في يوم المهاجر…جمعيات مغاربة العالم لحظة موسمية أم حاجة اجتماعية

 

في كل موسم صيفي، ومع توافد مغاربة العالم إلى أرض الوطن، يتكرر نفس المشهد… زيارات، لقاءات، تصريحات رسمية دافئة، وربما صور مع شخصيات سياسية أو وزارية. ثم، لا يلبث أن يظهر في بلدان المهجر صوت جديد يحمل اسم «جمعية»، غالبا ما تكون ثمرة لقاء بروتوكولي، أو استجابة لتشجيع سياسي ضمني، أو حتى نتيجة إعجاب شخصي بـ»رمزية» العلاقة مع الوطن الأم.
لكن، حين نتأمل هذه الدينامية المتكررة، تظهر أسئلة جوهرية:
هل نحن فعلا أمام فعل مدني نابع من حاجة حقيقية وملحة؟ أم أنه مجرد تكرار لشكل من أشكال التمثيل الرمزي الذي لا يؤدي إلى بناء حقيقي؟
وهل الجمعيات التي تنشأ بهذه الطريقة قادرة على التعبير عن قضايا مغاربة العالم وقيادة قضاياهم، أم أنها تكتفي بتأثيث المشهد وربما تبرير العجز السياسي تجاههم؟
أولا: الجمعيات التي تولد من «اللحظة» لا من «الحاجة»
العمل الجمعوي، كما هو متعارف عليه في الممارسات الدولية الجادة، يفترض أن ينبني على تشخيص دقيق، رؤية واضحة، وانخراط فعلي في الميدان. لكن الواقع يُظهر أن العديد من الجمعيات التي تُنشأ في صفوف مغاربة العالم، تولد من لحظة إعجاب أو مجاملة سياسية أكثر مما تولد من حاجة مجتمعية واقعية.
حيث إن هذه الجمعيات غالبا ما تكون موجهة نحو الخارج أكثر من الداخل؛ نحو الوطن الأم أكثر من بلد الإقامة، ونحو التقرب من المؤسسات أكثر من الاقتراب من الناس.
وهنا يحق لنا أن نطرح بعض التساؤلات المشروعة، ما الحاجة الفعلية لهذه الجمعية؟من تمثل؟ماذا تضيف للمشهد المدني؟  وأخيرا ما الفارق بينها  وبين العشرات من المبادرات الشبيهة التي انتهى بها المطاف إلى العطالة أو الشكلية؟
في هذا السياق، تصبح بعض الجمعيات مجرد طاقة عبور إلى فضاءات رسمية، وليست إطارًا للعمل والتنظيم والمبادرة.
ثانيًا: السياسي الذي يرى في مغاربة العالم رصيدًا للشرعية.

من جهة أخرى، يتعامل بعض الفاعلين السياسيين مع مغاربة العالم كمجال امتداد رمزي، لا كشركاء استراتيجيين. فبدل تفعيل آليات التمثيل الديمقراطي والمساءلة، يتم اللجوء إلى تكتيكات ناعمة (لقاءات، دعوات، صور، تشجيعات مبطنة لتأسيس جمعيات موالية )، تغني الخطاب الرسمي عن مساءلة السياسات العمومية تجاه الجالية.
في هذه الحالة، لا يصبح المهاجر شريكا، بل فقط عنصرا في استراتيجية التسويق السياسي، ويصبح دعم الجمعية مرهونًا بولائها، وليس بمدى أثرها المجتمعي.
والمفارقة المؤلمة أن مغاربة العالم، الذين يُشاد بدورهم في التنمية، يظلون خارج آليات القرار والتأثير، ما لم يعلنوا عن ولاءاتهم الشخصية «الود السياسي».
ثالثًا: علاقة مختلة تُنتج واجهات بلا مضمون

