قراءة في ديوان « ليل ومقال «للزجال أمين زكنون

خطاب العتبات وشعرية السواد

 

التقيت الشاعر أمين زكنون أول مرة بمهرجان تساوت بالعطاوية، لم أكن أعرفه ولم أكن قد سمعت به من قبل، ولكن قصائده هي من عرفتني عليه. تجربة شعرية اختارت الزجل، لينطلق ببوحه في سمائه، ويفرض اسمه في عالم الزجل بالمغرب. الشاعر أمين زكنون من التجارب الزجلية، التي اختارت في بوحها قاموسا زجليا يسهل فهمه، ليلامس شعور جميع الشرائح الاجتماعية المغربية بمختلف ألسنتها، مبتعدا عن كل معجم من شأنه أن يجعل التواصل مستحيلا. إلقاؤه لقصائده جعلني أصفق له إعجابا وليس مجاملة، أهداني ديوانه الزجلي ( ليل ومقال) ليميط اللثام عن هذا الشاعر الذي يحفر اسمه بتأن في تجربة الزجل المغربي. عنوان الديوان جعل الفضول يلبسني ويشدني – أنا العاشقة لليل – إلى العتبة الأولى للديوان، التي يقف عندها المتلقي بصريا قبل أن يفتح الدفتين على القصائد، غلاف موشوم بالسواد، ذلك السواد الذي يحيلنا مباشرة إلى دلالات عدة، فهو لون الغموض والتحدي، لون العمق والتمرد، ولون الإرادة القوية، كما يعتبر في علم النفس حاجزا بين الشخص والعالم الخارجي المحيط، فيوفر له الراحة.
استحضار الڭمرة ( القمر) في الغلاف لم يكن اختيارا عشوائيا، فهي ملازمة لليل لا تفارقه إلا عند الشروق، بزوغ فجر يوم جديد لتذوب في ضوء النهار، هذا الجزء من القمر المثبت في الأعلى يسار الغلاف يمثل الجانب المشرق فيه، إذ معه نحس بالهدوء والراحة ومعه فقط يطيب السهر، وكأن الشاعر يريد هنا أن يبرز لنا عبر قصائده جانبا منه، ويحجب عنا جانبه الآخر الغامض المتوارى، ليجعلنا نتيه في بحر التخمينات، كي نستلهم دواخله ونبلغ مقصديته الثاوية  ونكشف عما تكتنزه خلفيته المعرفية، وما يعيشه من أفراح وما يُعانيه من هموم وأحزان.
بعد الغلاف تستوقفنا العتبة الثانية (العنوان) وقد كتبت باللون الأبيض، باعتبارها دلالة على الإشراق، فاللون الأبيض يمثل المنقذ من الظلمة، ومؤشر على نهاية دورة وبداية أخرى في الحياة، وقد توسط بين الخبر « الليل « والمعطوف « مقال « واو العطف الذي كتبت باللون الأحمر إذ يشكل فاصلا بين الأبيضين، ليضفي نوعا من الراحة والدفء والإشراق، في إشارة إلى المشاعر القوية التي يحملها الشاعر أمين بين طيات قلبه. العنوان، في شقه الأول، تأكيد عما جاء في الغلاف؛ الليل الذي يمثل مرآة الشعراء، فيه يحلو السهر، وفيه وجد الشعراء منذ القدم ضالتهم، فيه يحلو البوح، هو أنيس لهم كلما اشتد بهم العشق، هو الهيبة والسكون، هو الدفء والبرد، هو الخوف والراحة في آن واحد، فيه تجتمع كل المتناقضات، ليعتبر ليل الشعراء موردا للهموم والوحشة والحب بكل تجلياته، وهو الذي أخذ صورا مختلفة في خيالهم، لتأتي كلمة «مقال» للدلالة على أن هناك الكثير مما يقال، كي نستعد لتلقي ما سيكشف عنه لنا لاحقا، وهو مجمل ما باح به في قصائده، يقول الشاعر:
