« قبل النوم بقليل « قصص قصيرة جدا للقاص حسن برطال

 

التأسيس لكون فني متفرد بسخرية لاذعة

 

جاءت القصة القصيرة جدا أو ما يصطلح عليها بالومضة والمقطع والملمح، نتيجة مجموعة من الظروف المحيطة من بينها سرعة القراءة التي جعلت القارئ يعزف عن كل كتابة من شأنها أن تأخذ وقتاً طويلاً لأسباب تدخلت فيها العولمة والسباق الحضاري والفكري والإبداعي، لتصبح منافسا لباقي الأجناس الأدبية الأخرى وأكثر قراءة، خصوصا أنها تعتمد في كتابتها على قصر حجمها وإيحائها المكثف والإيجاز بالإضافة إلى الرمزية بنوعيها المباشرة وغير المباشرة، والتلميح والاقتضاب والتجريب والاختزال وميزة التصوير البلاغي الدقيق.

يعتبر حسن برطال من المبدعين القلائل الذين تركوا بصمتهم في مجال القصة القصيرة جدا من خلال سلسلة إصدارته التي بلغت لحد كتابة هذه السطور ستة عشر مجموعة بدءا من سنة 2006، تجربة لا يمكن أن تفرز إلا عطاء متميزا، سيما أنه ينطلق في جل مجموعاته القصصية من واقعه الاجتماعي، منتقدا التركيبة السياسية و الغطرسة الذكورية على النساء والحكرة وتقزيم دور المواطن في مجتمعه وغيرها من المواضيع الهادفة والحساسة بكل جرأة وحزم، داعيا للتغيير وإحقاق الحق لأصحابه، و لعل مجموعة القصص القصيرة جدا « قبل النوم بقليل « الصادرة سنة 2022، التي بين أيدينا والتي سنحاول الغوص في أغوارها بقصد الاستمتاع وإمتاع القارئ وتقريب القاص حسن برطال إليه، تبقى زبدة الإصدارات لما تتضمنه من نصوص بليغة القصد والمعاني، فهي رسائل تلغرافية وقفت على قضايا من قبيل الفساد والأوبئة والحلم و الخيانة والغباء والفقر وأخرى تعبر على الهروب من الواقع، محملة بأبعاد ودلالات رمزية حينا ومباشرة حينا آخر، رسائل تكشف عن واقع أضحى الإنسان العربي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة يتعايش معه، مكرها، واقع أعرب القاص حسن برطال عن رفضه، كونه واقعا سياسيا و ااجتماعيا و اثقافيا و أخلاقيا محموما بمجموعة من العلل و النوازل التي ضاق منها، ولم يجد من سبيل إلى مقاسمة رفضه هذا لها سوى هذه الأضمومات الساخرة والمنتقدة، وفق مفارقات حكائية، ولوحات كاريكاتورية أجاد في رسمها وتوظيفها، بكل حنكة مستثمرا فيها على أساسيات وتقنيات القصة القصيرة جدا، من تكثيف واختزال وانسيابية مبنية على الدقة و كل الصور البلاغية من مجاز واستعارة وتشبيه وإضمار و إيحاء، بعيدا عن السرد المباشر، كيف لا وهو من عاصر عمداء هذا الفن القصصي عبر مراحله خاصة جمال زروق ومصطفى لغتيري وأنيس الرافعي دون نسيان محمد زفزاف وأحمد بوزفور.
استهل حسن برطال مجموعته القصصية، بقوله « أحمق من يبني سدا على شاطئ البحر» حكمة نابعة من صميم شخص مناضل فذ، لا يمكن أن تحده حواجز أو توقفه متاريس الرقابة، شخص وهب قلمه و فكره لانتقاد الأوضاع و المطالبة بالتغيير المنشود على كل المستويات، واصفا ذاته بالبحر الذي لا يهدأ له حراك ولا تُوقِف زحفه رمال ولا سدود، فيما عنوان المجموعة « قبل النوم بقليل « والذي يعتبر البوابة الأولى التي تجذب انتباه القارئ وتحثه على متابعة القراءة من عدمه، فهو عنوان إحدى قصص المجموعة التي نحن بصدد دراستها والتي تضم 101 نصا، متناولة مواضيع