قصائد لتشييع القتلة قراءة في « تمارين تسخينية» لعبدالله المتقي

هل يمكن للقصيدة أن تتصدى للبندقية؟ وهل يتسنى للشاعر يوما أن يعلن نهاية الحرب، ويكنس باستعاراته وإيقاعاته، أذيالها الكريهة ؟
ذانكما هما السؤالان الرئيسيان اللذان يتبادران إلى ذهن قارئ قصائد هذا ديوان» تمارين تسخينية لترويض القلق» الذي بين أيدينا للشاعر عبدالله المتقي ويلحان عليه، ويدعوانه إلى التفكير في الحرب، وتأمل صورها المتعددة في النصوص، ومحاورة الشاعر في رؤيته لها . فعلى طول صفحات « تمارين تسخينية «تواتر حضور الحرب مدارا دلاليا ومصدرا للصور والمجازات، ولعل في كثرة النصوص التي تضمنت عناوينها كلمة «حرب» وتنوع صيغ استحضار هذه العبارة في العناوين دليل بارز على ذلك، بيد أن الحرب في قصائد أخرى لم تتضمن عناوينها إشارة إلى الحرب، وفي ذلك ما يقوم دليلا ناصعا آخر على أن الحرب هي قصيدة القصائد في هذا الديوان، والصورة الرحم الأم التي منها تتناسل سائر الصور الشعرية ، إنها الموضوع الأكبر الذي استبد بالقول الشعري وهيمن على تفكير الشاعر ووجدانه ووجه خطابه إلى القارئ، فصار الديوان كله أشبه ما يكون بقصيدة واحدة تتعالى صيحة فزع وسط الخراب العام في قلب هذا الليل العربي الطويل الذي هرب صباحه الكاذب، وصرخة إدانة يرفعها الشاعر مثلما فعل قبله : آرثر رامبو في وجه المعروفين والمجهولين، الحاضرين والقادمين، لكن « رامبو»سرعان ما يئس من الشعر وانفض عنه وطلقه يجري في الصحاري العربية باحثا عن المال والسلاح والعبيد، أما عبدالله المتقي فتمسك بالقصيدة ، حاميته الأخيرة وسلاحه الأوحد في وجه القتل والدمار .
هذه القصيدة ليست نصا يكتب مرة ويودع بين دفتي ديوان ثم يطبع ويلقى به في الأسواق ، إنها مسار حياتي ممتد يتداخل فيه الوجودي والأنطلوجي، ويتشابك فيه المنجز النصي المنتهي المحسوس بالمرام الشعري المجرد الكافر بالرضا عما كان، الظامئ دوما إلى التجدد والانبعاث في كينونة نصية لا سابق لها.ولقد نبه الشاعر هذا المعنى ووشى به إيحاء وإيماء عندما اختار لديوانه هذا العنوان المغرق في البساطة والنثر والاتصال بعالم الكرة :» تمارين تسخينية»، بلى إن كل قصيدة تكتب هي تمرين لكتابة قصيدة جديدة بطلها الشاعر يظنها وهما للقصيدة،ولكنها متى خلدها في الورقة تراءى له ما يعتورها من عرض ونقصان فينصرف عنها إلى ملاحقة غيمته وهي تستعيد رحلتها في سماء الاستعارة .
أفيقدر الشعر إذن على محاصرة الحرب وطردها؟هل بإمكان الشعر، هذا النهر التيار المتجدد المتدفق أبدا في الزمان والمكان، أن يقبض على الحرب، هذه الجملة الاعتراضية الركيكة، ويفتتها ويجعلها خيطا من الماء العكر لا يرى له أثر في دراسات مياهه الطاهرة ؟
ذلك هو رهان الشاعر عبدالله المتقي من قصيدة إلى أخرى، ومن تمرين إلى آخر، ويصعب أن نخط لصراع القصيدة مع الحرب خطا تطوريا ما في الديوان،وإنما هي جولات وأطوار تتقلب بين التفاؤل وبين الحماسة والإحباط، حينا تنتصر على الخراب وتبدو قدرا لا مفر منه ، وحاضرا أبديا لا بد منه :
الآن يبدو كل شيء حربا
جاره سقط شهيدا
قبل ثوان
في الغرفة الأخرى
الأطفال يعدون القذائف
وأحيانا يخطؤون الحساب
زوجته ترتب نهديها
كي تموت مرضعة
بعد قليل سيموتون جميعا
ولن يحبوا الحرب «
وحينا آخر تنصر القصيدة، وتعلو بيارقها ذرى السماء، ويجد الشاعر في نفسه مقدرة ليخاطب الجندي المتقاعد ويقترح عليه إهداء أحلام الشعراء، عوضا عن الحرب وكوارثها :
وفي مناسبة أخرى، اخترق الشاعر المسافة الفاصلة بين الحقيقة والمجاز، واستحضر الحرب كائنا يتوجه إليها بالحديث داعيا إياها إلى أن تموت بدل أن تهب الموت للحياة :
« أنت أيتها الحرب ..
جربي أن تسهري ملء جفونك
في حانة صاخبة كما موسيقى الجاز
وعلى رصيف منتصف الليل
دوسي ذيل قط
كي يمزق المواء صمت الليل «
لكن الحرب المعروفة، حرب العالم الخارجي، توازيها حرب أخرى يحتدم أوراها في عالم الشاعر الداخلي، وفي رأسه وروحه تضطرم صراعاتها وتناقضاتها :
« في رأسي …
مساء بارد على زجاج نافذة البار
أشجار بلا عصافير في غابة الحياة
طائرات تلوث الهواء الطلق
قطة مرقطة تقضم بيانا حربيا «
