قصة بوبكر وان ديالو الإنسانية، المتطوع المكلف بتكريم جثث المهاجرين الطافية على شاطئ مدينة الناظور

 

في مقال على الموقع الإلكتروني لجريدة “ذي نيويورك تايمز”، أشرفت عليه الصحافية عايدة العلمي، ونشر بتاريخ 28 من غشت الماضي، تتحدث فيه الصحافية، عن سعي بوبكر وان ديالو، ذلك الرجل الإفريقي من أصول غانية، المستقر في المغرب وتحديدا بمدينة الناظور شمالا، لتكريس حياته في سبيل توفير مثوى أخير لائق لجثث المهاجرين، الذين يلفظهم البحر الأبيض المتوسط، على شاطئ الناظور ، وتكريم مثواهم عبر دفنهم بطريقة لائقة.


بمرور الوقت، لم يعد بوبكر وان ديالو، قادرا على النوم ليلا من هول ما شاهده من جثث ملقاة على شاطئ المدينة، لدرجة أصبح معها ينام في غرفة منارة دائما.
يعمل بوبكر وان ديالو كمتطوع، من حين لآخر، مع “آلارم فون-AlarmPhone”، وهي مجموعة دعم عبر خط هاتفي ساخن، تنشط ما بين المغرب وأوروبا، التي تمرر له العديد من الاتصالات الهاتفية، التي يتلقاها من النساء والأطفال، الذين يناشدونه لإنقاذهم من ويلات أمواج البحر، قبل أن يبتلعهم ويحول سفنهم إلى حطام بحري.
إن هذه الاتصالات الدائمة، لم تكن أكثر أمر يرعب أبو بكر، خاصة أثناء نومه، بل إن ما سبب له أسوأ كوابيسه، هو منظر الجثث مجهولة الهوية التي جرفتها مياه البحر نحو شواطئ مدينة الناظور، إذ اعتاد على رؤيتها مكدسة في ثلاجات الأموات بالمنطقة، دون أن يسأل عنها أحد، ما جعله يتعهد بتكريمها عبر دفنها بطريقة لائقة، إذ يقول في هذا الصدد “إنه لمن دواعي سروري أن أتكفل بدفنهم”، ويضيف “إنا لله وإنا إليه راجعون”، كما يعقب بالقول “أريد أن أتقرب أكثر من عائلاتهم. هذا العمل يشعرني بالسعادة، بالرغم من أنه يؤلمني شيئا ما، عندما أرى أناسا يدفنون دون حضور عائلاتهم، محاولا أن أضع نفسي مكانهم”.
بالحديث عن بوبكر وان ديالو، فهو شاب في ال32 سنة من عمره، ابن لموظفين في الحكومة، ولد في “غيكيدو” جنوب غينيا وترعرع في العاصمة كوناكري، والده المتوفي حاليا، تزوج من أربعة نسوة، وله منهن 25 طفلا سبعة منهم من أم أبو بكر التي تعتبر زوجته الرابعة. بعد حصوله على شهادة القانون من جامعة كوفي عنان في غينيا، أشرف على أستوديو للتسجيل وفر كلمة حرة لمعارضي النظام، ما أوصله إلى مرمى قوات الأمن المحلية، التي أجبرته، كما شاءت الأقدار، على أن ينتقل من غينيا نحو الناظور في سنة 2013، بغية الحفاظ على سلامته الشخصية.
مع ما توفر لديه من مال إدخره في غينيا، توجه بوبكر وان ديالو، دون خطة مسبقة نحو المغرب، الذي سمع عنه أصداء طيبة دفعته قيد الوصول إليه للبحث عن عمل به، ولِما لا بداية جديدة بهذا البلد. ابتدأ مسيرته المهنية، من مدينة الدارالبيضاء حيث التحق به أحد أصدقائه، القادم من مدينة الرباط، الذي تعرف عليه خلال رحلته إلى المغرب، ليجوب على إثرها جميع مناطق البلاد، وليستقر بمدينة الناظور، حيث يقول بأنه لم يطمح أبدا للعبور نحو أوروبا من خلالها، ويضيف “في بعض الأحيان، أقول إن الرب قد أرسلني إلى هنا لمساعدة الناس، وكأنني أنا المسيح هنا”، معقبا “أعلم أن والدتي فخورة بي، فمن ساعدتهم يخبرونها بكل شيء”.
