قراءة في كتاب «الأندلسيون الهورناتشيون: من المراقبة إلى العقاب»

صدر عن منشورات باب الحكمة، كتاب يقع في الحجم المتوسط (216 صفحة) يحمل عنوان «الأندلسيون الهورناتشيون: من المراقبة إلى العقاب» (2020) لكاتبه الدكتور محمد رضى بودشار. يضم الكتاب وثائق من الأرشيف الاسباني، قام بترجمتها، من اللغة الاسبانية، الأستاذ محمد عبد المومن.

 

 

عتبة الكتاب

يتكون عنوان الكتاب من ثنائية العام (الأندلسيون) والخاص (الهورناتشيون)، أو لنقل من جوهر ثابت على مستوى الهوية، ومحمول على مستوى الصفة. يسعى الكتاب، من البداية، إلى إبرام تعاقد بين الكاتب والمتلقي حول طبيعة الفئة المستهدفة في هذا البحث، وهي الفئة الهورناتشية حصريا.
في أسفل العتبة الرئيسية هناك عتبتان فرعيتان:
الأولى تعكس ملامح حكاية سردية، تتلخص أحداثها في إطار مساحة زمنية لها بداية ونهاية (من…إلى…)، بمعنى أن المسافة الزمنية للحكاية التاريخية ليست مجزأة، بل هي صيرورة مكتملة تاريخيا، بحيث تشكلت وامتدت وحققت غايتها. بدأ فعل التشكل بالمراقبة ثم تطور إلى أن وصل إلى غاياته الكبرى، وهو العقاب.
أما الثانية، فإنها تشير إلى ترجمة ودراسة وثائق من الأرشيف الإسباني، بمعنى أن الحكاية التاريخية تستند إلى وثائق قابلة للاستنطاق والمحاكمة من أجل إعادة بناء الواقعة التاريخية.
بالإضافة إلى العتبات الثلاث، هناك عتبة تشغل مساحة مهمة من حجم الغلاف، يتعلق الأمر بلوحة للفنان غابرييل بويغ رودا Gabriel Puig Roda (1894) وهي لوحة موجودة بمتحف الفنون الجميلة بكاسطيون، تجسد مأساة تهجير المسلمين أثناء سقوط الأندلس.

في المنهج

وظف الأستاذ بودشار استراتيجية منهجية، للتعامل مع الأحداث المأساوية التي لحقت بالأندلسيين، تتوزع على الشكل التالي:
رافق التحقيب التاريخي للأحداث رؤية منهجية تضيء مسارات متباينة، هذه المسارات ليست خطا متقدما ومتصاعدا، بل سلسلة من الانتكاسات والنجاحات، الانكسارات والمقاومات، الهزائم والانتصارات…ثمة تراجعات على مستوى القيم الأخلاقية والإنسانية، وفي نفس الآن ثمة انبثاق مسارات قانونية وأخلاقية تهدف إلى إعادة الاعتبار لكرامة الأقليات.
سلك المؤلف مسلكا نسقيا ثقافيا، حيث تناول مأساة التهجير من خلال رصده للأبعاد المعرفية والدينية والمخيالية والرمزية…باعتبارها مكونات متفاعلة تتداخل في وحدة موضوعية خارج إرادة الفاعل الاجتماعي. فالبنية الثقافية والرمزية للهورناتشيين كانت محددا أساسيا في المقاومة وفي ضمان استمرارية الهوية الجماعية.
استدعى المؤلف المنهج النقدي، حيث طالب الوثيقة بالمثول أمام محكمة النقد لمساءلتها واستنطاقها، إذ تعامل معها بحذر شديد، ولم يأخذ منطوقها كحقيقة تاريخية.
لجأ المؤلف إلى تقنية التفكيك وإعادة البناء، إذ رصد البنية الثقافية والاجتماعية للأندلسيين، كمجموعة متفاعلة، ثم سرعان ما تفككت هذه البنية إلى وحدات سياسية واجتماعية، ومن داخل هذا التفكك تتبع المؤلف مسارات ثقافية مختلفة ولاحق بنيتها، إلى أن قبض على وحدتها المنسجمة في ثنايا الخطاب والفعل والرمز لدى الجماعة الهورناتشيين.

