البحث «في غرفة مظلمة عن قبعة سوداء»
من الواجب علي، في هذه الورقة، أن أقدم لكم صورة ولو تقريبية لحسن إغلان، الروائي والقاص والباحث والإنسان، ولن أجد أبلغ ولا أجمل من الصورة التي التقطها له الناقد والمثقف الجميل عَراب الكُتاب المغاربة، الأستاذ نجيب العوفي:
« وجه وديع، سمْح، يشِفّ عن نبل صاحبه وصفاء روحه، ولسانُ مثقف أريب، يخوض بك في فنون الحديث وشجونه، وأفقٌ معرفي موسوعي وارف، يرتحل بين ضفاف الفكر والفلسفة وضفاف الأدب والإبداع. بالإضافة إلى لين معشره ورقي طباعه وخصاله، كإنسان قبل كل شيء، يغمره الشرط الإنساني بتعبير أندري مالرو. وفي وسطنا الثقافي والأدبي العليل الطافح للأسف، بالحرافيش والانتهازيين والمشائين بنميم، يبدو حسن إغلان عملة ثقافية نادرة، وطائرا في غير سربه. وتلك إحدى نقاط القوة في شخصية حسن، القوة الإنسانية والفكرية والإبداعية الهائلة والهادئة التي تتحرك كالنهر الهادئ، بلا جلبة أو ضوضاء».
أعتز بهذه الشهادة الصادقة في حق صديقي حسن، القاص والإنسان، وأضيف إليها أن حسن، كما عرفته وأعرفه، قارئٌ مثالي ومستمع متذوق، صبور ومواظب، يعشق الكلمة بشكل فظيع، ذو مَلكة نقدية متميزة، بإمكانه العثور والتعرّف على كنوز الأدب العربي، في الماضي والحاضر.
1- البحث عن شيء
تعرفه ولا تعرفه
«البحث عن مناضل» هو ثالث عمل روائي، صدر سنة 2024، للكاتب إغلان، وهو نموذج للرواية التجريبية النفسية السياسية.
بدون مقدمات، تقدم الرواية نفسها للقارئ، ككتلة لغوية واحدة، بدون تقسيم إلى فصول أو مقاطع محددة، وبدون محطات استراحة. خيط واحد متقطّع، يفرض عليك لتفهم ما وقع، أن تتمسك به، وأن تتابعه من البداية إلى النهاية، بدون توقف ولا تردد، طفرة لغوية واحدة، بدون مقدمة ولا خاتمة. وبالتالي، ليس للنص بداية ولا نهاية، في تداخل عفوي وآني للأمكنة والأزمنة والأحداث والذكريات والحكايات والشخصيات، والثيمات. رواية متداخلة الأركان والأبواب والنوافذ، معلنة منذ بدايتها أنها ليست تقليدية ولا واقعية ولا شبيهة بالأخريات.تبحث لنفسها عن موقع ضمن الرواية المغربية الموسومة بالتجريب، بصفة خاصة. تحاورك بأسلوب استبطاني، شفاف، بكل ما يعنيه الاستبطان السردي، من استعراض أحداث سالفة واستعراض الحالات النفسية والظروفَ التي تسببت في وقوعها، ومحاولة تأطيرها وتطويرها من خلال استمالة الذكريات.
إن الإيقاع الذي اختاره حليم العلوي، راوي هذه الرواية، لعزف ذكرياته، سيفرض علينا انتظار الصفحة 101 ليقدم لنا مشروعه:
(سأكتب مذكراتي، كما نصحني الطبيب… ثم من أنا حتى أكتب مذكراتي، لست سياسيا كصديقي المناضل والوزير توفيق الفكيكي الذي فقدناه مؤخرا… أنا لست بطلا ولا أرغب في أن أكون كذلك، رغبتي كلها متمركزة حول طرد الأرق الذي يأكلني… وحتى إن كتبت مذكراتي فهي لا تعني أيا كان، تعني مشكلتي، وبالجملة، فالمذكرات تخصني وحدي، أنا «حليم العلوي» رجل الأعمال الناجح، والبورجوازي الوطني، والراغب في شراء مناضل كي يسلي عزلته، ويفجّر الأشباح التي تطارده…علي أن أكتب كي أعيد إلى جسدي توازنه. أذكر أني قرأت مجموعة من المذكرات التي طفت على السطح المغربي بعد التصالح الملتبس بين المخزن ومعارضيه… مذكرات الاعتقال السياسي، مذكرات سجن تازمامارت، مذكرات المنفى، مذكرات رجال السياسة. كلها تحتفي بالأكاذيب… سأقوم بتجريب نصيحة صديقي الطبيب. لدي الحرية الكاملة في قول ما أريد. سأكتب عن هذا الآخر الذي هو أنا، سأعرّيه كلَّه…).