كلت نكون
ضلمة باهتة هشيشة
تغزل مجدول الليل
ب ريشة
تهرس فالكاس
كمرة
تغرس ف الفجر
جمرة
هنا يستعير الشاعر من الليل ظلمته، ليغزل بها الليل، وهو الشاعر الهش الإحساس والحائر الذي يعيش حالة تيهان، ويتوق أن يكون قمرا حرا يعيد للفجر التوهج الذي اغتاله الليل، حلم من بين أحلام عدة يراوده حتى يستعيد ذاته المفقودة ليعانق الحياة، اختيارات شتى لبسها ليترك نفسه مفتوحة في النهاية على الحياة.
وتستمر رغبة الشاعر القوية في أن يعيش وحدته، رفيقته الظلمة التي أخذت مقام الحبيبة فوجد في لون عينيها وفي سوادهما ملجأً، يقول:
كالس وحدي
أنا وظلمة
بلون عينيك
مدرحة
وحدة الشاعر وحبه لليل جعله يناجيه ويلجأ إليه ويخاطبه، وهما اللذان ألفا بعضهما. يعاتب الليل لتأخره في النزول، مستحضرا ما خلفه هذا التأخير من أثر في نفسه عما يحيط به من قمر وظلمة، هذا التأخير يخلف في داخله إحساسا بالوحدة في كل مرة يغيب عنه، يقول:
خليتي الظلمة
وحيدة
لونها نكاب
على خد الكمرة
كحلها غاب
تستمر مناجاة الشاعر لليل حبا فيه، طالبا ومتوسلا إياه أن ينصهر معه ليصيرا ذاتا واحدة كي يطول. فالشاعر لا يريد أن تشرق الشمس، وعشقه لليل جعله يطلب منه مرات ومرات أن يسكن فيه، عله يجد ذاته التائهة منه فيه، يقول:
غيب فيا يا ليلي
وسكطر سكاتك
نجمة نجمة
عاسه على الظلام
….
غيب فيا يا ليلي
ولا تكيد شمسك
ما تخفيها
ما تطفيها
خليها تزند
راها فحر الخيال …
أمام قصيدة عيطي عليك والتي تحمل بين حروفها رغبات الشاعر، هي رغبات لذيذة تُدخل الفرح على قلبه، أمنية يتنقل بها على طول القصيدة، عله يشرق فجرا من رماد الليل:
ما كرهت نكون
شعا…
ننقي تبسيمتك
من الضباب
ماكرهت يصدقني الدعا
ونطير بيك
يا فرحتي
فوق السحاب
وحدة الشاعر جعلته يلجأ للظلمة متخذا منها ملاذ آمنا له، فألبسها ثوب القصيدة، ليجتمعا معا في حب واحد، يقول أمين زكنون:
كالس وحدي
معنك الظلمة بعيوني
وب رموشي عاض فيها
حروفها دافية ف شوني
وعركانة فدواخلي قوافيها
حتى ولات مزاحمة ف لوني
وما بقا الليل كافيها.
تستمر مناجاة الشاعر راجيا الليل أن يطول، لأن زمنه المحدود لا يكفيه كي يبوح له بكل ما يكمن بمختلجاته، فجرت الحيرة عنده ليجعل الليل في مقارنة مع النهار، يقول:
ماقدنيش هاد الليل
خلاني محتار…
يمكن يقول قليل؟
قل زعما من النهار؟
تواردت صور الليل إلينا عبر كل قصيدة، هذه الصور تتقلب من قصيدة إلى أخرى وتتقلب معها نفسية الشاعر، لنعيش معه حالاته التي تتأرجح بين فرح وحزن وتيهان، مما يدل أن الشاعر يمتلك رصيدا لغويا غزيرا جعلنا نرحل معه عبر مسارات خطابه الشعري الزجلي، منذ بداية كل قصيدة وحتى نهايتها في رحلة عشق واستمتاع لا متناهية.


الكاتب : إلهام زويريق

  

بتاريخ : 18/07/2023