قراءة نقدية للديوان الزجلي «قميص الليل»للشاعر عبدالجليل الفولادي الأسفي

أتقدم بهذه المقاربة النقدية لديوان «قميص الليل» وهو آخر ديوان زجلي لمؤلفه الشاعر والزجال الأستاذ عبدالجليل الفولادي الأسفي، الصادر عن مطبعة «بصمة لصناعة الكتاب» سنة 2022. في طبعته الأولى وهو من الحجم المتوسط، أما الإخراج الفني والتقني للديوان فكان من إنجاز الفنان توفيق البيض. يقع الديوان في 76 صفحة ، حيث بدأه زجالنا بقصيدة «قميص الليل» التي نالت حظ تسمية الديوان، وختمه بقصيدة «ساكن لمُوج» وبينهما 35 قصيدة أخرى.

 

من خلال إطلالتنا على صورة غلاف الديوان، يتضح لنا أن قميص ليل شاعرنا لا يشبه باقي الأقمصة التي اعتدنا الاستئناس بها في الواقع، بل هي أبعد من ذلك في عمقها المجازي. باعتبار أنه قميص ذو حمولة سبَقَنا الليل إلى سبر أغوارها. فمتى سينبلج فجر هذا الليل كي نتحرى مكنونات هذه الحمولة…التي تركت نفسية شاعرنا تئن من ألم الجراح، والتي يمكن أن نستشفها بوضوح من خلال مقطعين من قصيدة «قميص الليل» الأول هو مطلع القصيدة والذي يقول فيه زجالنا :
لبست قميص الليل…
ؤ تهت ف دروبو…
بالصبر انجاريه…

إذن لمجاراة ارتداء هذا القميص لابد من التحلي بالصبر مما يوحي بأن ارتداءه غير ميسر لأي كان.
ثم المقطع الثاني خاتمة القصيدة وهو كالتالي:
فيه لَام لجُرح…
في شوني…
وَ القَلب إِنِين…
وكلمة «فيه» هنا تعود على الليل، والليل في العادة هو أنيس الأدباء والشعراء والأحبة والمكلومين والمظلومين، فيه تتم النجوى بين العبد وخالقه، بين العاشق وقلبه، بين الإنسان وضميره. حتى قيل : في الليل احترفت البكاء وأدمنت النظر إلى قلبي.
عبدالجليل الفولادي هو من مواليد حاضرة أسفي. نشأ وتربى في أزقتها وبين أحيائها، تنفس هواءها المشبع برذاذ البحر ورائحة التراب، زجالنا إلى جانب كونه شاعرا فهو رياضي وطباخ ماهر ومولع بقصبة الصيد التي خصص لها قصيدة في الديوان تحت عنوان «أنا والكصبة». وتؤكد إنتاجاته بصفة عامة أنه يتمتع بحضور وازن ضمن فعاليات الساحة الأدبية المحلية.
في البدء وقبل الخوض في قراءة هذا الديوان، لابد من توضيح أن الرؤى تختلف انطلاقا من اختلاف زواياها. وبالتالي فليس من المنطق أن تكون لنا نفس القراءة، أو يحصل بيننا اتفاق بشكل قطعي تجاه أي نص يطرح علينا. فحسب «جون شتاينبيك» في كتابه (شتاء السخط) أو (شتاء الأحزان) يقول : «لكل قصة نسخ بعدد قرائها، يستلهم كل شخص منها ما يريد حسب استطاعته، ليغيرها وفقا لمقاييسه، ينتقي البعض أجزاء رافضا ما تبقى، ويضني البعض القصة بتحاملهم،، بينما يراها البعض كما يطيب لهم أن يروها.»
فمن خلال قراءتنا لقصائد ديوان «قميص الليل» نستشف أن نصوص هذا الديوان تعالج مواضيع آنية لها حساسيتها وأهميتها، وفي مجملها هي نصوص تطرح كثيرا من الإشكالات الاجتماعية التي يشارك في تركيبتها كل ما هو نفسي وتراثي وعقدي وغزلي ومناسباتي.
وهنا لن أمر مرور الكرام على تلك القصيدة والصورة المرافقة لها التي طبعت ظهر الغلاف، فالصورة تجسد المحبة العميقة المتبادلة بين الشاعر ووالدته. أما عنوان القصيدة فهو «غصة القلب» والغصة هي ذاك الحزن العميق الذي يترك فعلته حتى على تضاريس الذات فيحيلها حطاما منهكا . إذ ندرك وبوضوح أن فراق الشاعر لأمه قد ترك حزنا وبكاء وغصة في القلب، ومن جميل ما قاله شاعرنا في رثاء والدته :
دمعة نازلة…
ف ادواخلي…
جارية وِيدان…
ب دموع جافة..
على خدودي..
رسمت طرقان…
غصة ف القلب…
نهر جارف…
طلعت تنهيدة…
اشتا و اسحاب…
ف زمان خارف…
ضلوع مكسورة..
راضية بالمكتاب …
بالدم سالت…
بحور كثيرة …
على فراق…لميمة…