إننا أمام عمل سردي يمزج الفن الروائي القائم على كتابة المذكرات بفن السيرة الذاتية، سيرةَ حليم العلوي، ابن الحاج الدولار، كما نعت نفسه ذات مرة، سيرةَ شخصية خيالية، تَسرُد وتكتب في نفس الوقت، فلا تكاد تفرق بين فعل الكتابة وفعل السرد الشفهي، الكتابة بصفتها سردا والسرد بصفته كتابة، راو بخلفية أدبية وفنية وثقافية وفلسفية متميزة، رغم ادعائه أحيانا بأنه لا يفقه في الفلسفة ولا في الأدب، باعتباره مُفرنسا، تتلمذ بمدرسة ليوطي بالدار البيضاء، وتخرّج من معهد البوليتكنيك بفرنسا، هو رجل الأعمال، المالك لعدد من المؤسسات، من معامل للنسيج والأدوية والإسمنت والفنادق والقرى السياحية، والعقارات الأخرى، بالإضافة إلى استثماراته في الخارج… الآن، تصوّر معي، هذا الشخص، بهذه المواصفات، يبحث عن مناضل، بل يريد أن يشتريه؟ ألا يخفي عنوانُ هذا العمل شيئا؟
مع تسجيل أن ما كتبه عن تحركاته وأفعاله (الأحداث) ضئيل، لا يتجاوز السفر إلى هنا أو هناك، شرب قهوة أو كأس فاخر في هذه المقهى أو تلك، في هذه الحانة أو في هذا المطعم أو ذاك… ويبقى الحدث الأكبر، المهيمن هو الإقبال والعكوف على كتابة مذكراته، وهي مزيج من ذكريات وتوثيق لأحداث شخصية ومونولوجات تأملية وحوارات عابرة وأسفار سياحية، يبقى تدوين الذكريات هو الحدث المهيمن على النص.
يلعب إذن «حليم العلوي»، دورين في الرواية: دور الراوي/ الكاتب لمذكراته ودور الشخصية الرئيسة المتحركة داخل متن الحكاية. الرواية إذن هي رواية مذكرات، وفي نفس الوقت رواية نفسية/سياسية، تمزج الذاتي بالسياسي، والوظيفة العلاجية بالكتابة، وهي أيضا، سيرة ذاتية للراوي، الكائن الورقي أو اللغوي، إنه فعل مقصود من طرف إغلان لتكسير القاعدة الثلاثية العامة التي تفترض وجود تطابق بين شخصية الكاتب الفعلي وشخصية الراوي والشخصية الرئيسة، لتتحقق السيرة الذاتية.
وكما يتذكر حليم، فأهم حدث بلور شخصيته وأنضجها هو تردده، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، على دار المغرب بباريس، التي كانت تعج بالطلبة المغاربة والعرب المناضلين، من مختلف الأطياف، وخاصة منهم الطالب والمناضل توفيق الفكيكي واحماد السوسي، الأول كان عضوا بخلايا ثورية، انقلابية تدرب على السلاح في الشام وساهم في تهريبه على الحدود. دخل المغرب بعد عفو ملكي واستوزر ثم عين سفيرا للمغرب بدولة بأمريكا الجنوبية إلى أن نعته الدولة والحزب بكل تقدير واحترام. والثاني حصل على منصب أستاذ جامعي بالمغرب، بعد أن مرّ بتجربة شبيهة لتجربة الفكيكي، والشخصية الثالثة هي الطالبة اللبنانية، الصحافية والمناضلة، التي سحرت الراوي وزوْبعت نفسيته ورؤيته للعالم، مراسلة إعلامية وأدبية ومناضلة حقيقية، بعد تخرجها من جامعة السوربون قسم الآداب انخرطت في السلك الديبلوماسي ممثلة لبلادها وسفيرة للبنان بكاراكاس، قبل أن تصبح كاتبة روائية، كتبت روايتين. بالإضافة إلى ليلى التي تعرف عليها أيضا بدار المغرب، الطالبة القادمة من آكدير، ابنة أحد مستثمري الصيد بأعالي البحار، صحافية مجازة، أسرته عيناها فتزوجها… وأنجب معها ثلاثة أولاد وبنتا اسمها صوفيا، الطبيبة، التي سيهديها، بعد مناقشة أطروحتها مستشفى ضخما، بناه لأجلها بالرباط.
منذ الصفحة الأولى من الرواية، ومنذ السطر الأول منها، يحاول الراوي أن يثير استعطاف المروي له ().
