قصة .. الحالمون إلى ما لا نهاية

كان يشعر بنفسه ضائعا كأمير منبوذ، وهو يحدق في مياه النافورة البيضاء الشاحبة، الخالية في هذا الصباح من أي علامات الفرح والاحتفال. عائدا من جوف ليلة طويلة قضاها أمس في التعب والسهر كحارس أمن خاص للشركة السياحية الكبرى المشهورة بالمدينة.
عندما خسر مشاريعه العظيمة وبارت تجارته، منذ عامين، بفعل تقلب الأسواق العالمية، انحدر بغتة، على نحو قدري، إلى حضيض الهرم الاجتماعي.
لم يكن حزينا ولا محطما، فكل المباهج التي عاشها وهو أحد أشهر أثرياء المدينة النزهاء، تجعله يشعر بأنه لم يخسر شيئا، وبأنه مازال ذلك الغني الكريم قبل أن يفتقر.»بإمكاني أن أستنشق نسمة البركة بين راحتي، فتحتل جسدي عاصفة من الشبع. «
يرصد الماء الهادر في نافورة الساحة التي تكتظ عادة عند الظهيرة، لكن المكان شبه خال الآن، والساعة تومئ: السابعة والنصف صباحا..جلس مبتسما، كان يحدق في ذرات الماء التي تحملها نسائم الصباح وتطوح بها بهدوء ورقة، صوب التلاشي في المدى، وهو يحلم بالعودة إلى ذاكرته الأولى كما يحلم متوفى بالعودة إلى الحياة.
جسده متعب، عطشان للنوم إلى آخر قطرة ممكنة، سيذهب إلى البيت ويستلقي على السرير، كامبراطور منفي في آخر حدود الأرض، سيتهاوى بكامل العظمة والجلال اللذين طالما رافقاه في مجد أيامه الغابرة.
كيف كان يمكن للإنسان أن يهرب من حصار هواجسه وأوجاعه، لولا حقه في النوم والذوبان بعيدا عن جسده ووعيه، في الحلم؟
تساءل وهو يحدق في أقراص الضوء المتشظي عبر خصاص النافذة ، صانعا أشكالا فسيفسائية باهرة. عبر كل نقطة ضوء لفظتها الشمس، كان يتملى في سحرها محاولا أن يستحضر ملاك النوم.
كل أمانيه أن يحلم، ويحلم، ويحلم بأنه يحلم، حتى لو كان يحلم صباحا.
رأى نفسه، فجأة، يحلق في السماء البعيدة كطائر حر..شعور حريري، حي، لم يستشعره منذ زمن بعيد. كان يرى نفسه يجوب ذاكرة حياته الماضية لحظة لحظة، صورة صورة، كان ينزل تارة نحو الأرض ينقر حبات الذهب المتلألئة الصافية، بدل حبات القمح ،ثم يعود سريعا، ليحلق صوب الأعلى. «أيها الذهب اللماع الخائن لطالما أحببنا بعضنا، سألتهمك الآن، قبل أن أجوع أعمارا جديدة.!»
كان يبصر من أعلى، حشد الدائنين يصيحون في وجهه البعيد، الأقصى، وهو يرتفع، يرتفع، عاليا حتى أنه لم يعد يراه أحد، ولا صار يسمع صوتا، لا يسمع سوى الصمت الرخامي الآسر.
حينما هم بالنزول إلى الأرض، لم يستطع، أراد أن يستفيق، متذكرا في أقصى نقطة من الوعي أنه يحلم، يريد أن يصحو من هذياناته الحلمية، صرخ بكل قوة في الهواء.. صفعه الصدى المتراخي كسراب، جف حلقه..أطبقت دوامة الحلم بشباكها الهلامية على جسده ووعيه إلى ما لا نهاية.

إضاءة:

حينما أنهى السارد تفاصيل قصته، أراد أن ينسحب من حلمه، حيث كان يحلم بأنه يكتب عن تاجر خسر مجده الاجتماعي ليعيش حياة الكادحين البؤساء الذي كان يحلم ذات صباح ويحلم بأنه يحلم، لكن دون أن يستطيع الخروج والانفلات من جاذبية دائرة الحلم..وكأنها مغناطيس يجذب نحو غيابات الهاوية.
ما حدث فعلا للشخصية بدا حقا، نفس مصير خالقها اللغوي التخييلي:السارد الحالم.


الكاتب : رشيد مليح

  

بتاريخ : 18/07/2025