في السنوات التي تلت قدومه إلى مدينة الناظور، أصبح الأيقونة الأجنبية المعروفة بها، والتي يرحب بها ساكنة المدينة دائما. كمهاجر، تمكن أبو بكر في بادئ استقراره وتسوية وضعيته القانونية، من التكيف بمرور الوقت، مع ما كان يتلقاه من عنصرية وتمييز طال السود القادمين من دول جنوب الصحراء، إذ لطالما اعتبر هذه العنصرية أمرا روتينيا بالنسبة له. تمكن كذلك، من الحصول على عمل بدوام كامل، مع جمعية “آستيكود” المحلية والمعنية بمساعدة المهاجرين العابرين.
يستغل وان ديالو ما تبقى من وقته، وبعد تقديم المساعدة أو توجيه المهاجرين نحو الصيدلية أوالطبيب، أو مساعدتهم في المحاكم أو زيارتهم في السجن، في التعرف على الجثث الجديدة التي يصعب تمييزها حتى من قبل ذوي الهالك، بفضل علاقاته الوثيقة مع المسؤولين المحليين، نتيجة لطول إقامته في المدينة، الذين رحبوا بمجهوداته ويد العون التي يقدمها لهم، بغرض التعرف على مئات من الجثث التي لم يطالب بها أحد.
إن مهمة وان ديالو، ليست بالسهلة إطلاقا، إذ ينبغي عليه كخطوة أولى، أن يبحث عن كل تطابق ممكن، ما بين الصور المرسلة إليه والجثث الموجودة في المشرحة، لينتقل بعدها لطلب المساعدة من السلطات والقنصليات والسفارات، علاوة على إرشادات المهاجرين، الذين احتكوا مع الهالكين بأي شكل ممكن على متن نفس القارب، وإقناعهم بالتغلب على مخاوفهم والتحدث أمام السلطات. في حال فشل كل ما سبق، سيتوجب عليه العودة إلى مجموعات الفايسبوك، وما تحتويه من كم هائل من الصور، كما أن صفحته على الموقع، تبدو كنصب تذكاري يخلد عمله، فهي مليئة بمنشورات عن الموتى.
يجلس بعد رحلته اليومية الشاقة، في غرفته الصغيرة المليئة بالكتب التحفيزية، المحتوية أيضا على حاسوب ومعدات التسجيل الصوتي، بيد أن لوان ديالو برنامج “بودكاست” يبثه على موقع” entrepreneurship”، وبالقرب منه 3 هواتف محمولة، أحدها مخصص للاتصالات الشخصية، والآخر للاتصالات المخصصة للعمل، والثالث لمواقع التواصل الاجتماعي، هذا الأخير يحتوي على صور لحالة عالجها مؤخرا، حيث لم تصدق زوجة الراحل الحامل أنه هو، قبل أن تؤكد والدته هويته، ليتم دفنه على الطريقة الإسلامية.
كما الحال بالنسبة للمتوفي، يطلب وان ديالو، من عائلة الراحل أن تؤكد هويته، ثم يراسلها من أجل منحه توكيلا قانونيا، بغية متابعة عملية الدفن في المغرب، لأن معظم الأسر لا تمتلك المال لسد نفقات وتكاليف نقل الجثة إلى مدينة الرباط (حوالي 14 ألف درهم)، والتي تزيد طبعا في حالة الرغبة لنقلها خارج البلاد، حيث تقول هذه الأسر عادة “ليس لدينا القدرة أن ندفع لك شيئا، لكن الله لن يضيع أجرك”.