(لم يعد المغاربة يحتجون، كما كانوا في السابق. هذا يؤلمني فأصاب بالأرق… أرق دائم لا أقوى في ظله على التفكير والتأمل ولا حتى على السفر… يخيل لي أن المغاربة ماتوا… أخرج منتصرا من كل المعارك التي تجابهني، حتى في الحوار مع الحكومات والنقابات. كانوا قد عرضوا علي منصب وزير، فرفضته في سهرة باذخة أعددتها لتيسير أعمالي). يمكن أن نقول إن هذه الطريقة البهلوانية التي يستخدمها الراوي لامتلاك اهتمام وإعجاب المروي له، قد أتت أكلها، لأننا، هنا، كما يقول علم السرد، نتواصل مع الراوي من خلال مروي له، يبدو متواطئا، يشارك الراوي قِيمَه الفكرية والثقافية، وربما، حتى الطبقية، لا يعارض ولا يندهش ولا يتأفف ولا يتساءل إلا نادرا. يبدو أنه شديدُ الإعجاب به. وربما لذلك لا يتوقف الراوي عن التباهي والشكوى في نفس الوقت.
إن كان قدر الراوي، ومن ورائه الكاتب الفعلي، لرواية «البحث عن مناضل»، محكوما بالانسياق وراء إشكالية وجود المناضل (أين أجد مناضلا؟) فإن نفس القدر سيتحكم في أي قارئ، يسعى للتّعرّف على شخصية الراوي «حليم العلوي»، والذي رغم أنه لا يتردد في تقديم نفسه، والتصريح بممتلكاته وعقاراته واستثماراته، في الداخل والخارج، وبجميع المواصفات والخصائص والنوايا التي تخصّه، من الاسم الشخصي إلى أصله العائلي إلى حالته الراهنة (راهنه)، يظل هناك ستار غامض يحجبه عنا، ستار من التناقض والتصورات والأزمنة المنكسرة بالإضافة لما يعانيه من الأرق المزمن، الذي يطوق تفكيره وحركاته وأفعاله وتمثلاته الذاتية. إذا جمعناها جميعا، تفرز لنا عقدة نفسية غامضة ومتوارية خلف عناده، وخلف جدارِ وضعِه الاجتماعي المحكم، المفارق للنضال وللصراع الطبقي معا. وبالتالي، كيف لثري باذخ الثراء أن يبحث عن مناضل؟ أن يحتاج مناضلا؟يقول في الصفحة 14: (ما زال الليل يستبد بي، يحرر الحكايات القديمة من ذاكرتي، حتى وإن كنت على مسافة قريبة من السبعين، سبعون سنة تلامسني كما الأرقُ الذي تسلطن على كياني… لا أنام. عرفت مصدر أرقي منذ أكثر من عقد من الزمان، هو غياب الاحتجاج في جميع المؤسسات التي أملكها).
أزمة حليم أزمة وجودية، محملة بمجموعة من الآراء الفلسفية والاستقصاءات التي تكشف معاناته، من أجل أن يعيش حياة حقيقية، رغم عبثية الوجود وغموضه. تدفعه من أول سطر في الرواية إلى آخر سطر، للبحث عن «مناضل» حقيقي، يمنحه كما يقول، معنى لوجوده ولحياته. بغض النظر عن كون المناضلين، كما يراهم هو نفسه، قد أصبحوا جزءا من الذاكرة، (علقوا أحذيتهم وسراويلهم على حبل غسيل الذاكرة. عوضت الدولة غالبيتهم، وانكمشوا بين الصور والذكريات. ص. 49)، مما يعكس تحوّلَهم إلى رموز فانية.
ـــ ص 48: (إن الحل الأرقى هو شراء مناضل مخضرم، تتلمذ على يد مناضلي المرحلة السابقة، ويعيش نضجه في العالم الافتراضي). بهذا الأسلوب يريد حليم أن يقنع المروي له والقارئ بصدق مسعاه، وأن ما يقوله هو الحقيقة، وأنه لا يخفي أي شيء.
