( إلى حسن نجمي )
1. المُستأجِرُ
الجَديد:
« رْجَانَا في العَالِي
غْرِيبْ وبْرَّانِي»
اتَّصلَ بي، على هاتفي الجوَّال ، صديقي المُحامي مولاي الطيّب العمراني ، ثمّ أخبرنِي بأنَّهُ وجدَ لي ، بعد جهد جهيد ، شقّة للكراء بعمارة « الرَّادُونِي»(*) ، الواقعة بحي « مرسْ السْلْطَان» ، على مقربة من المقرِّ الرئيسيّ لعمالة الدار البيضاءالكبرى.
و على سبيل الإعلام أو ربّما الدُّعابة المعهودة بيننا ، بِحُكم العشرة المديدة ، أنبأنِي بأنَّ هاته العمارة سُمِّيت هكذا ، من طرف عامّة النّاس ، بسبب ولع مالكها القديم المرحوم سي فَرْحَانْ الدَعْبَاجْ ، الذي كان ينحدرُ من منطقة «عَبْدَة « ، بفنون «العيطة الحَصْبَاوِيّة» (**).
كما حدَّثنِي بإسهاب – في نفس المكالمة – عن ثروة الرجل الطائلة ، تلك التي ذهبت أدراج مباهج المُجون العاتي ،و في مهبِّ سهرات «الشيخات» حامية الوطيس ، إلى درجة لم يتبقَّ بحوزته ، في أواخر أيامه الحزينة ، سوى هاته العمارة ، المُؤلَّفة بنايتها السكنيّة الضخمة من تسعة طوابق اسمنتيّة ، كلّ طابق منها يتشكّلُ من تسع شقّق ضئيلة المساحة ، بارعة التصميم ، ذات شرفات صغيرة مُزخرفة على طراز المِعمار الكولونياليّ.
و في صباح اليوم التالي ، وأَنَا أسحبُ خلفي حقيبة ملابسي ، الصغيرة الخضراء ؛ رافقنِي داخل القفص الخشبيّ المُتهالك للمصعد العتيق ، حارس العمارة و بوّابُها ، المدعُو وْلْدْ قْدُورْ النَاصِيري ، إلى ردهة الطابق التاسع ، ثمّ سلَّمني مفتاح الشقّة رقم واحد ، مُمازحا إيايَّ بحكاية مُلغزة عن المكان ، لم أستطع تبيُّن مقصدها ، مُفَادُها أنَّ الفقيد سي فَرْحَانْ الدَعْبَاجْ كان يقطنُ ، فيما مضى ، في ذات الشقّة ، و عقب وفاته بسنين طويلة ، توهَّمَ الكثيرُ من سُكَّان العمارة أنّهم يشاهدونهُ ، بين الفينة والأخرى ، يعودُ إلى مسكنه ، و قد تنكَّرَ في ملابس عصريّة ، غير تلك التقليديّة ، التي تعوَّدَ ارتداءها خلال الأيام العاديّة ، وهُوَ على قيد الحياة .
2. تَاجِرُ الرِّمَال :
«عَسْ يَا لهْبِيلْ
عْلَى نْجُومْ الليلْ «
قضيتُ ليلتي الأولى ، داخل شقّتي الجديدة المستأجرة ، على نحو عادٍ تماما ،هادئ جدا ، حدّ أنّي لم أحلم بأيّ ميّت مُتنكِّر أو أسمع أيّة نأمة صوت ، يحتمل أن تصدر عبر حيطان الشقّة الثانيّة المجاورة .فأقدمتُ ، بمجرّد نزولي إلى بوّابة العمارة الرئيسيّة ، على استفسار الحارس وْلْدْ قْدُورْ عن سرِّ كلّ ذاك السكون المطبق الذي يحيطُ بي إحاطةَ السِّوار بالمعصم .
فإذا به يروي لي قصة غامضة عن جاري المزعوم ، الذي كان تاجراً للرِّمال المُهرَّبة من الشواطئ البريّة غير المحروسة ، ثمّ اختفى عن الأنظار بطريقة غير مفهومة .
فقد أُصيبَ بمرض عضال نخرَ جسدهُ ،و دمَّر خلاياه . ولمّا كان الجميع ينتظرون هلاكهُ الوشيك ، عمدَ بشكل مفاجئ إلى تغيير اسمه الشخصيّ و لقبه الأُسريّ في سجلاّت الجهات الإداريّة والقانونيّة المكلّفة بمثل هذه الأمور ، زاعماً أنّهُ بهذا الصنيع سيهرب من حتميّة القدر، و سيغدو الموت عاجزا عن التعرُّف عليه ، عندما سيأتي كي يمضي به صوب مسالخ الرَّدى .
