قراءة في رواية «الراقصات لا يدخلن الجنة» للروائية حنان درقاوي : ثلاث نساء، ثلاثة مصائر

تنسج الروائية المغربية المقيمة في فرنسا «حنان درقاوي» حكاية روايتها الموسومة «الراقصات لا يدخلن الجنة» من خلال حياة ثلاث نساء تتكفل الساردة آسية (وهي كذلك واحدة من الشخصيات الأساسية في الرواية) بسرد حكاية كل واحدة منهن، حيث نبدأ بالتعرف عليهن أكثر كلما تقدمنا في زمن أحداث الرواية. إنها حيوات بقدر ما تبدو للمتلقي متباعدة في الزمان ومختلفة من حيث المجريات والوقائع، بقدر ما هي متقاربة ومتقاطعة تتشابه في الجراح والمآسي والأعطاب النفسية والجسدية التي عاشتها كل واحدة منهن، وهي متقاربة أكثر لأنها تطرح قضايا المرأة العربية ومحاولاتها المتكررة للمقاومة والنضال من أجل تحقيق حريتها واستقلالها المادي والشخصي، والتصرف بحياتها بكل حرية ولو تطلب الأمر هجر بلاد القمع والتقميط والمنع الى بلد تراه أنه بلد الحرية وجنة تحقيق الأحلام وحيث يمكن أن تجد بعض السلوان، وحياة تشفي من عذابات الحياة الماضية.
تنفتح الرواية على خروج «آسية طاهري» واسمها في الشغل «إليسا» من بار ألف ليلة وليلة بحي بيغال بالدائرة العاشرة في باريس في الساعة الثامنة صباحا، وكان ذلك يوم 14/01/2011 (ولهذه التواريخ معناها في الرواية) بعدما أنهت حصتها في العمل كراقصة تعري «استريبتيز» في البار، في الساعة الخامسة صباحا وقد اعتادت على الاستراحة مع صديقتيها «فاديا» زميلتها في الشغل و»سارة» صاحبة البار ومالكته، داخل البار. وهؤلاء النساء الثلاث هن الشخصيات الأساسية في الرواية يشغلن مساحة في صنع أحداثها وبناء عوالمها. شخصيات متقاربة جمعت بينهن ظروف وحكايات تعمل الساردة على حكيها بالتناوب، وبالانتقال من حكاية آسية، إلى حكاية فاديا وحكاية سارة. هذا التناوب والانتقال من حكاية إلى حكاية منح الرواية دينامية داخلية جعلت معها المتلقي لا يشعر بالملل. لقد عرفت حنان درقاوي كيف تشد على خيط الحكاية، وكيف تنسج خيوطها وجعلها تنمو وتتقدم وبالتالي يتم الكشف جزءا بعد جزء عن الحياة الماضية والآنية، وعن الأحلام التي تنمو في رأس كل واحدة منهن، ويعملن بكل جهد من أجل تحقيقها في المستقبل والرهان على الأيام القادمة للخروج من وضعهن الحالي الي وضع آخر يرضين عنه ويتمنين تحقيقه. ثم إن الذهاب بين الماضي و الحاضر الآني يمنح إضاءة أكثر على أحداث الرواية وعلى أفعال كل واحدة من النساء وتصرفاتهن الحالية.
إن حياة القسوة في الماضي وبؤس الحياة في المهجر الذي كان أمنية لتحقيق الطموحات والأحلام هي التي جمعت بين هؤلاء النساء الثلاث اللواتي يعشن أوقاتا في مكان واحد، ويشتركن في التخطيط أحيانا لأشياء تستهويهن. يعشن لحظات فرح ويتقاسمنها، بل وينتقمن بتلك السعادة اللحظية التي تغمر قلبهن ونفسهن من الحياة الصعبة والأليمة التي يحملنها كوشم في الروح. كانت لحظات الفرح والسعادة تلك، ترياقا وشفاء لهن من ندوب جراح حياتهن الماضية.
