قصة .. عندما يؤوبُ المساءُ

 

دفنا النَّخلة في المقبرة …
وظلت تبتلعُ مصائرَ البلاد والعباد.
في سَنم النَّجف امتدت ظلال وارفة، تطل على شعاب ضيقة، وتقطـِّع أوصال قريتنا الصَّغيرة ؛ آيت عبو الحبيبة. لم يكن الطاهر دوحة فحسب ، بل نخلة بثمار صفراءَ يانعة. تسافر عبر حكايات زمن … تحاكي سيرورة وجوه غابرة ومعفـَّرة بتراب نديٍّ ، وفي الناس العاثرين حظهم في بلادي . لهم ألف كبوة وكبوة، كما يفعل الأدهمُ ذو القوائم المحجَّلة، عندما يقطع أحراش قريتي المالحة .
كان صبيُّ أعرجُ ، ذو أسمال بالية، يسكن بيت الأحزان . بناه بطين أحمرَ أرجوانيٍّ ؛ فعدَّل قوامه بالملح الكلسي الصَّلب ذي العروق المعدنيَّة ، حتى أصبح سقف بيته حديد وركنه حجر … فاعصفي أيتها الرَّوامسُ بالموت، وبكل الخلائق … وبكل ما تبقى من حجر وبشر…
ـ فأنا حفـَّارُ قبور ورموس ، أسمع أنين الموتى تحت أقدامي العرجاء . وبأناملي العَجـْراء أقتات من موتاكم … بماء نمير أروي ظمأهم ؛ فأرش ، تحت أقدامهم، ترابا مسحوقا كالطحين حتى لا يعودوا من أجداثهم المدلهمَّة …
ها هنا… دفنا ماض كان يتقلب فينا وجعا مثل القـُداد . رسم تجاعيده على أطراف أكف تتضرع إلى الله في خنوع و ابتهال … تطلب :
غيثك … غيتك … يا الله .
غيثك … غيتك … يا الله .
فالطَّاهر كان نخلة تمْشي في سُكون الأنبياء، له من هذه الدنيا الفانية؛ فرسٌ بيضاءُ، عيناها كحبات الفستق، تـُستأجر في الحفلات والمواسم . يركبها الصبيان، و يلهون بأعجازها السَّابغة كحورية البحر . و له، أيضا ، سبْعُ بقرات سمان، وسبعُ سنبلات خضر، وأخرُ يابسات .
هكذا الوجع يُطرد من انتظار … لا يعود الطـَّاهر إلى قريتنا … إلا بعدما يؤوب المساءُ إلى بطاحه ؛ فيغطي منازل ودورا واطئة برداءٍ أحمرَ طيلساني. يمر بتؤدة على السواقي ، التي تحفر في التراب أخاديدَ غويرة ، يتشقق لها المقام ؛ فيعلو ويعلو … تروي البقرات السِّمان الظمأى عطشها الوقـَّاد من صهْدٍ و قرٍّ مقيمين في الجوى، ولا يُسمع إلا طقطقات شفاهها المبللة بماء صافٍ زلال ؛ يلمع كحبات الكرز الأحمر أو القمر الأحمر .
يقف الطاهر على رؤوسها كصنم حجري، وهي تنتشي لذة مياه باردة حلوة ونميرة ؛ فيحس معها بنشوة تسري في عروقه المَالحة . من فم أثـْرَمَ متهدل ينشد لها نشيد العودة إلى ديار بئيسة وحزينة، ويفسح لها شهية شرب الماء ؛ فبين الماء و بين النار، مياه آيت عبو الحبيبة دواءٌ لكل سقم ونقم ، تصفـِّي المداخل و المخارج والصَّواعد والهوابط والعروق المعدنيَّة .
طبَه … طبَه …
طبَه … طبَه …
تنفجر الشفتان معلنة عن انتهاء حصة الشرب الهادئ، وهي تتلمظ وتتمطـَّق ما انبجس وسال منها ، فتنزل السَّكينة من مُزنة بعيدة بالرحمة والغفران ؛ لتصعد بعد ذلك ، البقرات السِّمان في غـُنـْج ودلال بين الممرات والشعاب الظليلة . يتناثر من حولها نقعٌ كالعِهن المنفوش ، فتبدو كأنها تحمل، على أكتافها، هـَوْدَجا لعروس قادم من زمن إلى زمن .


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 29/11/2019