وقبل أن يعودَ وْلْدْ قْدُورْ متعجِّلا إلى داخل مقصورة الحراسة بمحاذاة البوّابة الأماميّة ، نقلَ لي بصوت خافت و ابتسامة مراوغة ، بأنّهُ يلمحُ ،أحيانا، ولو على فترات متباعدة ، تاجر الرِّمال ، وهو يتسلَّلُ بدوره ، تحت جنح الظلام ، إلى داخل مفازات العمارة و متاهاتها
3. مصَّاصةُ الدِمَاء :
« الكَافْرَة غْدَرْتِينِي
أَشْ بْلاَنِي بِيكْ حْتَى بْلِيتِينِي «
قدّرتُ ، بيني وبين نفسي ، أنَّ هذا الحارس غريب الأطوار، ربّما يكون مضطرب العقل ، مشتت الرُشد ، فلم أعر مزاعمه أيّ اكتراث . غير أنَّ حاجتي إلى سُلَّم صغير كي أنظِّف الأماكن العاليّة، و أغيّر بعض المصابيح المحترقة، دفعتني إلى طَرْقِ باب الشقّة الثالثة. وحينما لم أتلق جواباً بعد عدّة محاولات، كنتُ مرغما على استعلام حارس العمارة ، مجددا ، في الأمر.
فكان أن سردَ على مسامعي الوقائع المدهشة و الخارقة لِسَاكِنَيْ الشقّة المُنْتَحِرَيْنِ قبل مدّة وجيزة : الزوجةُ الفاسيّة التي كانت تزدادُ شبابا يوما تلو آخر، و الزوج الدكاليّ الذي كانت شيخوخته تستفحل متسارعة ، إلى درجة أنْ حَسِبَ زوجته مصّاصة دماء حقيقيّة ؛تشربُ عمرهُ خُفية عنه ، بمجرّد أن يخلد إلى النوم ، أو بالأحرى حينما يتعرَّض للتخدير، و لتعطيل الإحساس، كما كان يعتقدُ جازماً .
ولمّا أردتُ ، على نحو ساخر ، أن أستبق وْلْدْ قْدُورْ إلى نهاية حادثته المرويّة اللامنطقيّة ، بأنّني أتوقّع كذلك بأنّه يرمقهما ، أنَّهما يعُودان ، كطيفين من خيالٍ ، إلى شقّتهما، بين الحين والآخر ، في سهوةٍ عن الأعين ، ردَّ عليَّ بالإيجاب ، وهو يهزّ بوثوق بالغ ، إلى أعلى
و أسفل، رأسه المربّع المغروس في طاقيّة صوفيّة مُغْبَرَّة .
4. النَّمِرُ الهَارِب :
« هْجْمُوهْجْمُو
كَاعْ مَا حْشْمُو «
غَطَسَتْ سَدَادَةُ فلّين فهمي في مياه التشويش ، و اشتدّت غورا و غرقا ، حينَ انكشفَ لي ، بمحض الصدفة الخالصة ، أنّ الشقّة الرابعة خاليّة كذلك.
إذ ظلَّ أحد الأظرفة البريديّة الصغيرة ، الخاصّ بفاتورة الماء والكهرباء ، ذاك الذي حملتهُ شخصيّا من مدخل العمارة إلى الطابق التَّاسع ؛ ظلَّ موضوعا ، أياماً لاعدّ لها ، تحت حافّة الباب ، يبينُ منه نصفه، دون أن يتسلّمه أيّ كان .
وعندما استوضحتُ الأمر من المخبول وْلْدْ قْدُورْ ،كلّمني ، في ما يشبه حبكة متراكبة – كأنّها خصلة شعر تدخل في خصلة أخرى لتشكّل ضفيرة معقّدة – عن نمر مرقّط فرَّ من حديقة الحيوانات ﺑ» عين السبع « ، ثمّ توارى عن الأبصار ،ليتَّضح ، فيما بعد ، لإدارة المياه والغابات ، التي كانت تبحثُ عنه بلا هوادة ، أنّه يختبئ داخل الشقّة رقم أربعة ، التي تعود ملكيتها للسيّد الطبيب عُمَر وْلْدْ الصُوبَا ، و زوجته المصونة المُدرِّسة نعيمة البيضاويّة، وولديهما المراهقين نسرين و محمّد أمين.
فكيف وصلَ هذا النّمر القاهر المتعجرف إلى الطابق التّاسع؟ و ماذا حلّ بأفراد عائلة وْلْدْ الصُوبَا المحترمة؟ و بأيّة كيفيّة تمّ إلقاء القبض على ذاك الوحش الضّاري ، وإنزاله من قمّة العمارة؟.كلّها أسئلة محيّرة ، لم يجبني عنها وْلْدْ قْدُورْ إجابات شافيّة، علاوة على أنّها جعلتني أزدادُ شكوكا في سلامة قواه الإدراكيّة، على الأخصّ بعدما ودّعني بهاته الجملة المثيرة للاستعجاب و الفزع : « مؤكّدٌ ، أنّ أفراد عائلة وْلْدْ الصُوبَا سيزورونكَ في بيتكَ قريبا، بغرض التعرُّف عليكَ ! « .