وعليه تظهر الثيمة الأساس للرواية بوضوح،إنها: «البحث» (في غرفة مظلمة عن قبعة سوداء)، البحث عن مناضل منقرض أو غير موجود، يتمظهر، أحيانا، في النص كصورة قديمة أو كطيف شارد أو كرمز وطني، يمكن أن يسمى «المهدي بن بركة»الذي كان حليم لا ينفك يتردد على مقهى «ليب» الذي اختطف منه المهدي أو كقيمة مندثرة، تجعلنا نحن القراء نقتفي أثر الراوي، عسانا نستدل معه على المناضل. هذه الحالة الغامضة أو الغريبة، الناتجة عن غياب هذا المناضل، أصابت حليم بأرق مزمن، سيطر على جسده وفكره طوال الرواية. الأرق هنا، أيضا، حالة وجودية وفكرية تهيمن على رؤية حليم للعالم، العالم الذي أصبح يتمظهر له كمرآة لتمزّقات ذاتية وانفصام عن واقعه الفاخر، فلا يجد لإخفاء هذه المرآة سوى الهروب والسفر والسياحة ومعاقرة الخمور، وريادة الحانات والمطاعم الفاخرة في باريس وإيطاليا وسويسرا وغيرها،من أجل أن يشرب شرابها وينزل بفنادقها ويعاشر نساءها وكأنه لا ينفك يردد مع الشاعر فرناندو بيسوا:
(أنا لا أنام لأنني لا أستطيع أن أتوقف عن التفكير، ولأنني لا أستطيع أن أتوقف عن أن أكون).
إنه الأرق المرافق للشعور العميق بالعبث والفراغ. أرق داخلي. أرق روحي ووجودي، يتجلى بوضوح في بنية النص نفسه، في اضطراب الشعور بالحياة. والأرق أيضا هو المبرر الوحيد الذي حفّز حليم لكتابة مذكراته. في أحد لقاءاته بصديقه وطبيبه النفسي المغربي، وبعد أن بسط أمامه حالته المؤرقة مع الأرق، اقترح عليه هذا الطبيب علاجا ممكنا لطرد كوابيسه، يقول في ص 95: (وذلك عبر دفنها في الورق، أي أن تكتب مذكراتِك… وكي تكون أقرب إلى مشكلتك، سمّ مذكراتَك: ب «أريد شِراء مناضل»..) وعلى هذا الأساس، سيصبح حليم العلوي هو الكاتب الحقيقي لرواية البحث عن مناضل، تنفيذا لوصفة طبيبه النفسي.
يعمل حليم على التوثيق المكتوب للأحداث والذكريات والمونولوجات وتقديم الشخصيات وتوثيق حواراته معها، والكل يمر عبر التذكّر، بما في ذلك الأحداث والأزمنة والمدن والمطارات والمقاهي والحانات والفنادق والدار الكبيرة بالدار البيضاء في المغرب والشقة المفروشة في باريس وحتى اللحظات الحميمة مع زوجته أو صحبة نساء عابرات… كل شيء يمر من هناك، من مصفاة الذاكرة أو بالأحرى عبر الزمن الذاتي لحليم المتأثر بحالته النفسية ومعاناته مع الأرق، وتراكم ذكرياته وانفعالاته، زمن لا يتبع خطيةً واضحة كما الزمن الكرونولوجي، بل يتشظى ويتداخل ويتوقف أحيانًا أو يتسارع بحسب تدفق الوعي الداخلي للراوي. مثلا نلاحظ أن الراوي يعيش في الحاضر داخل شقته الباريسية أو داخل ما يسميه بالمنزل الكبير بالدار البيضاء، لكنه يغرق باستمرار في استدعاء ماضيه مع أصدقائه بدار المغرب في باريس،فتداخل الأزمنة (الحاضر/الماضي) يخضع لإيقاع نفسي أكثر منه منطقي أو زمني خارجي. وهكذا، يصبح الزمن الذاتي هو الذي يحدد مسار الحكاية، ويعكس في الوقت ذاته شعور الراوي بالضياع أو الحنين، مما يفترض أن المروي له يدرك هذا الفعل أو الأسلوب المزدوج، وأنه على دراية بقواعد السرد الحديثة وتشعباتها. غير أن السرد في هذه الرواية باعتباره ليس حكيا شفاهيا، يسمح للمروي له بالتأثير على مجرى الحكي، (من خلال حركاته وتعابير وجهه ومعارضاته وردود أفعاله وأسئلته…)، بل السرد هنا مكتوب على شكل مذكرات تفرض على المروي له قراءتها، فهو أحادي الاتجاه، لا يتيح إمكانية التعرف على ردود أفعال المروي له، وبالتالي تضمحلّ انفعالات هذا الأخير.