لقد تعبت النساء الثلاث في العمل ومن التفكير في بناء الذات وبناء حياة جديدة تضمن لهن حرية التصرف وحرية العيش حسب ما تمليه الرغبة والذات، لكن هل ستستطيع النساء الثلاث جميعا تحقيق أحلامهن في الحياة وفي باريس بالتحديد؟ المدينة التي يرين بأنها مدينة تتحقق فيها الأحلام والأمنيات ومدينة الحرية وأبواب السعادة المفتوحة التي لا يغلقها سوى عدم التوفر على الإمكانيات المادية، لذلك كانت كل واحدة من النساء تضاعف الجهد في الشغل لتوفير أكبر قدر من المال وتبحث عن فرص أخرى خارج فترة الرقص للزيادة في ربح المال، خاصة بالنسبة لفاديا التي تسكن مع أمها وأخواتها في حي متسخ ووضيع جل سكانه من الأفارقة والمغاربيين، حي عربي بمعنى الكلمة وكانت قد تعرضت للاغتصاب من طرف والدها وهي طفلة في العاشرة من عمرها، كما كان يهددها بأن تصمت وألا تبوح بشيء لأحد، كان لها أخ (ادريس) ذو ميول دينية متطرفة يحلم دائما بالذهاب إلى الجهاد. أصبحت فاديا المعيلة الوحيدة لما تبقى من أسرتها في فرنسا بعد رحيل الوالد وعودته إلى المغرب. كان حلمها البسيط أن تتوفر على شقة في حي لائق وراق، وأن تتزوج بشاب مسلم ينقذها من حياة الرقص والتعري والدعارة. فاديا التي تعيش إحساس التمزق بين عالم الستريبتيز والدعارة والعالم النقي الطاهر الذي كانت تتوق إليه وتحلم فيه بالحب والزواج، فاديا التي لم تشفع لها ولادتها في فرنسا فعاشت في حي فقير على الهامش.. عاشت صراعا نفسيا عميقا تتمزق معه روحها بين التوق إلى أن تعيش حياة عادية تبني أسرة، وبين حياة وجدت نفسها تغرق فيها يوما بعد يوم. حياة البار والزبائن ورقص التعري والدعارة ثم المخدرات التي ستنهي حياتها وتغادر إلى العالم الآخر مساء 14/2/2011 في غرفة الفندق صحبة زبون، تموت بسبب جرعة مخدر زائدة. تموت في ليلة كانت قد قررت فيها أن تحتفل بعيد الحب مع صديقتيها، برفقة رجال تختار كل واحدة منهن رجلا يرافقها في السهرة.
أما آسية فقد كانت تشتغل لتوفير ما يساعدها للحصول على شقة ولتوفير مصروف يساعدها على مسايرة دراستها الجامعية ، فهي طالبة في السوربون تعمل على تحضير ماجستير في الآدب الفرنسي عن «الرومنسية والواقعية في رواية مدام بوفاري» لفلوبير. وقد كان في هذا الاختيار ذكاء فنيا إذ أن حياة أسية وكمال تشبه وتتقاطع في بعض التفاصيل مع مدام بوفاري ورودولف.
لقد تعايشت آسية بسهولة وبطلاقة مع الحياة الفرنسية في باريس بحكم أنها كانت مستعدة ومهيأة لذلك من قراءاتها للأدب الفرنسي، واطلاعها على جوانب الحياة الفرنسية فكان سهلا عليها أن تندمج في الحياة الباريسية التي تعرفت على بعض جوانبها من خلال الكتب ولم تشعر بالغربة، ولم يلاحظ أي أحد أنها جديدة على الحياة الفرنسية. وقد هاجرت إلى باريس بعد تفجيرات الدار البيضاء 16 من ماي 2004 هروبا من جنون الأم وجنون الوطن كما قالت، وقد كان يكفي أن تقطع البحر لتصير امرأة مرغوبا فيها. في المغرب كانت لا تلفت النظر إليها لنحافتها بينما هنا الجميع يمدح جمالها ويراها قنبلة ستثير العديد من الرجال خلال رقصها وتعريها في البار. باريس كانت بمثابة الفضاء الذي أعاد إليها الإعتبار إلى نفسها وجعلها تحقق توازنها النفسي وتستعيد الثقة في جسدها وفي شكل تكوينها. في باريس حين تعرض جسدها أثناء حصة الستريبتز كانت تنتقم لنفسها من كل الإهمال والكلام الجارح الذي كانت تسمعه من أمها وهي تعيرها بشكلها وذمامة خلقتها وأنها هكذا لن تحصل على رجل يكون لها زوجا، وبأن ولادتها ووجودها في الأسرة عقاب من الله، لكن الوالدة كانت لا تتردد في أخذ المال الذي تحصل عليه آسية في كل شهر من عملها في مكتبة المركز الثقافي الفرنسي بالرباط، كما كانت أيضا بتعريها ورقصها تنتقم من الرجال الذين كانوا ينظرون إليها في المغرب ولا تثيرهم، أو تشد انتباههم. إنها كانت تعيد الإعتبار لنفسها من خلال جسدها الذي تعرضه الآن في البار، ويثير شهوة الزبناء دون أن يلمسوه أو ينالوا منه شيئا. إنه التعويض عن النقص وعن العقدة التي كانت وصارت الآن تنحل مع كل حركة واستدارة وغنج وإثارة.