فالزجال الفولادي من خلال قصيدة «غصة القلب» قد جدد ألم كل مفارق لعزيز عليه وبطريقة سلسة وخفيفة إلا أنها كانت شديدة اللهجة قوية التعبير. وبالمناسبة نترحم على والدته وعلى جميع أمهاتنا وآبائنا وأحبتنا الذين فقدناهم إلى جنة الفردوس.ونلاحظ كذلك أن باب الأخلاق مفتوح على مصراعيه عند زجالنا، هذا الباب الذي كاد يصبح مفقودا في وقتنا الراهن. إذ من خلال بعض متون الديوان نستشف ذاك الخيط الرفيع بين الحب والحقد، ثم كيف يجسد لنا تلك المثلبة الذميمة التي هي الحقد في عدة مقاطع معبرا عنها بلفظة «الســم» والسم عند شاعرنا ليس كذاك السم الذي رشف منه الفيلسوف سقراط وهو يتحدى أحد الأطباء الذين طمعوا في نيل حظوة لدى الملك، وإنما ذاك السم المنبعث من نفوس لئيمة خبيثة لا تؤمن بالحب ولا الود ولا الإيثار.. وكما هو معلوم فمن طبع اللئيم سوء الخلق وعدم التورع في إلحاق الأذى بالآخرين من أجل عيش لحظة سادية عابرة، والسم عند شاعرنا هو وصف مجازي للحقد الذي من مرادفاته الضغينة والغل والشحناء والبغضاء والغيرة والعنصرية وغيرها. وكلها تنتعش وتجد وسطا حيويا لها في النفوس الخبيثة التي قال في شأنها الأديب الكبير وليام شكسبير ( تبقى النفوس الخبيثة خبيثة ولو أعطيتهم من الود أطنانا). وحين تتفاعل عناصر الخبث تأكل نفس صاحبها من الداخل مما يولد الرغبة الشديدة في الانتقام.
وعند زجالنا نجد السم مقرونا بالعديد من الصفات والأفعال التي تطبع السلوك الفردي للإنسان، ففي قصيدة «ركلام» نجد السم مقرونا بالكلمة حيث يقول :
كلام مزوق بالسم…مرصع
على لسان الجهال…
كلام كلو زور ؤ ظلم…
ما يرضاو به العقال…

وكذلك في قصيدة «فوق لغيام» حيث يقول :
ب المحبة الزايفة…بالحرف الموزون…ب الكلام لمعسل…ؤ السم المخزون…
أما في قصيدة « زمان واش من زمان» فنجد السم هنا مقرونا بوسط النشأة والتربية حيث يقول :