إن هذه المشاهد المتنافرة التي التقت في رأس الشاعر هي صور أخرى حريصة تحيل مرجعيا على مشاهد الحروب الواقعية المندلعة هنا وهناك، فكأن القصيدة «مساء بارد»، هي القفا الواقعي المرجعي لما ذكر عن الحرب في القصائد الأخرى لماحا ومجازا. وقد تجاور في قصيدة « أبالسة تدمن الجنس» المرجعي والمجازي، فكانت رأس الشاعر المضمار الذي جرت فيه وقائع الحرب :
« في داخلي ..
شوارع ومتاريس
طائرة عابرة في السحاب
طفل بساق واحدة
شعارات متورمة على الجدران «
ولا شك أن تكرر تركيبي «في لرأسي» و»في داخلي» مرات عدة إشارة لا لبس فيها إلى وعي الشاعر بالعالم وعيا شقيا يفرض عليه أن يغادر موقع الشاعر الرومانسي المتفرغ إلى تأمل الطبيعة، وتقصي مواطن الجمال فيها من جهة، وموقع الشاعر الغنائي المتعامل مع الشعر على أنه أداة تعبيرية عن الأنا في انفصال عن الآخر والعالم من جهة أخرى.
إننا مع عبدالله المتقي إزاء شاعر آخر انغمس في واقعه وتشرب زمنه الوطني والقومي والعالمي، حتى صار متسع الأبعاد إلى درجة يختزل فيها العالم بأسره،وصار العالم ضيق الأبعاد إلى درجة أمكن معها أن ينحشر في ذات الشاعر، إن الأنا والغي، الفردي والجماعي، والمحلي والكوني، هي هنا أطراف ثنائيات حلت وانفكت وذابت في بوتقة القصيدة التي جمعت بقليل من الكلم أركان المعمورة بصخبها وإفكها وقتلاها وحروبها .
إن القصائد التي نقرؤها في هذا الديوان لا تصف العالم، بل تسرقه وتخبئه في الكلمات حماية له من القتلة، الشاعر والعالم واحد، والمجاز والواقع واحد، والشعر والنثر وجهان لفعل واحد ، هو مضارعة إعجاز الخلق والإنشاء، لذلك نجد الشاعر يخاطب أناه في قصيدة «الشاعر والحرب»، مانحا إياه الأمل في الغيبة عن العالم والهروب إلى اليوتوبيا :
« بإمكانك أن تكون وحدك
في هذا العالم الذي يساوي حربا
ولا بأس من بارق أمل
في أصابع تأتي بالشمس
وتعيد الدم إلى شرايينك
كي تعيش في اليوتوبيا أكثر «
لكنه لا يعتم أن يتفطن إلى استحالة هذا المهرب، وأن لا حيلة للشاعر إلا أن يخترق العالم، ويجد له فيه مكانه، مكان الحالم المنشئ لكون أجمل من الكون القائم :
« لم أعد أحبني وحيدا
في رفة ضيقة
غير آبه بما يحدث
لهذا العالم الذي يشبه
جنة جاهزة للحرب والخيانات
لن أفتح جهاز التلفاز
كي لا أكون جثة إضافية»
أترى الشاعر قادرا وهو يلتحم بأحلامه ويتلفع ببرد البدايات أن يحمل الخير للبشر، ويزيل أشباح الحرب فلا يراها الناس في نشرات الأخبار ؟
ورغم أن القصيدة لا تسأل أأنجزت أم لم تنجز، فهي الإنجاز والتحقق، ورغم أن الشاعر لا يملك أن يعطي الناس إلا حرية الحلم ولذة الاستعارة، ورغم هذا وذاك فقد انحاز عبد الله المتقي في «تمارين تسخينية» إلى إعلان ديمومة القصيدة والتبشير بنهاية الحرب.
في نص «القصيدة لا تموت» يصف القصيدة وهي تفتح حقيبتها رمزا للمنح والهدية، وتخرج قصائدها المبللة بالمجاز إيحاء بالحياة والخصب :
« القصيدة لم تمت هذا الليل
عادت لشقتها
كي تغرق في فنجان من الضحك
وكي تخرج من حقائبها
قصائد مبللة بالمجاز «
ومثلما افتتح الديوان بقصائد تعلن عن هيمنة الحرب على الحاضر، اختتم بقصيدة تحمل عنوان « بعد انتهاء الحرب»، وسواء أصدقت نبوءة الشاعر، وانتهت الحرب فعلا أم خاب تفاؤله واستمر البشر في غبائهم القديم، ولا ينتهون من حرب حتى ينخرطوا في حرب، فإن القصيدة باقية مستمرة متجددة كتيار النهر تنبئ بقدوم القتلة، وتفضحهم وهم يعفسون الحشائش الصغيرة الخضراء بأحذيتهم العسكرية السوداء، وترفرف وهي تبشر بانسحابهم، وتقهقه مشيعة لهم إلى مزابل التاريخ، ولكنها لا تغفل في الوقت نفسه عن أن تشرئب إلى الأفق مراقبة قدوم القتلة الجدد.
لذلك لا تكتمل القصيدة ولا تنغلق، لأنها لا تشيخ ولا تقدم، ومهما عتم ليلنا العربي واكفهرت بالسواد سماؤنا فإنها لا تفارق موقعها في ملعب التاريخ صبية تلبس زيها الرياضي، وترسل مع الريح ضفائرها تحوم حولها العصافير الصغيرة، يحسب الناظر حركاتها رقصا ، ولكن- ما هي إلا « تمارين تسخينية « .

*عبدالله المتقي ، تمارين تسخينية لترويض القلق ، الآن ناشرون وموزعون ، الأردن ، 2019
* ناقد ومترجم تونسي


الكاتب : محمد آيت ميهوب *

  

بتاريخ : 13/02/2025