اجتماعية ووطنية وتاريخية وسياسية ودينية و قومية … « قبل النوم بقليل «عنوان بالرغم من مفرداته المألوفة إلا أن هذه المفردات أنشأت تركيبا مغايرا لدلالتها منفردة، فقبل هنا دلالة على الزمن فهي ظرف زمان محددة زمن وقوع الأحداث وما اختزنه ذاكرة الكاتب، فيما النوم هو فترة راحة بيولوجية للإنسان بعد عناء أو تعب للذات، لتبقى مفردة بقليل تكملة لقبل الزمنية، فهي توليفة للحبكة الدرامية للنصوص المجموعة، أي أنها جاءت مسترسلة في فترة محددة، منها ما يحاكي ما عاشه الكاتب و منها ما يخالج ذهنه قبل النوم، فهي تأملات وإرهاصات واقعية ووجدانية.
جاءت قصص المجموعة بلغة سردية سهلة، مركزة وفصيحة بلا تقعر أو تعال وفق إيقاع سريع خال الروابط أو التكرار. وبفضل كثرة استخدام الأفعال في النص الواحد من قبيل « خيبة أمل « حيث نقرأ ( رأى فيها الزوجة ( الطائرة) التي تُعرج به في سماء المجد، و لما اقترب هذا ( الربان) اكتشف أنها تُحلق بدون طيار) محاولا معالجة هموم و خيبات الناس والصراعات الداخلية التي يتغبطون فيها، جاعلا من القارئ جزءا لا يتجزأ منها، مما أعطى لها عمقا و نفسا كبيرا بكل حكمة وترو، كما أنه استخدم اللهجة العامية أحيانا ليضفي كثيرا من الواقعية على بعض الحوارات « القنب الهندي « الذي يستعرض فيه قضية المخدرات وتداعياتها، حيث يقول ( الله يغبر ليك ( الشقف ) … هذا أبي يدعو لي بالخير … في ضياع الشقف تتوقف عملية تدخين ( الكيف )../ ) و كذا نص « علاء الدين و المصباح « ( شبيك لبيك، المصباح بين ايديك، ينير ليلة سيدي حتى يطيب نعاسو .. أجاب علاء الدين : كون كان الخوخ يداوي كون داوى راسو ). إلى جانب هذا فقد اعتمد حسن برطال في بعض نصوصه على النزعة الجمالية للغة العربية المتجلية في اللعب بالألفاظ كنوع من الانزياح اللغوي الذي أضفى على تلك النصوص إيقاعا فريدا وعجيبا في نفس الوقت، ( طلبت مني إضافة شيء إلى المجال ( الأزرق) في لوحتها، و لما رسمت السلمون سألتني: هل السمك يطير ؟ حينها أدركت أنها رسمتْ سماء وليس بحرا ../ ) ص 48 . ولعل أبرز ما يميز اللغة التي بنيت عليها هذه المجموعة هو خاصية التكثيف و الترميز تاركا للقارئ اكتشاف ما يود تبليغه، لدرجة أن هناك بعض القصص تبدو كأنها رواية مصغرة من شدة تكاثف الدوال اللغوية والأحداث والتفاصيل كما هو الحال مع نص « من دلجة إلى الفرات «، ( من المعتقل، سألها عن البنات ، فلّة، نرجس وياسمين، فكلمته عن حدائق بابل المعلقة ../ ) و على مستوى استخدامه للضمائر المتكلمة، فقد اعتمد على ضمير الغائب مركزا فيه على الفعل الماضي الذي يدل على أن الحدث انقضى وزال وأصبح في تعداد الذكريات ودرسا وعبرة للحال و المستقبل، ( تكلم الأستاذ عن جغرافيا القصيدة وبحورها ولما طلب نموذجا بـ ( بحرين ) ، التلاميذ رسموا خريطة المغرب ../ ) ص 56.