5. العَائِلَةُ المُتَحَجِّرَة :
« تْبْرْعْ يَا لْصْكَعْ
اللِّي مْشَى مَا يْرْجْعْ»
خامرنِي إحساسٌ ملتبس بأنّني على مايبدو ضحيّة لسطوة ايحاء متكّرر ما ، لكن ما فاقم كوامن القلق في نفسي ، هو رُجوعي من العمل ، ذات يوم جمعة، حوالي ما بعد منتصف النَّهار ، لأجد قدام باب شقّتي قصعة كسكس ساخنة ، مُغلَّفة برقائق السيلوفان ، على الأرجح بغاية الحفاظ على حرارتها ، وفوقَ الإناء الفخاريّ الكبير وُضعت ورقة دُوِّن عليها : « مع تحيّات خَديجة وقدُور «.
بالطبع ، أجهزتُ على القصعة الشهيّة المعتبرة ، ثمّ استغرقتُ في قيلولة طالت أكثر من اللازم .
و حينما نزلتُ لأشرب قهوتي السوداء المعتادة في مقهى «سمكة الحَجَر المرجانيّة « ، صادفت عدو الله وْلْدْ قْدُورْ ، الذي أبلغني بلهجة جادّة بأنّ الحاجَّة خَدِيجَة الحَمُونِيَّة وزوجها الكوميسير المتقاعد قْدُورْ الكُوبَاسْ ، المقيمان في الشقّة رقم خمسة ،و المأسوف على مصيرهما ، هما مَنْ أَوْلَمَانِي قصعة الكسكس ، حتّى وإن كان الله عزّ وجل قد تولّاهُما، منذ سنوات خلَت ، برحمته الواسعة .
ولمّا استخبرتُ منهُ ما جرى لهما على وجه التحديد ، ألقى بي ،كدأبه ، في يَمِّ خزعبلة غير مقبولة،بالمرَّة ، من ذهن متّزن ؛ وعمادها أنّه عُثر عليهما ، بالإضافة إلى كلبهما الهَسْكِي» هُورْكْهَايْمِرْ» ، مُتَحَجِّرينِ داخل شقّتهم ، نظير تماثيل صخريّة، كما لو أنّ لعنة»ميدُوزيّة» قد وقعت عليهم ، ثمّ أحالتهم ، في رفّة جفن ، إلى محض أحافيرَ مُتجمّدة .
6. الرجلُ الذي يشربُ الزَّمن :
« كَاسْ الكَامُونِي
بَاشْ لاَمُونِي»
وبعد هذا بأيامقليلة ، بمجرّد ما اجتزتُ البوّابة الثانيّة الفرعيّة للعمارة ، تلك التي تقعُ في الجهة الخلفيّة للبناية، إذا بصوت جَهْوَرِيٍّ يناديني : « أهلاً و سهلا سي نَعِيمْ الهَوْتَة ، اسمحْ لي أن أقدّم لك نفسي . أنا وْلْدْ بْنْعْكَيدَة النَاصِيري ، شقيق وْلْدْ قْدُورْ التوأم. أنوبُ عنه هاته الأيام في حراسة العمارة ، بسبب سفره لقضاء مهمّة مستعجلة « .
وقبل أن أتيقّظَ من المفاجأة الصاعقة ، بادرني صاحب الرأس المربّع المغروس في طاقيّة صوفيّة مغبَرَّة ،و الحامل ملامحَ أخيه بحذافيرها ،قائلا : « أرجو أن تعذرني إن وصلتك هذا المساء أصوات مزعجة في طابقكم ، إذ سأقوم بإنجاز ببعض الإصلاحات في شقّة المأسوف عليه بُوشْعَيبْ بَاعُوتْ».