يميّز رواية المذكرات، هذه، كونُها تخييلا في تخييل، فالرواية تخييل والراوي حليم شخصية تخييلية ومذكراته تخييل، ومع ذلك ورغم ذلك، تومض طوال البنية السردية، نوافذ صغيرة جدا، شبيهة بتلك التي يضعها سكان البادية المغربية لبيوتهم، وكأنها نوافذ لتوثيق الحقيقة التاريخية، الفعلية، كما يراها حليم الراوي، نيابة عن المؤلف الفعلي، من خلال تأثيث الذكريات بتواريخها وأسماء شخوصها وصفاتهم وأمكنتهم:
(ثورة 1968 بباريس ــــ مقهى «ليب» المرتبطة باختطاف واختفاء المناضل المهدي بن بركة 1965 ــــ احتجاجات أصحاب السترات الصفراء بباريس سنة 2018 ـــــ مقاومة عبد الكريم الخطابي بالريف المغربي ــــ انتفاضة 23 مارس 1965 ـــ وفاة جد حليم تزامنا مع أحداث 23 مارس 1965 ـــ وفاة والد حليم تزامنا مع أحداث 20 يونيو 1981 بالدار البيضاء ـــ الربيع العربي، وغيرها…).
إنها كوات تضيء التخييل، كأيسر وسيلة لتحقيق وهم الواقع، واستقطاب المزيد من القراء الواقعيين والنقاد المهووسين بنظرية «الأدب مرآة للواقع»، ومنهم، كما يبدو، المروي له نفسه، الذي يظهر، أنه لا يرتاح إلا في ظل البنيات الثقافية الكبرى (السرديات الكبرى)، حيث، كما يبدو، من خلال استطرادات الراوي، أن المروي له، أيضا، لا يعتبر النصوص الأدبية محايدة، بل تحمل في داخلها سرديات ثقافية كبرى تعبّر عن رؤى أيديولوجية، اجتماعية أو سياسية. وحتى الراوي حليم، بانتقاداته للواقع وللمناضلين ولمذكراتهم وأحلامهم، وبالنبرة التي يكتب بها، يؤكد أن الأدب السردي لا يروي فقط قصصا تخييلية، بل يعيد إنتاج أو يُعارض سرديات مجتمعه، وهو ما يفعله الراوي بكل اقتناع، من خلال جعل «البحث عن مناضل» تتمثل البنيات الثقافية الماضية (السبعينيات)، وتستوعب وتفخخ تجارب زمنها، بما طواها، برجالها ونسائها وأحداثها وأوهامها، في مونولوج متصل وطويل، وبنفس واحد.
وعليه، تصلنا هذه الرواية عبر صوت واحد، هو صوت حليم العلوي، حتى الحكايات التي أدرجها ضمن مذكراته، كتبها أو بالأحرى أعاد سردها بصوته الخاص ( 1ـــــ حكاية الملك القديم الذي أصيب بقصور الباه، على لسان صديقته جوليا. 2 ــــ حكاية الحاج الدولار، السي همّو الروداني والد الراوي، الذي تحول على يد أصهاره الأثرياء إلى المليونير «يوسف العلوي»، على لسان الوالد نفسه. 3 ـــــــ حكاية المناضل السي مبارك السوسي، الذي كان في فرنسا يحمل اسما حركيا (احماد السوسي)، بلسانه أيضا. 4 ـــ تتمة حكاية جوليا على لسان ابنتها جولينا. 5 ــــ حكاية رواية «العجوز والجبل» للكاتبة جوليا، على لسان الساردة جوليا). باستثناء تدخل ليلى زوجة حليم، في نهاية الرواية، بعد أن انتهى حليم وتوقف عن الكتابة والكلام، إثر خروجه من الغيبوبة التي أصابته، ودامت ما يزيد عن ثلاثة أشهر، ولم يبق منه سوى عبارة متقطعة على لسانه (أريد مناضلا). هنا، سيضطر المؤلف الفعلي إغلان، بعد هذه النهاية المشؤومة لحليم، وبعد أن ضاع أمل العثور على المناضل، أن يختم الرواية بإعطاء الكلمة لليلى، لإدراج جزء من مذكراتها، بعد أن استطاعت أخيرا أن تطلع على مذكرات زوجها التي ظلت خفية عنها. وأهم ما في هذه المذكرات هو اكتشاف ليلى لوجود جوليا ومفعولها في حياة وذاكرة حليم (لم أستطع الخوض قي تلك المرأة التي يبرز حرف «الجيم» عليها، أريد دفن الماضي، ماض أرّق جسده وطاف به عوالم أبعدت عينيه عن النعاس).
تلعب هذه الحكايات التي تتخلل النص السردي دورا مهما، باعتبارها اختيارا مركزيا وتصنيفيا، يحدد طبيعة التركيب العام للنص الروائي، والمسارات السردية التي ينطلق منها حليم لتقديم تفاصيل إضافية لمذكراته، من خلال التركيز على التذكر والاستنطاق والإخبار. دون أن ننسى مسألة استمالة المروي له ومحاولة التخفيف عنه من وطأة السرد المسترسل والمفصّل والجارف.
