي سعيد حجازي، العملية الإبداعية منعزلة بل هي مزيج من العمليات السيكولوجية، كما ان المبدع الأصيل ليس هو الموهوب فقط، بل القادر على استخدام هذه التقنية والوسائط والادوات، مؤكدا أنه لا مفر لفناني اليوم من الاعتماد على ما تقدمه التقنية.
من جهتها،حاولت الفنانة الفرنسية والأستاذة بجامعة باريس الثامنة، شو سين شين، مقاربة الموضوع بالنظر الى دور الالة والتقنية إزاء ماهو إنساني اليوم، مستعرضة محطات من مسارها الشخصي وتجربتها مع التقنيات الحديثة خاصة تقنية الذكاء الاصطناعي عبر إنتاج أعمال يغلب عليها الطابع السوريالي. وعرضت شين في هذا الصدد مفهوم الفن التشاركي المتعلق بدور الجمهور في العملية الإبداعية بواسطة ما تمنحه الثورة الرقمية اليوم، وهي الوسائل التي ترى شين أن على الفنان تملكها لكن من خلال حساسيته وإتقانه للحرفة ولعمله الفني.

سلطة الفن تقتضي
نقيضها: الحرية

اعتبر يوسف المريمي، أستاذ فلسفة الفن والجماليات بجامعة عين الشق، أن طرح موضوع الفن وسلطة التقنية يفصح عن وعي بالتحولات الكبرى التي تفرضها التقنية على الفن اليوم ،كما أنه يطرح جوهر العلاقة بين الفن والتقنية باعتبارها تحيل على الحرية التي هي نقيض السلطة، والتي قد يصير الفنان أسيرا لنهبها وتوجهاتها وقواعدها كما يتبدى ذلك مع سلطة الإشهار والموضة وتحكم الشركات الكبرى في البرمجيات، وبهذا تستلب حرية الكائن وتقيد الجمالية كما يصبح الذوق مأسورا داخل المركزية المعلوماتية.
وأضاف المريمي أن مجال الإستتيقا هو أحد الميادين الكبرى التي تستثمر فيها الرأسمالية اليوم، متسائلا في هذا الصدد عن إمكانية الحديث عن جمالية التقنية وعن وجود تناقض بين المجالين الحرية والسلطة لأن التقنية كما يبدو تحاصر الفن إتيقيا وفنيا وسياسيا، ولهذا أجمعت كل الفلسفات المعاصرة على أن هذا المجال محفوف بالارتياب، اعتبارا لأنه «خلف ضجيج التقنية يتوارى صوت الوجود، ونلمس هنا تصورا ارتيابيا للعلاقة بين الفن التقنية بعكس بعض المدارس التي قرأت هذه العلاقة خارج ثنائية الرفض والقبول، ولم تغفل الانتباه الى قدرة الفن على المقاومة من داخل التقنية ذاتها». في نفس الوقت، يقول المتحدث، سعت مدارس أخرى الى عقد مصالحة جذرية بين الفن والتقنية بدعوى أن الآلة قد تكون حاملة لرؤية فنية جديدة.
ولفت المريمي الى ضرورة الخروج من نمط المحاكاة والدخول الى براديغم «الانغراس» لأنه المفهوم الأقرب الى التجربة الحسية، أي النظر الى الكائن الفني داخل النسيج الرمزي والتخييلي، داعيا الى الحفاظ للفن على وظيفته في «مقاومة بهامة العصر والموت وبلاهة الفن التجاري» في بيئة فنية أصبحت خاضعة لمنطق السوق ولأهواء المراهقة الفنية التي يتفنن فيها أهل الفن والدعاية.. وخلص المريمي الى أن منتج ثقافي أو علمي «لابد وأن يحيل الى خط انفلات وهروب من التسلط والتسييج إلى الانفتاح على العالم ورؤية الأشياء بشكل جديد».