بناء وحدة وطنية متوحشة

أصدرت السلطات الإسبانية، إثر سقوط غرناطة، قرارات سياسية تروم بناء وحدة وطنية على أرضية دينية، إذ حاولت تسخير رجال الدين القساوسة ولجان التفتيش بغاية خلق شعور كاثوليكي مشترك يتقاسمه كل أعضاء الوطن. جندت إمكانيات المراقبة وتتبع المارقين والخارجين عن دين «الحق»، دين متفرد يستلزم خضوع جميع المكونات المجتمعية لضوابطه ولإلزاماته الأخلاقية. تتحدد علامات الهوية الوطنية بممارسة الشعائر الإيمانية المسيحية.
شيدت السلطة السياسية الإسبانية خطابها على إحداث شرخ في بنية المجتمع: فئة تمثل الأغلبية المسيحية، والأخرى تمثل الأقلية المسلمة. تشكل البنية الأولى، إرادة الاندماج في نسق سياسي وديني يستفيد من لاعقاب السلطة السياسية والدينية، أما المجموعة الثانية، فإنها تقع خارج النسق الاندماجي، لأنها تهدد الوحدة المنسجمة التي تجسدها الإرادة الملكية والكنسية الكاثوليكية، بفعل اعتنقتها معتقدات مارقة.
نفهم من هنا، أن إرادة تقسيم المجتمع، لبناء هوية قومية مشتركة، تقوم أساسا على فكرة الدين المسيحي، لأن اعتناق أية ملة خارج هذا الاعتقاد الخالص والمطلق، هو كفر. لقد بات «الكفر بمثابة هوية – جريمة» (ص،15).
أصدرت السلطات السياسية عدة قرارات، تبيح بموجبها حملات الاعتقال والتعذيب والغرامة ونزع الملكية والطرد… هذا الفعل تبرره كتلة من القوانين والقرارات «مشروعة» تمثلها أعلى سلطة في البلاد، تفوض من خلالها للجان التفتيش التنكيل بالأقلية المسلمة واضطهادها. ويبدو أن استراتيجية السلطة السياسية تتجه نحو المباغتة والسباق مع الزمن لمحو آثار وامتداد هوية الاختلاف، ولذلك مورس عنف مكثف وقسوة حادة لتغيير الخريطة الجغرافية ثقافيا ودينيا، وقطع الطريق على اعتقادات دينية محتملة قد تنازع السلطة مشروعيتها الدينية والسياسة. تعتقد الدولة الناشئة أنها أمام مفارقة تاريخية، ولذلك تسابق الزمن من أجل الحسم في مأزق إشكالي: إما السعي نحو وقف التاريخ من أجل بناء وحدة كلية منسجمة على أساس اعتقاد طائفي، أو السماح بممارسة التعايش الثقافي، الشيء الذي يمكن أن ينتج عنه ضياع هوية مسيحية وأفول نجمها نحو المغيب. كان الوضع أشبه «بإرادة وقف عجلة التاريخ بشبه الجزيرة الأيبيرية عند اللحظة الزمنية المسيحية دون أن يحدث أي تطور ديني أو بشري» (ص،15).

انتفاضة الهوية الثقافية

بالرغم من تعدد أشكال الاضطهاد في حق الهورناتشيين (حرق الكتب، حرق الأجساد،الطرد، المحاكمات الصورية، الإكراه على التحول إلى المسيحية… ) من أجل محو كلي لكل المظاهر الحضارية الإسلامية، إلا أن درجة المقاومة، لكل أشكال التذويب والانصهار، كان منسوبها مرتفعا جدا، حيث تمظهرت في صور التقية والإخفاء والمواجهة المسلحة وحرب العصابات والتضامن الشعبي… كما لجأ الهورناتشيون إلى حيازة الكتب وتعليم اللغة العربية والتنشئة الاجتماعية الإسلامية وممارسة الشعائر الدينية والحفاظ على الطقوس التقليدية في الحفلات ومراسيم الزواج…ثم أنشأ الهورناتشيون هيئة إدارية – سياسية يُعهد إليها مهمة «السهر على وضع خطط لمواجهة الخصم» (ص، 38). «مما يعني أن الوعي بالهوية العربية الإسلامية ظل حاضرا لدى الهورناتشيين على اختلاف مشاربهم المهنية والاجتماعية – الاقتصادية» (ص،33).
نحن إذن أمام إرادتين: إرادة الاجتثاث وإرادة البقاء، إرادة السلطة وإرادة المناهضة، هذا التقابل الحاد، خلف ذاكرة مليئة بصور الرعب والقسوة والمعاناة.