الصافي الصادق…بالكدوب دواو فيه…
السم ؤ الحسد…من الصغر ترباو فيه…

بل نجده أحيانا مقرونا حتى بأعضاء بشرية في قصيدة «كلاب نباحة»

كلاب نباحة…حدها الكاعة…انيابها ما ترحم…عامرة ب السم…

وبعودتنا إلى باب الأخلاق دائما والذي أعتبره الدعامة الأساسية والرئيسية في بناء حضارات الأمم، فإن ديوان «قميص الليل» لا يخلو من قصائد تجوب متونها دروب الحب، لتزرع التفاؤل والغبطة والسرور في النفوس. وكما قال الأستاذ الشاعر الأديب سي عبدالرحيم الخصار في كتابه «خريف فيرجينيا»: (ليس مهما أن تكون هناك محبوبة أو لا تكون، لكن المهم بالنسبة إلي هو أن يكون الحب، أن يبقى ويستمر نكاية بكل يأس مثل أنبوب أوكسجين في رئة رجل ميت). نفس ما ذهب إليه زجالنا في قصيدته « الساكية» حيث قال :

ملي اضربت لفكد فيا…طويت لعلام…
واهجرت لمكان…لقيت راسي افريد…
حالي حال الساكية…ماها يروي..
الدوالي الخالية…
تدور بلا حساب…فرحتها عداب…

إلى أن يقول :
حالي حال الساكية…نعطي بلا حساب…
بالمحبة والخير…فياض…

وفي استمرار عطاء «الساكية» إشارة إلى أن المحبة والخير هما سمتان تطبعان استمرارية الحياة التي لا يمكن أن تستقيم سيرورتها بدون حب. وفي نفس السياق تصب قصيدة «فـــرادي».
فعلى مدار الديوان يطلعنا الزجال الفولادي على بعض المشاهد الحياتية التي طبعت الوضع العام من قبيل النفاق والطبقية والغش والخيانة والربا وطغيان المادة ثم نجد كذلك مشاهد أخرى عن بعض الطقوس كالتبوريدة وكناوة وطياح المنسج والولادة ثم عن الهجرة السرية وهذه الأخيرة استأثرت كثيرا باهتمام شاعرنا نظرا لخطورتها، حيث خصص لها قصيدتين ضمن ديوانه هما : «سجدة» و «مزاوك فيك».
فمن خلال قصيدة «سجدة» يطرح الشاعر أمرا ليس بالهين استشرى بين مختلف فئات المجتمع وكاد أن يبلغ درجة القدسية. فبعد أن كانت أمنية كل مسلم الفوز بسجدة أمام الكعبة المشرفة مع ما يلازم ذلك من إيثار مادي و معنوي، في سبيل تجديد الولادة وبلوغ درجة النقاء الروحي، يبدو أن سمت تلك القبلة المنشودة قد انحرف شيئا ما لدى البعض من اتجاه الشرق إلى اتجاه الشمال. كما أن قصيدة «سجدة» قد عرت عن السبب الحقيقي للظاهرة من خلال ما يلي :

ظهر لكذوب عريان…عراه لبحر هادي مدة…
زين العرسان…نوى يغادر لمكان…
اليوم قبل غدا…

فحينما يصبح الكذب منهجا سياسيا أساسه الخداع وتزييف الحقائق علما أنه أمر محرم في كل الأديان، لأنه يقترن بعدة جرائم منها الغش والنصب والسرقة. ومن هنا تأتي مسألة سرقة إرادة الشعوب والمستضعفين فيصبح بذلك الصدق غريبا، وعندما يغيب الصدق تغيب الثقة. وركوب البحر عند شاعرنا ما هو إلا تفسير لمطلب واحد وهو البحث عن الثقة بدليل قوله في نفس المتن :

يحلم و يطير …ف سماه…يقطع لبحر…
تزول الشدة..
وصولو لابدة…
ؤ عند وصولو…لبلاد الروم…
يسجد لمولاه …سجدة…