إن ما تفوقت فيه الرواية بشكل كبير، هو تقديم كل شخصية من النساء الثلاث على حدة رغم اجتماعهن في الصداقة، وفي الشغل وفي الكثير من المخططات والمشاريع والأحلام. لقد بقيت كل واحدة منهن تتمتع بخصوصيتها وبأحلامها وبعالمها الخاص، وتحتفظ برغباتها وهواجسها وتمارس ما تشتاق فعله بكل حرية. وبحكم أن «سارة» سيدة الشغل والمشرفة على كل ما يدور في البار، وعيشها حياة تعرف بعض الرخاء أكثر من فاديا وآسية، فإنها كانت تمنح لنفسها حظا كبيرا في تحقيق رغائبها كمصاحبة رجل في كل ليلة، تختاره من زبناء البار حسب مقاييس خاصة في نفسها، وتأخذه إلى البيت للمعاشرة، ثم تدعوه للانصراف عند الصباح. لكنها في الأخير، تغير رأيها في علاقتها مع جسدها ونظرتها للجنس، فتقرر أن تعشق شخصا واحدا، وتحبه في كل الأيام الآتية. إن المسار الذي ستذهب إليه الأحداث في الرواية مع النهاية، يجعل كل الأشياء تتغير في حياة النساء. وقد تجلى هذا بوضوح مع وفاة فاديا المفجعة ورحيلها المحزن وهي تكافح من أجل تحقيق الأماني التي كانت تراودها. وكذا ما آلت إليه أوضاع والدة سارة بعدما زارتها مؤخرا بعد انقطاع دام بينهما سنوات، لتجدها امرأة أخرى، وقد لبست الحجاب وأفرغت البيت من اللوحات، من المكتبة ووسائل الترفيه، كما وجدت زوج أمها الفرنسي وقد غير اسمه، وشكله وصار بلحية مطلقة. وهنا التناقض الكبير، فأم سارة، الممرضة، التي كانت متفتحة في المغرب، وتعيش حياة المتعة والطلاقة، صارت في مدينة الحريات الشخصية منغلقة على نفسها وتغيرت حياتها كلية.
وإذا أضفنا إلى هذا خسارتها لصديقها «زاهي» الذي أهداها ملكية البار، واحتضن ابنتها الصغيرة ومنحها اسمه، سنعرف كم من المتغيرات السلبية حصلت في حياة سارة، إضافة إلى رحيل آسية بعد فاجعة رفيقتهما بجرعة المخدر الزائدة، للارتماء في أحضان سلوى، صديقتها الجديدة التي شعرت بانجذاب نحوها.
كل شيء في الرواية ينتهي إلى الفراغ. إلى اللاشيء، إلى اللامتوقع وغير المنتظر. إلى الخسارة أو بتعبير أصح إلى الخسارات، خاصة مع فقدان المال الذي تم توفيره، على يد نصاب محترف اسمه كمال الذي أحبته آسية ووثقت به، فمنحته المال الذي وفرته لشراء الشقة، هي وفاديا «وريتشارد» صديقها ليفر بعد ذلك إلى أمريكا، وتفقد الراقصتان كل ما جمعتاه من عناء الشغل ومن عالم البار وزبنائه الذين كلما شربوا وسكروا صاروا أسخياء أكثر. ولهذا في النهاية لم تدخل الراقصتان إلى الجنة ولم تعيشا الحياة كما كانتا تحلمان بها وتتمنيان.
تغوص الرواية في أعماق نفس كل واحدة من النساء الثلاث، وتسبر أغوارهن، فتقدمهن «عاريات» للمتلقي، إنهن ثلاثة نماذج من النساء المعطوبات، الحاملات لجراح عميقة في النفس، ولعقد تركت أثارها في نفس كل واحدة منهن. كل واحدة تنطلق من خلفية خاصة اكتسبتها من خلال عيشها في الحياة. فسارة التي جاءت إلى الدنيا بسبب حمل غير شرعي عانت منه والدتها كما عانت منه هي في بلادها المغرب من طرف أفراد العائلة قبل الهجرة إلى فرنسا، ستتعامل مع الجسد، جسدها بماتراه حرية التصرف فيه من خلال اختيار الرجل الذي ينال إعجابها من زبناء البار، واصطحابه إلى البيت. لم تكن تستسيغ أن تعيش مع رجل واحد وتعاشره لكل الحياة، كانت لذتها الجنسية والجسدية في تغيير الرجال وفي حرية اختيارهم. أما فاديا ابنة الهامش الفرنسي. فقد كانت تجعل من جسدها المغتصب أكثر من مرة، وسيلة لجمع المال وكسب ما يكفيها للعيش تقدمه لمن يستطيع أن يعطيها من المال أكثر.