ضياع لحظة المصالحة مع التاريخ

كان من الممكن أن تستثمر السلطات الإسبانية لحظات تاريخية، تمكنها من تسجيل منعطف قانوني وأخلاقي في الجغرافيا الأوروبية، لكنها لم تحسن التعامل مع بنود قانونية ومعاهدات سلمية ومناشدات جماعية ومبادرات دينية.
تعتبر معاهدة غرناطة (1491) التي تم توقيعها بين مملكة غرناطة وملكة قشتالة، من المعاهدات التي قل نظيرها على مستوى ضمان الحقوق الملكية والوجودية للأقلية العرقية، حيث تنص المادة الأولى من المعاهدة على ما يلي:
«ويعتبر أبو عبد الله الصغير، وسائر قادته، وجميع سكان غرناطة، والبيازين، وضواحيهما، وقراهما، وأراضيهما، والقرى والأماكن التابعة للبشرات، رعايا طبيعيين، ويبقون تحت رعايتهم ودفاعهم. وتترك لهم جميع بيوتهم، وأراضيهم، وعقارهم، وأملاكهم حاليًّا، ودائمًا دون أن يلحق بها أي ضرر، أو حيف. وأن لا يؤخذ أي شيء منها يخصهم، بل بالعكس، سيتم احترام الجميع ومساعدتهم، ويلقون المعاملة الطيبة، من قبل صاحبي السمو، وشعبهما كخدم وأتباع لهما».
كما تشير المعاهدة على عدم الإكراه على التنصر، واحترام ممارسة الشعائر الدينية، عدم مصادرة أملاكهم وأراضيهم، ضمان حرية التنقل، الحرص على تطبيق العدالة بين المسلم والمسيحي.
تقول المادة 30 «لا يجوز إرغام أية نصرانية تزوجت من أحد المسلمين، و اعتنقت الدين الإسلامي، على العودة إلى النصرانية، إلا طائعة «.
المادة 32 «لا يجوز إرغام مسلم أو مسلمة على اعتناق النصرانية. «
أما المادة33 « إذا رغبت امرأة مسلمة متزوجة، أو أرملة، أو بكر في اعتناق النصرانية بدافع العشق، فلا يستجاب لها حتى تُسأل و توعظ وفقا للشريعة الإسلامية» .
يمكن اعتبار اتفاقية غرناطة، اتفاقية جد متقدمة تاريخيا على مستوى ضمان حقوق الأقلية المسلمة لكن للأسف لم تفعل الاتفاقية، إنما تم تفعيل اتفاقية أحادية الجانب خفية ولا مرئية، وفي «ذلك خرق سافر لمعاهدة تسليم غرناطة المذكورة التي تعد من أشهر المعاهدات التي لم تحترم في التاريخ»(ص،15).
هناك مبادرة تقدم بها النبيل نونييت مولاي في شكل مذكرة مرفوعة إلى الملك فليبي الثاني، يلفت فيها انتباه الملك إلى أن المكون الثقافي للأندلسيين المُنَصرين يشكل قوام هويتهم الفكرية والوجودية، إذ لا يمكن اقتلاع المشاعر الثقافية من عمق الذاكرة الفردية والجمعية. إن «اللغة العربية إلى جانب مقومات أخرى من الحقوق الثقافية التي يجب أن يتمتع بها الأندلسيون المُنصّرون أمر لا يتعارض مع الكاثوليكية»(ص،34).
عبّر بعض الإقطاعيين عن غضبهم من جراء ممارسات طائشة للسلطة السياسية، بحيث كان الإقطاع يستفيد من التقنيات والخبرات التي كان يتمتع بها الهورناتشيون في التعامل مع الأراضي الزراعية، ويعتمد «على سواعد الأندلسيين في ضيعاتهم ومزارعهم، والمستفيدين من إتقانهم لأعمال البناء وغير ذلك من التقنيات اللازمة في الأنشطة الإنتاجية « (ص،53).
لم يلتزم بعض رجال الدين الصمت إزاء وضع محموم بالتعذيب وطرد ممنهج للأقلية المسلمة والمنصرة، ففي رسالة رفعها الراهب كامبو فريو إلى الملك فليبي الثالث والمؤرخة بتاريخ 8 فبراير 1610، يدعوه فيها إلى وقف الطرد، وهو أمر تبنته « الكنسية الكاثوليكية بروما [حيث]عبرت عن رفضها لقرار الطرد» (ص،53)، لأنها تراه غير مبرر سياسيا ودينيا، بالإضافة إلى أن «هذا العمل سيترتب عنه تسليم موارد بشرية مهمة للبلدان الإسلامية» (ص،53).
تشكل هذه المبادرات إشارة قوية نحو تغيير سياسة التنكيل وانتهاج سياسة بناء الثقة والاحترام المتبادل على مستوى المعتقدات والاختيارات الشخصية للأقليات المسلمة. كانت تتشكل، بالفعل، رؤية مستقبلية نحو ضمان اندماج سلس في بنية مجتمعية تعرف تنوعا وتعددا اثنيا وثقافيا ولسانيا ودينيا…لكن إرادة الأغلبية السياسية انتصر مسارها التاريخي، خاصة بعد الحروب الكاثوليكية والبروتستانتية التي انتهت بعقد معاهدة ويستفاليا (1648). لقد جاءت المعاهدة في سياق وضع حد لحرب دامت ثلاثين سنة في الإمبراطورية الرومانية وحرب ثمانين سنة بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتحدة.
انتهت معاهدة ويستفاليا على وقع ترسيم الحدود السيادية بين الدول، مما يعني ترسيم حدود مخيالية ورمزية ودينية ولغوية وتاريخية. إن بناء الدولة القومية على حدود جغرافية ذات شرعية سياسية، يجب أن يوازيه بناء مشاعر قومية مشتركة على نغمة نشيد وطني يجسد انفعال العرق واللغة والدين كنبضات حية في عروق المواطنة. فالحدود السيادية ليست سوى تقسيم المجتمع إلى أغلبية مندمجة في بناء منسجم سياسيا وثقافيا، وأقلية تقع خارج هذا البناء ولا تستفيد من حقوق المواطنة. تلك هي الخريطة السيادية التي تمتد بجذورها إلى عمق وثيقة غرناطة في نسختها اللامرئية.

