«عندما كنت طفلا، كنت أرى العالم بألوان مختلفة، فأبحث عن ظلها في ذاكرتي. لكن، سرعان ما يتغير اللون الذي ينسج روحه من ظل دمي». (هـ.ن)
لم يكن وايل تيري القادم من لندن، منسجما في أغلب الأحيان مع الخارج إلا بفعل العادات فحسب، في أغلبها عادات بيولوجية تتم عبر الفعل المسلط على المادة؛ كأن تأكل حتى لا تفطس من الجوع، أو تشرب درءا لهذا الإحساس المبهم المسمى: العطش. فهو يعيش حياته في الداخل بالألوان. عندما نتأمل كلمة «الألوان»، نقول؛ إنها سيرورة التفكير في الأحداث من جهة ألوانها لا من جهة أشكالها. إنها تبدو ملتبسة في الخارج عندما يرغب في أن ينقلها عبر اللغة مثلا، لهذا تسعفه الهمهمة فقط، حتى يسلك اللون المنبعث في حيز الحدث الرئيس، أو يأخذ وجهة داخل بنية اللون الأول، وهنا يمكن أن نشير إلى طبيعة الانسجام أو التفاوت التي تفرضها منبهات الحدث التي تحدد هذه التقاطعات. لا يمكن فهم طبيعة تعامله مع الخارج إلا في حالة واحدة، تبدو الأقرب إلى انفعالاته؛ حالما ينبح كلبه الذهبي الملقب بكينغ، فيتأمله بلون تضبطه طبيعة اللحظات بالرغم من أن اسم «كينغ» يحيل على الكشف عن حالات الملوك التي تضمن التبجح والدلال أو طريقة البروز أو طريقة الحديث من خلال دبيب الألوان كذلك. الكلب كينغ بحسه الطبيعي، يدرك أن وايل تيري يراه دائما بشكل آخر من خلال طريقة تعامله التي يحددها الأبيض أو الأسود حتما. النباح هذه اللحظة لون من الألوان الحالكة العائمة، تسيح من مجرى الترقبات في خضم الثواني المقبلة التي ستشكل ألوان التنويعات؛ مع العلم أنه سيحرك ذقنه، أو يلوي أذنه بيده، حتى يستشعر الطابع الحسي، بغية تحديد علاقة الشكل، فتخرج «أي»، وتزداد لخبطة الألوان من جديد.
شمس الغروب ألقت بألوانها الحنائية على قرية زيكاراموردي الباسكية. منذ أن زار وايل تيري مراكش، وهو يتصور الغروب على أيادي و أرجل النساء المزهوات بألوان منقوشة من روح غياب وشيك. إنه لبس من جنون الألوان يمشي على ذاكرته، إذن أدرك بحس ذهني؛ أن قرية زيكاراموردي معلقة في يد و رِجل حسناء من الحسناوات تدعى السيدة الساحرة، هي الأخرى ترقب القرية بمقياس الذاكرة اللونية. كانت الأشعة تشكل اللون الداخلي حتما حالما تتفرع إلى خصلات بارتداد يرغم اللون على الخروج من الغموض؛ من المنبهات إلى الاستجابات. وحتى نحيط أكثر بالسياقات والدواعي، بات من الضروري أن نتتبع خيط اللون الأول الذي انبثقت عنه الحكاية الأولى القابعة في العلبة السوداء لذاكرته. مهم جدا أن نحدد الحكاية الأولى التي كان يسمعها عن والده سميث التقني الكهربائي في قصر ويندسور، عن تلك الكائنات الغريبة التي تقوم بطقوسها في ليالي نهاية الأسبوع، حين تهدأ الجلبة، خاصة عقب الحصة الأخيرة والمفضلة لدى الملكة إليزابيث من سيمفونية بيتهوفن « من أجل إليزه «. كان الوالد لا يزال يترنم بالأنغام المتبقية في حلق البيانو أو في حلق أذنيه وهو يقرقع أزرار الكهرباء بسحب الظلام التدريجي إلى الممر حسب توصيات القصر، خاصة الممر المؤدي إلى قاعة الموسيقى. كانت هذه العملية غير مكلفة في حد ذاتها، لكن، الأمر يدعو إلى الترقب باستعداد قبلي، إن لم نتعرض لحكايته الأولى هو الآخر، والموشومة في العلبة السوداء لذاكرته كذلك، من خلال تلك الكتب التي تستند على حلول الأرواح والأشباح في الدمى، وكيف كان يجد سريره قد رتب بشكل جيد، أو الكتب التي تتحول