لذا كانت نهايتها وهي في غرفة فندق مع زبون كان يغريه جسدها، وجمال تكوينه. أما آسية، الطالبة في الدراسات العليا، وذات الخلفية الثقافية المغايرة، وذلك منذ أن كانت في جامعة الرباط ومشاركتها في الإضرابات والاحتجاجات الطلابية اليسارية، فقد كانت نظرتها للجسد وللجنس، تنطلق من فهم عميق لتتجاوز ماعاشته من ثقافة وتربية متحجرتين ومتخلفتين، لذا كانت تعيش حياتها الجنسية بوعي، وكانت علاقتها بالجسد، مبنية على رؤية ثقافية متقدمة ومتحررة، إنها الطالبة التي كانت تزور المعارض الفنية، وتنظر إلى لوحات الجسد العاري، وإلى التماثيل، إذ أن رقص العري الذي كانت تمارسه، كان فعلا تشعر معه بالإنسجام، ولم تكن تشعر بالتمزق أو الحرج أو أنها مكرهة على ذلك. بل كانت ترى فيه فعلا فنيا ولوحة جسدية راقصة يستمتع بها الرائي، وتستمتع بدورها نفسيا بأثر الاشتهاء والمتعة التي يخلفها جسدها في عيون رواد البار، الذين كانو يتسابقون على نيل رضاها حين يطلبونها لمرافقتهم خلال جلسة الاستمتاع بالشرب والدردشة. كما أن الرواية، ومن خلال المحكي في قصص النساء الثلاث، تطرح قضايا اجتماعية ونفسية، وإشكالية علاقة المرأة العربية بالجسد والجنس والحب، وحرية اتخاذ القرار الشخصي، والتصرف في الحياة بكل حرية، بعيدا عن القيود والموانع والسياجات التي تفرضها التربية التقليدية والنظرة الدونية تجاه المرأة. وقد حاولت الرواية تناول هذه القضايا بجرأة وقدرة ترفدهما الخلفية الثقافية والتكوين العلمي والنفسي – التحليل النفسي تحديدا – اللذين تتمتع بهما الكاتبة.
ومن أجل الحرية الشخصية وبناء الذات في مجتمع متحرر ومتقدم، حاولت النساء الثلاث إثبات أنفسهن وقدرتهن على الاعتماد على أنفسهن رغم المعاناة والصعاب، مع إظهار أن باريس التي تمنح الحرية، وحق التصرف، والحماية القانونية لكل فرد، ليست هي المدينة الفردوس التي تجعل الأحلام تتحقق سريعا وبسهولة، بل إنها مدينة طاحنة وقاسية على كل من يأتي من الهامش ولوكان من أبنائها، ولا يمتلك الوسائل التي تساعده على تحقيق الذات، فإن أحلامه وأماله تكون عرضة للانكسار والتبخر، ومن هنا يأتي الحد من الانبهار والإغواء بمدينة ليست دائما كما نتصورها، بل إنها يمكن أن تقتل الإنسان وتنساه كأنه لم يكن.
وفي الأخير، تجدر الإشارة إلى التاريخين المقيدين في أول الرواية وفي آخر فصل فيها. فحسب هذين التاريخين، فإن أحداث الرواية تبدأ مع بداية يوم 14/01/2011 في الساعة الثامنة صباحا، إلى غاية يوم 14/02/2011 في الساعة السادسة مساء وهو توقيت رحيل «فاديا» إلى العالم الآخر، وهذه المسافة الزمنية، التي تقدر بشهر واحد، قد استوعبت أحداث سنتين من تواجد الساردة في فرنسا. إنه زمن كتابة الرواية، أما في ما يخص الزمن الروائي فإنه يبدأ مند الوعي بالوجود، واستيعاب أحداث الحياة، وتخزينها في الذاكرة كوشم لا يبرحها، بل وحتى الزمن السابق على الوعي بالأحداث وفهمها، إنه زمن البدايات الأولى في الحياة و الذي لايزال يستمر في اللحظة.
إن وفاة «فاديا» ليست نهاية لأحداث الرواية، لأن من بعد رحيل زميلة وصديقة، تبدأ أحداث أخرى، وهي استمرار لما مضى، مع خروج سارة مع الحبيب الذي قررت أن تسكن إليه أخيرا من المستشفى مع آسية وهي ترافق سلوى لتعيش تجربة أخرى في الحب مع جسد أنثى، ومع ريتشارد الذي فقد التي كان يحلم أن تكون رفيقة حياته .


الكاتب : إدريس أنفراص

  

بتاريخ : 23/10/2020