عندما تلتقي النية الشخصية للمهاجر في «التموقع»، مع رغبة السياسي في «الامتداد»، تتولد علاقة مختلة تفتقد للتوازن والمصداقية. يتحول فيها العمل الجمعوي إلى امتداد وظيفي للخطاب السياسي، لا تعبيرا مستقلاً عن مطالب واحتياجات مغاربة العالم لتصبح الجمعيات واجهات لا تؤطر أحدًا، وأسماء لا يرافقها أي أثر، ومبادرات يُنفق فيها الكثير من الجهد والعلاقات، لكن دون بوصلة واضحة أو مساءلة حقيقية.
هذا النوع من الجمعيات يُضعف ثقة باقي أفراد الجالية، ويخلق رأيا عامًا بأن الفعل المدني في المهجر لا يعدو أن يكون أداة وظيفية، لا مشروعا مجتمعيا لصالح الجالية.
رابعًا: نحو نموذج الجمعية الفاعلة والمتفاعلة
في مقابل هذا المشهد السلبي، هناك نماذج مضيئة لجمعيات فاعلة، متجذرة، ومبنية على الثقة والتدرج.
هذه الجمعيات الناجحة، سواء في أوروبا أو أمريكا أو الخليج، تشترك في سمات محددة:
الانطلاق من الحاجات المحلية:
وهو انطلاق لم يأت من مبادرات «مركزية»، بل من تشخيص دقيق في بلد الإقامة (الهشاشة، الإقصاء، مشاكل التعليم، ضعف التوجيه، قضايا الهوية…).
أي أن نجاحها يأتي من قربها واشتغالها الميداني ومن إدراكها العميق لسياقها.
بناء الثقة قبل جمع التبرعات، فالثقة هي رأسمال الجمعيات الناجحة. ويتم بناؤها عبر:
-الشفافية المالية.
-التزام الفريق.
-تواصل منتظم مع الجالية.
-تقديم خدمات ملموسة.
بعد ذلك، تصبح عملية جمع الموارد أكثر سلاسة، سواء من:
الأفراد داخل المجتمع (تبرعات شهرية، أنشطة تضامنية)،أو من القطاع الخاص أو الشركات ذات المسؤولية الاجتماعية (شراكات ( CSR أو من الجهات المانحة في بلد الإقامة، شريطة وجود مشروع مدروس وقابل للقياس.
تحقيق الاستقلالية المؤسساتية:

هذه الجمعيات لا تبني استراتيجيتها على انتظار دعم من «الجهات الرسمية»، بل على منطق الشراكة، والبحث الذاتي عن مصادر التمويل، والتفكير الابتكاري في الموارد، إنها بهذا الشكل لا تتوسل الدعم، بل تقنع به، كما أنها تعمل بالشبكات لا بالأفراد، حيث إنها بدل الاعتماد على «الأسماء اللامعة»، تشتغل بمنطق الشبكات ذلك من خلال :
– تنسيق بين الفاعلين،
– توزيع للأدوار،
– بناء مساحات مشتركة للتفكير والتخطيط،
– تكوين جبهات مدنية قادرة على الترافع والتأثير.
ثقافة الأثر بدل ثقافة الحضور:
إن أثر الجمعيات الناجحة لا يقاس بالصور أو عدد التصريحات الرسمية في وسائل الإعلام أو بعدد الدعوات الرسمية بل يقاس :
– بعدد المستفيدين،
– بنوعية المشاريع،
– استمرارية الأثر في المجتمع،
– مستوى المشاركة الذي تحققه.
خامسا: دعوة إلى تصحيح العلاقة: من رمزية المشاركة إلى مؤسساتية التمكين.

حتى يتحول مغاربة العالم من «أوراق دعم» إلى «فاعلين استراتيجيين»، يجب إعادة صياغة العلاقة بينهم وبين المؤسسات السياسية على أسس جديدة، وهي علاقة  تمكنهم من حقهم في التمثيل الديمقراطي الحقيقي (الفصل 17 من الدستور المغربي)، إضافة إلى تطوير نماذج حكامة جديدة لمجلس الجالية ومؤسسات الوساطة، تشجيع المشاريع الجمعوية المستقلة القائمة على الأثر، وليس فقط تلك القريبة من السلطة وخلق آليات تمويل شفافة وعادلة بناء على نتائج العمل، لا على الولاءات .
من تمثيل مغاربة العالم إلى الإيمان بدورهم البناء

إن مغاربة العالم لا يحتاجون إلى منصات بروتوكولية ولا جوائز رمزية، بل إلى اعتراف حقيقي بكونهم شركاء أساسيين في التنمية، وليس موضوعا للخطاب فقط، ومفتاح هذا التحول هو إصلاح النموذج الجمعوي في المهجر من خلال تشجيع الفاعلين الجادين، وإعادة بناء الثقة مع الجالية، وتطوير الشبكات مهنية ومدنية داخل المغرب وخارجه ، إضافة إلى ربط العمل الجمعوي بمستوى أعلى من التأثير في السياسات العمومية.
وعليه يمكن القول إن من يمثل مغاربة العالم بحق ليس من يتهافت على التصريحات والتقاط  الصور، بل من يعمل معهم، وبينهم، ومن أجلهم… بثقة، وشفافية، وتراكم نتيجة الاستمرارية.


الكاتب : فيصل العراقي

  

بتاريخ : 12/08/2025