إن المقبرة المحلية ليست سوى أرض مقفرة ومغبرة، تحتوي عشرات القبور مجهولة الهوية، تحتوي جثثا مجهولة الهوية كذلك، لا يميزها من الأعلى سوى لوح حجري منقوش عليه تاريخ الدفن، جنس المتوفي ورقم من السلطة المحلية، كما أن بعض الألواح تحمل عبارة “أجزاء من الجسم”.
يدير محمد جاليتا، وهو أحد معارف بوبكر وان ديالو، الذي تعرف عليه منذ ما يزيد عن 3 سنوات، وترأس رفقته العديد من عمليات الدفن، أمور مشرحة طبية صغيرة تساعد في الكثير من الأحيان، على تحمل الجزء الأكبر من نفقات الدفن، ولا تطلب إلا مساعدة رمزية من عائلات المتوفين، وفي حالة تعذر ذلك تتوجه إلى القنصليات، السفارات، الجمعيات والمحسنين بالمدينة.
يتحدث محمد جاليتا، عن الموضوع قائلا “لا يسعك سوى التأسف على هؤلاء، فكل الموتى قد عانوا الأمرين، ولم يصادفوا سوى الموت غرقا، في سبيل الوصول إلى الضفة الأخرى وتحقيق حلم حياة أفضل”.
يحافظ وان ديالو، على ابتسامته وروحه المرحة ورباطة جأشه، بالرغم من مهمة “دافن الموتى”التي يتولاها منذ زمن، وما يواجهه بسببها من كوابيس ليلية تؤرق مضجعه، محاولا تجنب إبداء أي شعور بالانفعال أمام الآخرين، إلا أنه، كما يقول، لم يستطع نسيان حالة واحدة ما زالت تؤثر فيه كلما تذكرها، حالة لرجل من بلده الأم غينيا، غادر الوطن ملتمسا العلاج من مرض الكلى في المغرب، إلا أن الحظ لم يسعفه وتوفي في المغرب، يتذكر وان ديالو حالته متأسفا، وهو يبحث في ما تبقى من أوراقه الشخصية، قائلا “لقد حاولت مساعدته بشتى السبل، وفرت له غرفة في المستشفى، ورعاية طبية وكل ما يلزم، إلا أن قدره كان ينتظره في المغرب”.


للتذكير، لطلما كانت مدينة الناظور، التي تبعد 9 أميال (14.48) فقط عن مليلية المحتلة، نقطة جذب للمهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول جنوب الصحراء، لما توفره لهم من سهولة الولوج إلى الثغر المغربي الواقع تحت الاحتلال الإسباني، ومنه الانتقال إلى باقي بقاع أوروبا، عبر تسلق السياج الحديدي الفاصل بين المدينتين، غير أن الاتحاد الأوروبي منح المغرب في السنوات الأخيرة، كلا من الوسائل والدعم المالي للحد من الهجرة السرية نحوه، ومن أبرز هذه الوسائل تعزيز ارتفاع الأسوار، وزيادة دوريات المراقبة البحرية، وكنتيجة لذلك، انخفضت نسبة عمليات العبور الناجحة بنسبة 50% في سنة 2019 مقارنة بسنة 2018، ما أجبر المهاجرين السريين، على تغيير خططهم والوسائل التي تمكنهم من العبور، لتصبح أكثر خطورة من ذي قبل.
ومع انخفاض عدد المعابر، انخفضت أيضا الوفيات لدى المهاجرين، إلا أن ذلك لم يقلل من عزيمة أبو بكر، على الاستمرار في عمله الحالي، المتمثل في محاولة التعرف على هويات جثث المهاجرين، مما يعطي إجابة نهائية لما يدور في عقول أسرهم وأحبائهم، بالرغم من كونها إجابة غير سارة، حيث يقول “بالنسبة للأسر، التي لا تصدق دائما خبر وفاة شخص ما، فقد يكون الأمر صعب التصديق دائما”.

 

 


الكاتب : ترجمة: المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 11/09/2020