من مكانها رغم إصراره على دقة مكانها، أو طعامه الذي يتغير إلى أطعمة أخرى. بدون شك سيرهف الوالد سميث سمعه لهفهفة وشيكة كإعصار صغير ينبع بشكل تدريجي إلا أن يتسع حجم اللغط المستمد من أحجام التصورات الطبيعية كالزلازل، الفياضانات، والأصوات الزاعقة التي تناشد الصرخة الأخيرة المصاحبة بألوان قزحية موارة بسرعة متناهية، باستثناء مرة واحدة تغيرت الوجهة بالانغماس في الإنارة الفسفورية التي توضح الأبيض الغارق في السواد من خلال الحركات، التمويهات والتهيؤات المتشعبة والمشاكسة كاستحضار تصورات يوم الدينونة. كانت هذه الحكاية تحرك فيه انجذابا حين يخفض من صوته لتسطع ألوان الرهبة، ويصرح في النهاية: أنا على يقين إنها الملكة إليزابيث، حين يجافيها النوم، فتسعد للخروج من ثقل البرنامج الأسبوعي. يقول هذا، واضعا يده على فمه بحركة مسرحية، ملتفتا إلى الجدران خشية أن يسمعه أحدهم، ويدرجه ضمن المزاح غير المرغوب فيه، فيتدارك الأمر ويهمهم؛ بأن هذه القضية لن يفك طلاسمها سوى المحقق البلجيكي محقق أغاتا كريستي السيد بوارو، أو على أغاتا أن تتبنى ملفا آخر من ملفات سكوتلاند يارد في رواية تحت عنوان « الملكة التي تشرب دم بيتهوفن أو إليزه»
الغسق يخفي قرية زيكاراموردي حالما تطلع الكلب كينغ بطقمه إلى فوق. نباحه أفرز اللون الأسود حتما، فكانت الضرورة ملحة إلى تشكيل لون الإشارة الذي ألقت به الساحرة عبر صعود الجبل، واستدراجه إلى بيتها في المغارة اللامتناهية. كان علينا أن نمعن النظر في هذه الفكرة الفانتازية التي شكلت الوجهة اللونية لوايل تيري، خاصة عند باب مغارة الساحرة في فصل اللون الأبيض عن الأسود. إنها الاستطرادات اللونية المحددة سلفا. فقد تفهم وايل تيري بصورة ذهنية بأن يرغم السيدة الساحرة أو الملكة إليزابيث على تبني الإنارة الفسفورية والوقوف في الفاصل بين اللونين. كانت حركات السيدة الساحرة أو الملكة إليزابيث تبدو بصورة مضحكة من كثرة الحركات الساذجة كطفلة في عيد ميلادها الثامن. كادت أن تنفلت منه ضحكة صفراء لولا الهلع الذي اجتاحه، وقد تبين ذلك من خلال النباح المتواصل للكلب كينغ الذي فطن بمنبهاته الكلبية إلى نسبة إفراز الأدرينالين في دمه. الأمر الذي أشر عليه بالتقدم بخطوتين، لنقل بلونين، حتى نجسد المسافة بالشكل المرغوب فيه، أو نجسد الجذب المتداعي من حالات الانوجاد المحفز على المزيد من الخطوات أو الألوان، حتى لاحت هذه المرة ــ إن كنا نرغب في الحديث عن امتثال ذاكرة وايل تيري لقبول الأشكال إلى حد ماــ فتراءت كل الوجوه التي يتطلع إليها في وجوه أطفال من الألوان بدءا من الملكة إليزابيث والوالد والوالدة وكل الأهل والأصدقاء، وهم يتراشقون بالألوان الطازجة، ويهيمون على وجوههم من فرط النشوة. لم يكن يعلم أن والدته السيدة نانسي كانت بهذه الحماسة في طفولتها، والوالد يجيد القفز كسنجاب مغرور، والملكة إليزابيث تطفش بيدها في الألوان، متحدية الأنظمة التي يفرضها قصر بكنغهام الصارم، والعم طوني بائع الحلوى لم تكن له حدبة في ظهره، فقد كان وسيما للغاية. كانت حدة الطفش والتراشق قد بلغت مداها اللوني، فتناثرت عبارة قزحية في الأفق بشكل مائل كبالونات تتهادى: «الأرواح الجميلة تأبى أن تشيخ، وتتلمس وجهتها في الطفولة والألوان معا».
كان الكلب كينغ قد سكت عن النباح، و داهمه نوم عذب بعد أن تيقن أن روح ويل تيري في جنة الألوان.