وتشكّل خاتمة الرواية لحظة تأمل وارتداد داخلي لحليم، حيث يصل إلى نقطة من الإنهاك الذهني والجسدي، بعد أن استنزفه السرد والنبش في الذاكرة ومحاولة فهم جدوى البحث عن قيمة مفقودة.
(قلَبت مزاجي من إنهاء رحلة البحث عن مناضل، إلى ولوج تجاويف امرأة متحررة وعنيدة، امرأة ترسم الأحلام وترسلها إلى الصبايا… ولكني سقطت دون أن أدري.)
لم يصل حليم إلى حقيقة نهائية أو جواب شافٍ، بل ازدادت ضبابيةُ الصورة. يبدو أن المناضل ليس شخصًا محددًا بقدر ما هو فكرة أو وهم طارد الراوي طوال حياته.وبالتالي فإن وصْفة طبيبه النفساني لم تفده في شيء بقدر ما أفادتنا نحن القراء بحصولنا على هذا النص الذي يترقرق جمالا وبلاغة ومعرفة وأسلوبا ولغة مكتوبة بمرح كبير، تلد أفكارها باستعارات راقصة باذخة.
لقد جاءت الخاتمة بلا ضوء ولا خلاص، وإنما بإقرار ضمني بالهزيمة أمام الذاكرة والتاريخ الشخصي والجماعي. تحمل طابعًا مأساويًا، لكنه مأساوي هادئ، خافت، بدون صخب، تمامًا كما هي نبرة مذكرات حليم كلها.
2 ـــ عقدة المناضل
تظهر الشخصيات في الرواية بطريقة فجائية، وتحضر عبر تداعيات الذاكرة، مما يضفي على النص طابعا حُلميا، وبالتالي، وبدون شك فإن المناضل المبحوث عنه موجود في الحُلْم، في أحلام وتمثلات حليم العلوي، الباحث، كما يدّعي عن قيم نضالية وسط عالم يبدو وكأنه مخذول في كل مبادئه. هكذا ظهرت شخصية جوليا الطالبة، والمناضلة، منذ الصفحات الأولى للرواية. ص.9. لكنها ظلت مقيمة فيها، في مذكرات حليم، عبر التداعي الحر للذكريات، وبالتالي فمنطق التداعي هو المتحكم الأول في بناء الرواية. ذكرى تؤدي إلى أخرى، أحيانا بسبب كلمة عابرة أو إحساس داخلي، أو بدون سبب. تشابك مطلق بين الحاضر (زمن كتابة المذكرات ـــ نشرت سنة 2024) والماضي (السبعينيات من القرن الماضي)، وهو ما يدفع القارئ إلى التفاعل وكأنه مع حالة الاسترجاع النفسي، حاضر، في جلسة من جلسات التحليل النفسي، وأحيانا في موقف استراق السمع والبصر لعرض مسرحي يتداخل فيه التشخيص الدرامي بالسرد المباشر للوقائع، والتأملات الفلسفية والنفسية بالحوارات الداخلية، مما يجعل الصراع العاطفي والفكري لدى حليم مكشوفا. إن عنوان الرواية، هنا، ليس كما يقال، مفتاحا لها، إنه لا يترصد مناضلا بعينه، موجودا أو مفقودا، بل يترصد جزءا من الذات المفجوعة. المناضل الذي يبحث عنه حليم هو الأنا المثالي الذي فشل حليم أن يكونه. صوت داخلي مكتوم، يصيح أريد أن أكون مناضلا، عقدة حليم النفسية هي سقوطه في حب جوليا، هو الثري المليونير المتزوج بليلى، والذي لا يرفض له طلب من أي جهة كانت، يعيش انفصاما عاطفيا وانقساما داخليًا بين هويتين، نتيجة انخراطه في تجربة حب مزدوجة،الأولى معلنة والثانية مكتومة، تشي بأزمة أعمق من مجرد تذبذب عاطفي، بل تمتد لتشمل أزمة الانتماء والمعنى والهوية.