من المراقبة إلى الانفكاك

سبق وأن أعلن المؤلف في العتبة الفرعية للكتاب، عن سرد حكاية الأندلسيين الهورناتشيين التي بدأت كرونولوجيا من المراقبة إلى العقاب، لكن الحكاية لم تنته فقط عند جوانب عقابية، بل امتدت إلى افتكاك الأسرى، حيث نشطت حركة القرصنة بعد استقرار الهوناتشيين في المغرب كرد فعل على العقاب الذي مورس في حقهم. فالافتكاك هو إذن نتيجة منطقية للعقاب. ولقد قام بعملية الافتكاك «رجال الدين من طوائف مسيحية اضطلعت بعملية الافتكاك من الفرنسيسكانيين والثالوثيين» (ص،81).
نستنتج أن العنوان الفرعي يتكامل تحت وحدات مترابطة جدليا: المراقبة، العقاب والافتكاك. ووفقا لهذا الترابط يمكن إعادة صياغة العنوان على الشكل التالي: الأندلسيون الهورناتشيون: من المراقبة والعقاب إلى الافتكاك. السؤال الذي نود طرحه هو: لماذا أسقط المؤلف المبحث الثالث بمجمله من العنوان الفرعي؟ هل اعتبر أن معاناة الهورناتشيين انتهت بعد استقرارهم في المغرب؟
أعتقد أن المعاناة وشم ظل عالقا في مخيلة الأندلسيين الهورناتشيين، وشم غائر في الأجساد يعيد زمنا ضائعا من خلال صيحات حزينة للبحارة والقراصنة، وأغاني الحنين تتردد في مراسيم الزواج والحفلات، ورقصات تعيد مجدا ضائعا…

على سبيل الختم

يمكن القول إن الكتاب يعد إضافة نوعية على مستوى إعادة النظر في سياقات التاريخية، والوقوف عند مفاهيم امتلأت بدلالات سياسية شكلت توترا في منظومة التفكير والقيم الأخلاقية. تظل مفاهيم كالاندماج والسيادة وحقوق الإنسان والتعايش السلمي والعدالة الاجتماعية…ورشات تفكير مفتوحة على تأمل نظري ومباحث علمية. وكتاب «الأندلسيون الهورناتشيون»، هو جزء من هذه الاستراتيجية الكونية.
يمكن الإشادة بالترجمة الذي أنجزها الأستاذ محمد عبد المومن، لوثائق في حوزة الأرشيف الإسباني. إنها ترجمة دقيقة وسلسة لوثائق كتبت بلغة قديمة، فالأستاذ بذل جهدا كبيرا لتقريب مضامينها إلى القارئ العربي.


الكاتب : بقلم د. عزيز الهلالي

  

بتاريخ : 25/09/2020