من جهة أخرى لا يمكن التغاضي عن الرؤية العميقة التشخيصية لشاعرنا تجاه مختلف مناحي الحياة، سواء تعلق الأمر بالمكان أو الزمان أو الموجود بينهما. ومن خلال الموجود يمكن تحديد عنصري الزمان والمكان. الأمر الذي أعطى صورا بديعة لشتى المواقف « لا نمل من الوقوف عندها والتأمل فيها»فهناك من سيعتقد «أن السر يكمن في انتقاء الكلمات وملاءمة بعضها البعض، ومنهم من سيرى أن السر كامن في المعاني دون الألفاظ، ولكني أميل إلى أن السر يكمن في الأمرين معا».
وبالتالي فهو ينسج متونه بلغة شديدة البساطة وعلى طريقة إبداعاته الشعرية مما جعل عمله الإبداعي هذا يُقدم بشكل يمكن القارئ والمتلقي من الاستمتاع. ومن الصور البديعة الواردة في ديوان «قميص الليل» ما يلي :
بين صباعو.. اقراقب احديد…
هجهوجو مسارن كديد…
بخورو جاوي صلبان…
غناه تنهيدة..
على طبل رنان…غناه صرخة…
حررت لعبيد…ايام ازمان…(ص33).

صورة أخرى :
لابس اقناع لمحبة…
كربتو مخرومة تسيل…
حموم الكانون…
حنة ف كف عزبة…
تسَيفَت شجرة….(ص53 ).

صورة ثالثة :
صوت لغدير…يناجي حمامو…
لحاتل فيه…يرفرف عل الخد.. راوي…(ص55 ).

فالمتتبع لقصائد الزجال الفولادي سيلاحظ مدى اهتمامه بتسجيل ما حفظه من مخزون تراثي في الذاكرة، تمت إعادة كتابته مرة أخرى بمنهج أدبي يتميز بالسهولة والوضوح، وبشكل حافظ من خلاله على ذلك الزخم والثراء اللهجي الذي كاد يضيع بفعل النسيان أو غلبة الحديث والدخيل في لغة التخاطب اليومي. علما أن شاعرنا قد نشأ وترعرع في بيئة حضرية متمدنة هجرت في معاملاتها وتواصلها كثيرا من المصطلحات. فكما أن لكل زجال بصمة خاصة تميز طريقة نسج قصائده، والتي هي خلاصة ونتاج ما اعتمل في بيئته من محددات، فإن شاعرنا عبدالجليل الفولادي لا يحيد عن هذه القاعدة مما جعل قصائده موسومة بنوع من الخصوصية والتفرد.
وقبل الختام فكل الدعاء أن أكون قد وُفقتُ في الكشف عن ملامح واحد من الباحثين في التراث الشعبي من أجل تثمين إنتاجه ديوان «قميص الليل» وتقديمه للحاضرين بنظرة حاولت من خلالها تسليط قليل من الضوء على المتن الزجلي رغم صعوبة تشعباته وفهم خباياه. إنه الزجال المبدع عبدالجليل الفولادي الأسفي.

المراجع :
رواية شتاء الأحزان ـ جون شتاينبيك (عن روايات الهلال).
خريف فيرجينيا ـ رحلات إلى أوربا وأمريكا لعبد الرحيم الخصار
عن دار نشر الكراس المتوحد.الطبعة الأولى 2017
نظرات في الأدب والنقد ـ عبدالرزاق البصير.سلسلة كتاب العربي (الكتاب 28ـ 15 يوليو 1990)
نفس المصدر.
إطلالة على أعمال عبدالعزيز المُسَلَم. الباحث والمبدع والراوي.
مجلة الثقافة الشعبية، الصادرة عن المنظمة الدولية للفن الشعبي. المنامة ـ البحرين…خريف 2021 .عدد 55 ص 220


الكاتب : أحمد قيــود

  

بتاريخ : 09/12/2022