ويمكن أن تُعد رواية «البحث عن مناضل» لحسن إغلان، من أبرز النصوص المغربية التي تُجسِّد تجربة شاب ثري مزداد وفي فمه ملعقة من ذهب، قاده حظه التعس للالتقاء بنخبة من الشباب الذين أحبوا المغرب حبا يساريا، (بلون شهد العسل، والعسل يساري في التكوين. كما يقول حليم). ص 49. قتلهم جميعا، بهذا الشكل أو ذاك، المنفى الذاتي، والتفككُ النفسي والسياسي، بعد خيبة المشروع النضالي في سبعينيات القرن العشرين. ومن خلال بنية سردية مفتوحة، نقل إلينا حليم تجربته الذاتية المأزومة، كاشفًا عن عمق التصدع في علاقاته الإنسانية، خاصة في علاقته بالمرأتين: ليلى زوجته المغربية، وجوليا المرأة اللبنانية عشيقته. تمثيلًا لانقسامه داخليًا بين هويتين.
ليلى الحب المؤسَّس على الجذور والصدق والإخلاص والواجب، ورمز الانتماء، ليست مجرد زوجة، بل مرآةٌ لمرحلة تاريخية كاملة في حياة حليم، لكنها تبدو مثقلة بثقل الذاكرة والواجب، وكأنها عبء أكثر منها ملاذًا. بذلك تصبح ليلى تجسيدًا للحياة التي توقفت، وللوطن الذي خسِر بريقه، وللهوية التي تآكلت بين المغرب وفرنسا. وجوليا، الحب العابر والراسخ والعقدة التي أصابته بالأرق، والتي من أجلها كتب «البحث عن مناضل» هبت عليه وكأنها نسمة مفاجئة وسط حر خانق، هي تجسيد للرغبة والانفلات من المسؤوليات، ونقطة تماس مع عالم مختلف، ومنفلت. إنها الحب المستحيل في عمقه.
هذا الحب المزدوج لكل من ليلى وجوليا، يمكن أن يُفهم كمرآة لانقسام حليم الداخلي. فهو لا يملك القدرة على الحسم بين هويتين: هوية المناضل الذي دفن حيا فيه، وهوية المثقف الذي يعيش اغترابًا مزدوجًا. في هذا السياق، تتجاوز المرأة كونها شخصية سردية لتصبح رمزًا لعالمين متصارعين داخل حليم.
إن تجربة الحب في «البحث عن مناضل» ليست تجربة عاطفية محضة، بل هي تجلٍ سردي لانهيار الذات بين ليلى وجوليا، إذ نرى راويًا ضائعًا لا يبحث عن امرأة بقدر ما يبحث عن نفسه، عن المعنى وسط الفقد، وعن الاستقرار وسط الخراب. هكذا يُصبح الحب وسيلة لاستكشاف الذات المبعثرة. ويُصبح تعدد العلاقات العاطفية تعبيرًا عن الانقسام الوجودي لحليم الذي فقد مشروعه، إن كان لديه مشروع ، وفقد هويته إن كانت له هوية.
إنها جوليا عقدة حليم، الذي بدون أن يشعر، يريد أن يكون مناضلا، حتى يعطي لجوليا المبرر الحاسم لتبادله نفس الحب، هذا الحب الغامض والمستحيل، لا يفصح عن نفسه بوضوح ولكنه يهيمن على الرواية من بدايتها إلى آخر رمق منها. وقد جاء على لسان زوجته ليلى بعد أن اطلعت على مذكراته(لم أستطع الخوض في تلك المرأة التي يبرز حرف «الجيم» عليها، أريد دفن الماضي، ماض أرّق جسده، وطاف به عوالم أبعدت عينيه عن النعاس).والمجال هنا لا يسمح لنا بإدراج كل الشواهد والاعترافات وفلتات اللسان والهوس والبوح المكتوم أيضا، الذي يكشف هيام حليم بجوليا، والذي يكاد يغطي جل مذكراته، إلى درجة أنه سمى الكلبة التي تؤنسهم بمنزله الكبير باسم جوليا.
هذه هي عقدة حليم، عقدة المناضل، عقدة النقص، يكتب من أجل أن يتخلص منها، من أجل أن يشفى من أرقه المزمن، من أجل أن يكون جديرا بحب جوليا، أن يكون مناضلا مثل صديقه توفيق الفكيكي، لكن هيهات.
3 ــــ البحث عن رواية
الرواية الحديثة ليست في حاجة، بخلاف كل المحكيات، إلى مرجعية أو شهادة خارجيتين. إنها تحمل في صلبها مرجعياتها. الرواية الحديثة، في حد ذاتها بحث، تلعب بالنسبة لوعينا بالواقع دورا ثلاثيا، على الأقل، وهو الكشف والاستكشاف وتشكيل المعنى. إن كل تحول حقيقي للشكل الروائي، وكل بحث مثمر في هذا المجال، لا يمكن أن يحصل إلا ضمن تحوّل لمفهوم الرواية ذاته.
