أصدرت دار النشر «ملتقى الطرق» بالدار البيضاء طبْعة جديدة- أخيرة من كتاب الراحل محمد أركون (1928-2010) «قراءات في القرآن». ومن المعلوم أنّ الطبعة الأولى من هذا الكتاب كانت قد صدرت سنة 1982 عن منشورات «ميزون نوفْ ولاروزْ» «1982. هو مؤلف عرض فيه محمد أركون لما يعتبر موضُوعات دائمة الراهنيّة في مجتمعاتنا العربية مثل كيفية قراءة النصوص القرآنية وتأويلها في سياقاتها التاريخيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينية والنفسية ضمن شروط الدعوة الإسلامية، علاوة على موضوعات دائمة الجدل مثل الشريعة ووضعية المرأة والجهاد والإسلام والسياسة، الإسلام والمجتمع، العجائبي والاستعارة، الخ.
يتضمّن الكتاب مقدّمة للطبعة النهائية بقلم السيدة ثريا اليعقوبي أركون، زوجة الفقيد ورئيسة مؤسسة محمد أركون للسلام بين الثقافات، التي تعتبر أن الكتاب الذي نقحه الراحل على مدى 20 سنة، كان هو الكتاب الأقرب على قلبه، وبالتالي، فقد كانت دائما تشجعه على إعادة نشره، وإضافة مختلف التعديلات التي أعدّها وبقيت رهن حاسوبه. وبالتالي، فقد كان أركون يعتبر هذا الكتاب بمثابة الخيط الناظم لأعماله، وقد كرس السنوات الأخيرة من حياته لإغنائه وإدخال تعديلات عليه. وتمكنت أرملته، ثورية يعقوبي أركون، من جمع النسخ الأخيرة من هذه النصوص من أجل جعل هذه الطبعة النهائية ترى النور.
ترتكز هذه الطبعة على النسخ النهائيّة لمختلف الفصول التي راجعها وعدّلها أعدّها أركون قُبيْل وفاته، كما تتضمّن أربعة فصول يتمّ نشرها للمرّة الأولى هي: «الدين والمجتمع حسب النموذج الإسلامي»، «الوحي، التاريخ، الحقيقة»، «من أجل قراءة ميتا نقديّة لسورة التوبة»، «النظام الاستعاري للخطاب القرآني».
وحتى بعد أن يتمّ تثبيتها كتابة، فإنّ الروايات والأخبار التي دوّنها المفسّرون وأصحاب السّير النبوية والمؤرخون ورواة ومدوّنو الشعر، يلزم دراستها وتحليلها بعد إرجاعها إلى الشروط الأوّلية التي شهدت ظهورها ومُمارستها لدوْرِها داخل السياق الشّفهي.
ولتوضيح هذه المسألة، نأخذ مثاليْن من بين الحكايات والأخبار التي يوردها الطبري: هناك أوّلا قصّة الحيّة التي تظهر فجأة في الغرفة في اللحظة التي أوشك فيها عمر بن الخطاب على تقديم الدلالة النقصودة من كلمة كلالة. يقول الطبري: حدثنا أبو كريب ، حدثنا عثام عن الأعمش عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: «أخذ عُمَرُ كتفا وجمع أصحابَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لأقضينَّ في الكلالة قضاءً تحدّث به النساء في خدورهن. فخرجت حينئذ حية من البيت، فتفرقوا، فقال: لو أراد الله ، عز وجل ، أن يتم هذا الأمر لأتمّه».
وهناك، ثانيا، حكاية النبيّ الذي راحَ يتوضّأ ويرشّ بماءِ وُضُوئِهِ جابر المُغمى عليه: «رُوِيَ عن جابر بن عبد الله قال: مرضت وعندي تسع أخوات لي، فدخل عليّ رسول الله فَنَضَحَ في وجهي من الماء، فأفقت فقلت: يا رسول الله، ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: أحسن. قلت: بالشطر؟ قال: أحسن ثم خرج وتركني. ثم رجع فقال: لا أراك ميتا من وجعك هذا، فإن الله أنزل الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين. وكان جابر يقول: نزلت فيّ هذه الآية «يستفتونك قُل اللهُ يفتيكم في الكلالة».