وبقراءة سريعة لعناوين القصص المائة وواحد بالمجموعة، نلاحظ أنها قد اختيرت بدقة وعناية مركزة، كونها تأخذ القارئ من أول وهلة، متسائلا عن سر موضعها، سواء جاءت كلفظة واحدة ( كمين – السند – ميسي – القياس – PCR – مناورة – رغبة – جدتي – الحراز – كورال – الحمال – الطاحونة .. ) أو من لفظتين ( خيبة أمل – سرير العوم – شهادة زور – الناخب الحكيم – تقرير زيارة – الارهاب و السحاب .. ) أو كجملة من ثلاث أو أربع مفردات ( قصة حذاء و رجل – غير قابل للاشتعال – قبل النوم بقليل – منظمة الرفق بالطفولة … ) إذ أن كل عنوان يحمل دلالة قصة و يكشف عن بنيتها العميقة التي تعكس إشارات تمر بحياتنا دون أن نلتفت إليها أو نعيرها اهتماما، كما تعكس صورة من صور الحياة التي أضحى الإنسان العربي بصفة عامة يعيشها. ومن بين العناوين المثيرة « الوسادة الخالية « التي تلتقي وقصة الكاتب المصري إحسان عبد القدوس « الوسادة الخالية « التي تم إخراجها على شكل شريط سينمائي كان بطله العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ، بحيث لدى قراءة عنوان القاص حسن برطال انتابتني تساؤلات عديدة، هل هو تناص أو مجرد تشابه، فقصة إحسان عبد القدوس تقر بأنه ليس هناك حب أول، و أن الحب الحقيقي هو الذي يتقاسم معك حياتك ويعطيها طعم الحياة، في حين قصة برطال تقر أن حنان الأم لا نظير له بحيث أن الفتاة كانت تجد في ذراعي والدتها كل الدفء والحنان وعندما بترتا فقد ذلك الحنان ( الأم تفقد ذراعيها في حادث شغل وطفلة إلى جانب هذا الجسد المنهك تبحث في سرير النوم عن الوسادتين الناعمتين ).
استثمر حسن برطال في مجموعته القصية القصيرة جدا « قبل النوم بقليل « قصصه من خلال أحداث ووقائع لتبليغ مجموعة من الرسائل المشفرة ذات الدلالات العميقة، من قبيل « قبور الأثرياء « التي تجسد الجشع والطمع الذي استفحل في قلوب الناس لدرجة قتل الأخ لأخيه ( أكدت له العرافة على أن الكنز سيكون في قبر أخيه، فعجل بقتله ليصل إلى مكان دفنه) كما نسجل مفارقات مفعمة بالسخرية في نصوص يتخللها التلاعب بالكلمات والألفاظ ( الويفي) و (الكويفي ) في نص « النرجيلة الرقمي « حيث جعل من مادة الكيف المخدرة وسيلة لنقل مستعملها من العالم الواقعي للعالم الافتراضي كما هو الحال مع الويفي، مقاربة ومفارقة جميلة مفعمة بسخرية حلوة، على نحو ما نجده أيضا في قِصة “الناخب الحكيم ” التي تنتقد لغة وسياسة الانتخابات المليئة بالوعود الكاذبة، وما تفرزه من كائنات انتهازية، فيما نسجل مجازا حكائيا طافحا في نصوص استثمر فيها لغة الحيوان للتعبير عن حالات اجتماعية وإنسانية، على نحو ما هو في نص « عصابة الكلاب « ص 34 و كذا في نص « الكلب و الذئب « التي أقر من خلالها باستخدام الإيحاء والتلميح على أن معرفة طينة الإنسان وحقيقته لا تتجلى إلا من خلال المعاشرة والمواقف الصعبة، يقول ( الشقيقان اللذان صعب علي التمييز بينهما، كلماني اليوم فلاحظت الفرق حينما الأول نبح و الثاني عوى) .
اختصارا، يمكن القول إن مجموعة «قبل النوم بقليل» لحسن برطال تعد واحدة من بين أهم مجموعات القصص القصيرة جدًّا التي تجسد الكتابة الإبداعية لهذا الفن السردي الرزين والوافر في المعاني و الدلالات الرمزية، والتي حاول فيها الكاتب انتقاد مجموعة من المواضيع الآنية وفق أحداث قد تكون مشوقة أو مستفزة للقارئ، ومثيرة أيضا تدفعه إلى لذة الكشف، فيعيد القراءة مرة ومرة حتى يخرج بنتيجة منطقية قد تغنيه عن تساؤلاته، هي مجموعة تستحق القراءة فعلا وتستحق أن نستكشف كنوزها ودلالاتها.


الكاتب : محمد الصفى

  

بتاريخ : 23/08/2022