«البحث عن مناضل» هي أيضا بحث عن رواية جديدة، مختلفة وجرّيئة وصادقة، منفلتة من قواعد السرد الروائي التقليدي.
إن العنوان الحقيقي لهذه المذكرات والذي يستبطنه عنوان الرواية، هو البحث عن الذات. من أنا؟ وما حقيقة واقعي؟ وماذا أريد بالضبط من خلال كتابة هذه المذكرات الملتصقة بذاتي؟ إنه سؤال الوجود من أجل تواصل ممكن، وبحث، أيضا، عن رواية مغربية تجريبية جديدة، قلقة، تعاني من أرق مزمن، نادرا ما تنام، مطمئنة على أحوالها، منفتحة على الأدب والفلسفة والتشكيل والموسيقى والتاريخ السياسي للمغرب.
تحفل هذه الرواية من بدايتها إلى نهايتها، بتقنيات وألغاز، تميّزها، أصلا، عن غيرها من الروايات التجريبية المعروفة، قد تدفع بالقارئ العادي إلى الوقوع في متاهة سردية، لا يمكن الفكاك منها إلا بعد إعادة القراءة لأكثر من مرة. نحن نعرف، مثلا، أن عنوان العمل الأدبي هو العتبة وهو مفتاح النص، ونعرف أنه من وضْع واختصاص الكاتب الفعلي، لكننا هنا نجد أن العنوان ليس من اقتراح الكاتب، بل من اقتراح شخصية ثانوية، عابرة كباقي شخصيات هذه الرواية، وهو طبيب نفسي، وصديق للراوي، مقيم بفرنسا. والذي التجأ إليه حليم بسبب تفاقم حالته النفسية، نتيجة معاناته مع الأرق المتفاقم والهوس الدائم بالحصول عل «مناضل» يعتقد أن بإمكانه أن يمنح وجوده وحياته، معنى.
ما يميز «البحث عن مناضل» ليس فقط موضوعُها المرتبط بذاكرة اليسار المغربي في المنفى، بل أيضًا أسلوبُها السردي، فهي رواية بلا فصول ولا مقاطع محددة، مما يمنحها طابعًا تأمليًا وانسيابيًا، يجعل القارئ يتابع تدفق الوعي الداخلي للراوي. ويعايش معه ذوبان الحدود بين الحاضر والماضي، وبين الواقع والخيال، ويتحول فعل الكتابة إلى شكل من أشكال العلاج الذاتي وإعادة بناء الذات، يضمحل الحدث إلى أقصى حد ليترك الفضاء للمعرفة والتأمل والنقد الذاتي.
تُهيمن على الرواية ثنائية الحلم والهزيمة، حيث يسترجع الراوي وجوه أصدقاء قدامى، مناضلين، آمنوا بالثورة والتغيير، قبل أن يخذُلَهم الزمن أو يخذُلوا أنفسهم.
الرواية أيضا هي محاولة نموذجية لرواية نفسية، تقدم الأحداث لا وفق تسلسلها الزمني، ولكن كما تتداعى في ذهن الراوي، وبالتالي تلعب فيها عمليات الوعي دورا مشوّقا يتعدى دور الأحداث الخارجية، إلى درجة أن تيار الوعي في هذه الرواية ليس مجرد تقنية سردية، بل هو الهيكل الفني الكامل لها. تظهر الرواية كمرآة لعقل الراوي الذي لا يفكر في خط منطقي مستقيم بل يقفز، من فكرة لأخرى، من ذكرى لأخرى، من شعور عادي لصورة مجازية، من ذكرى مارّة لحوار ثنائي أو مونولوغ. تدفق غير منقطع لأفكار حليم، بلا علامات ترقيم ولا مقاطع، ننتقل معه من الحب للجنس، للغيرة، للذكريات، للرغبة في الحياة. يسمح حليم لقارئه بسماع ألمه وأصواته الداخلية، نواياه، شكوكه، شروده، وحتى الأشياء التي لم يفصح عنها لشخوص الرواية كزوجته أو أصدقائه أو طبيبه النفسي.
إن الرواية التجريبية هي رواية الحرية، المُؤسِسة لقوانينها الذاتية، المنظِّرة لسلطة الخيال وقانون التجاوز الدائم، يقول ألان روب غرييه»إن قوة الروائي هي في أنه، فعلا، خالق، أي يخلق بكل حرية، وبدون نموذج»، هذا هو المبدأ الأساس الذي يقوم عليه أيُّ مفهوم للتجريب الروائي.
هوامش:
1- الراوي والمروي له
2- عن بيير شارتيه، مدخل إلى نظريات الرواية، ترجمة الشرقاوي.
3- من أجل رواية جديدة.