من المعلومِ أنه حين يتأمّل المرْء في هذيْن المثاليْن جيّدا، يتبيّن له أنّ هذيْن الخَبَريْن لا يُثيرانِ أيّة تساؤلاتٍ نقديّة من طرف المستمعين باعتبارهما حكايتيْن شفهيّتيْن. بلْ بالعكس، إن هؤلاء يدخلون في دائرة العجائبي، أيْ في الدائرة الغريبة والسحرية للدلالة حيث الأفكار والوضعيات تتلقى مباشرة دلالة مؤكدة ونهائيّة وغير قابلة للنقاش.
أمّا عندما ننتقل من الشفهيّ إلى المكتوب، فإنّ الانطباع الذي تعطيه هذه التدخلات «العجيبة»، سرعان ما يفقد تدريجيًّا قوّته، وبالتالي وظيفته إلى درجة أنّ القراءة النقدية والعقلانية تبعده نهائيّا باعتباره ينتمي إلى الخرافة والحكايات، أيْ إلى ظواهر تطبع الوعي الأسطوري ونمط المعرفة الملائمة له.
ومن ثمّ، فإنّ كلمة «الكلالة»، في السياق الميثولوجيّ يمكنها أنْ تظلّ غير محددة، ومرتبطة بميدان الأسرار الإلهية التي لم يشأ الله أن يكشفها للإنسان ويطلعها عليها. وبالتالي، فإنّ غموض هذه الكلمة يغدو حجّة وبرهانًا من أجل تعزيز وتقوية الإيمان والثقة في القضاء والقدر. من هنا إذن يقيس المرء حجم القطيعة المعرفية عندما ينتقل إلى «العقلي الكتابي» (على حدّ تعبير جاكْ غودي) الذي يُفضي إلى القيام ببحث دقيق حول سرٍّ ينبغي إيضاحه مهما كلّف الأمر.
غير أنّ الفقهاء والمفسرين القدماء يحتلون مكانة وسطى بين هذين النظامين المعرفيين. ذلك أنهم يُدوّنون الأخبار في صيغتها الشفهيّة الأوليّة، وينقلون جوهرها ومقاصدها، إلّا أنهم يفرضون مع ذلك حلولا براغماتية من أجل الوصول إلى إعداد نسقٍ وظيفيٍّ، هو الشريعة. والحال إنّ هذه النقْلة من الشفهيِّ إلى المكتوبِ هو الذي يهمّ اليوْمَ علم النفس المعرفيّ واللسانيات وسيميوطيقا تَشَكُّل المعنى، وبالتالي يهم نقد المعرفة التي ينطوي عليها التفسير القرآني والفقه الكلاسيكييْن.
إنّ المشكل الحقيقيّ إذن هو الفَرْق بين المعنى القارّ، الجوهريّ، المضمون من طرف الإله، وبين آثار المعنى في المحكيّات والممارسات الخطابية التي تتغير بحسب النظام المعرفيّ. إنّ آثار المعنى الناجمة عن الأخبار التي يوردها التفسير التقليديّ تمثّل بالنسبة للوعْي الإيماني معانيَ لا ينبغي المَساس بها، مليئة بالعجائبيّ والغرائبيّ، بلْ هي معانٍ متعالية وقدسيّة، غير أنّها بالنسبة للعقل النقدي الحديث تغدو عبارة عن آثار معنى سرعان ما تمّحي وتزول بمجرّد إعادة العجائبي والغرائبي المحايث للمعرفة لكلّ معرفة أسطوريّة إلى إسقاطاتها البشرية. وضمن هذه الشروط التاريخية، فإنّ الجدل القائم بين الفرد المؤمن والإنسان الباحث سيرتطم لا محالة بالباب المسدود إذا لم يسمو إلى مستواه الأكثر صلابة وصحّة، أي إلى تلك التركيبة النفسية التي تتصل، دون شك، بكل نظام معرفيّ. ومن المعلوم أنّ الشروط التي تعمل على استدامة وتكرار هذه التركيبة، والنظام المواكب والمصاحب لها، إلى ما لا نهاية، إنما تتجلّى في التقيّد الصارم بالقوانين والتعاليم والشعائر التي تفرضها الديانات.
ومع التزايد والتوسّع السوسيولوجي اليوم للإسلام، تتزايد الأمثلة المتعلقة بالتركيبات العاطفية والتخييلية التي تمارس دورها، على غرار الأخبار والحكايات المتعلقة بالكلالة أو تساميها من زاوية الوعي الديني.