مصير البعد الإنساني
في العمل الفني؟

في مداخلة لمحمد الشرقاوي، الباحث في الفن المغربي المعاصر والأستاذ بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان بعنوان «من الجمالية الميكانيكية إلى الجمالية الافتراضية: تجليات الآلة في تاريخ الفن»، لفت الى أن للتقنية جانبها االجمالي وجانبها الأداتي في نفس الوقت الذي يكمن في هشاشتها وقوتها إزاء الطبيعة في آن واحد، فقد أضحت الآلة في مرحلة من تاريخ الفن موضوعا للإبداع، كما تصير وسيطا معبرا أحيانا، وهي الجمالية التي لمسها المتلقي في لوحات مارسيل دوشامب وليوناردو دافنتشي.
وتوقف المتدخل عند مفهوم التكنولوجيا الانغراسية كآلية في الفن التفاعلي، بالإضافة الى ما يمنحه الذكاء الاصطناعي من أشكال تعبيرية جديدة ما يقود الى القول بأننا أمام إزاء «جمالية افتراضية»، لا تزال حبيسة توجس وتخوف، توجس يسائل قدرة الفنان على إدراج البعد الإنساني في العمل الفني، متسائلا عن مصير النقد الفني ومعاييره الجمالية حين تخضع بدورها لسلطة التقنية.

 

شرف الدين ماجدولين:
نعيش انفلاتا في المرجعية وليس فقط سلطة للتقنية

يرى الناقد الجمالي شرف الدين ماجدولين أن التفكير في سؤال الفن وسلطة التقنية نابع من اعتبار هذه الأخيرة باتت لا تشكل فقط قاعدة لكل اجتهاد إنساني اليوم، بل» باتت سلطة موجهة للتعبيرات ومهيمنة على اختيارات الفنانين وما يبذلونه من مجهود في الإنجاز والتعبير».
واعتبر ماجدولين أن تاريخ الفن، في شكل من أشكاله، هو تاريخ للاجتهاد التقني الذي بذله الذهن البشري في حقل الفن، أي أن تاريخ الفن هو تاريخ التقنيات في التعبير الفني. وعرج المتدخل، وهو يعرض لمحطات هذا الفن ، على بداياته انطلاقا من نشأة المطبعة الى فنون الحفر التي شكلت لحظة مؤسسة لدمقرطة الفنون وانتشارها ونشأة الجهاز الذي أضحت فيه الآلة بديلا عن المهارة اليدوية للفنان، لتليها مرحلة التصوير الفوتوغرافي التي «شكل فيها الجهاز منطلقا لتحول الانشغال الفني من مسعى المطابقة والتمثيل الى مسعى مختلف يتعلق بإنشاء الفن لتأويلاته».
ورغم ما حققته التقنية والفنون الرقمية من إضافة في مجال الفن، الا أن الدكتور شرف الدين ماجدولين، يشير الى أننا اليوم نعيش انفلاتا وليس فقط سلطة للتقنية.. انفلات من مرجعية المبدع الى مرجعية الجهاز والتقنية لأن الفنون الرقمية، حسب التدخل، بتعدداتها والمؤسسات التي تبنت تصورها، جعلت الفنان في كفة واحدة مع المهندس والمبرمج والخبير في المعلوميات، وبالتالي فقد أنشأت لحظة مختلفة تستدعي أسئلة مؤرقة في حقل الفنون من قبيل: هل لا تزال لملكية التحفة مكانة اليوم؟ أي تعبير للفنون الرقمية التي لا دور للفنان فيها، وأي مرجعية يمكن أن تكون في هذه اللحظات للمتاحف. واخيرا هل يمكن أن تكون لهذه الأعمال محطات ومتاحف وأرشيف؟
وخلص ماجدولين الى القول بأن كل تقنية هي وليدة لحظتها ومنذورة للتجاوز، ولأن تصبح ذاكرة وأرشيفا مادامت لا تنتج قيمة أساسية في الفن هي قيمة الخلود


الكاتب : أصيلة: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 06/10/2025