و عندما سألتهُ عن رقم الشقّة وعن هويّة الرجل ، استطرد موضّحا : « إنّها الشقّة رقم ستّة ، تلك التي وجدوا فيها المسكين سي بُوشعيب مُتقاصر الحجم ،مُتحرشف الجلد ، ومُنكمشاً على نفسه ، مثل حيوان آكل النّمل ؛ فقد كان هذا الإطفائيّ ،فارع الطول، سكيرا صاحب مسيرة حافلة في الإدمان ، إلى أن ادَّعى ،مرّة ، أنّ الخمر آلة لإيقافالزّمن ،و مرّة أخرى، أنّهُ لا يشرب الخمر ، وإنّما يشرب الزّمن .يتذوّقهُ يوما تلو آخر ، حتّى وإن كان بلا طعم ، كي يصل إلى الأبديّة. و استمرّ على هاته الحال من الهذيان ،و التكوّر على نفسه ، إلى أن خرج نهائيّا من ذاته . اعتلَّت صحَّته داخل شقّته دون علم أيّ أحد ، وحينما نفد مخزونه الاستراتيجيّ من الخمر، شرع جسده المهزول في التحوّل إلى أصداف و حراشفصلبة ، ثمّ تقلّصت أطرافه شيئا فشيئا ، ليعثر عليه ذاتَ يوم ميّتا ، بعد أن فاحت رائحة جيفته في كلّ الأرجاء ؛ ميّتا وسط الموسيقى الخاثرة ؛لأنّه قبل لفظ أنفاسه الأخيرة ، ترك مسجّلة أقراص مدمجة مفتوحة ، تصدحُ بذات الأغنيّة و تكّررها إلى ما لانهاية : « كَاسِي فْرِيدْ..أَهْيَاوَاهْيَا..يَا جْرْحِي جْدِيدْ..هَايْلِييَايْيلِي «..
ثمّ ختم وْلْدْ بْنْعْكَيدَة تقريره المفصّل بهاته العبارة الطريفة غير المطمئنة : « احذر من حيوان آكل النّمل المختبئ في جحور الطابق التاسع و خلف جدرانه المموّهة ؛ فقد ينسلُّ إلى شقّتك في غفلةٍ منكَ ! « .
7. خَلْوَةُ صاحِب الوُجوه:
« قَلْبْكْ عَامْرْ
فِيه لْمْسَامْرْ»
تابعتُ مقَامي داخل عمارة « الرَّادُوني» تنهشني المخاوف . أشقُّ طريقي ، باحتراس، وسط هواجسي ، كمن يسيرُ بأقدام حافيّة فوق أرض حَصَبَة ، كثيرة الحجارة الدقيقة الحادّة. أترقّب ظهور أحدٍ ما من الجيران ؛ من غير حَارِسَيْ العمارة المُريبين ، لعلّني أبادلهُ أطرافالحديث ، أو ربّما ، أشاطرهُ وساوسي بصدد هذه العمارة المُمعنة في اللَّبس .
ولاَبِدْعَ في هذا ؛ إذ أنَّ الاسم الذي أُطلقَ عليها – كما سمعتُ – مأخوذٌ من كلمة « الرَادَا « البدويّة ، التي تعني « انتظرْ «..نعم ، هي كذلك ،و مرحبا بوجلي و ارتياعي في رحاب عمارة الانتظار الذي لانهاية له؛مرحبا بتخيّلاتي وادّعاءاتي في حياض عمارة الأرواح التي لا تُزهق أبدا .لكن ،هيهات . فمرّة أخرى ،و أثناء مغادرتي لردهة الطابق التّاسع ، في اتجاه المصعد ، التقيتُ وْلْدْ بْنْعْكَيدَة ، واقفا أمام الشقّة رقم سبعة ، يدقّ الباب بقبضته المتينة .
وحين تحرّيته عن صنيعه ، أنهى إلى علمي بأنّه يحاولُ إخراج السيّد عَلي بْنْ دَحَّانْ من خَلوته . السيّد عَلِي هذا التعيسُ المُتلاعب ، الذي أفشى لي وْلْدْ بْنْعْكَيدَة بأنَّهُ كان يمتلكُ لوحده عشرين وجها بشريّاً من لحم ودم ، أدمنَ على استخدامها بالتناوب طيلة أيام الأسبوع، من أجل النصب على عباد الله المغفَّلين ، عدا يوم الأحد ، حيث يقوم بتصبينهاو نشرها في سطح العمارة ، حتّى لا تنتن رائحتها. غير أنّها سُرقت منه ذات يوم بأكملها، ومنوقتها ، أصيب بالاكتئاب الشديد ، ثمّ اتَّخَذَ قَرَارا صارما بعدم مبارحة شقّته . كان في البداية ، يردّ بشكل محتشم على السائلين من وراء الباب ، سوى أنّه توقّف عن ذلك فيما بعد ، حتّى اعتبرهُ النّاس في حكم الميّت .
أضافَ وْلْدْ بْنْعْكَيدَة عدّة خبطات أخرى قويّة على الباب ، مشيرا لي أن أُحاول بدوري ..» مَنْ يَدْرِي ، فقد ينهض صاحبنا الميّت ، ويفتح لكَ الباب « ، ثمّ انصرفَ بسرعة ، كجنِّي في عجلةٍ من الشيطان .
8. النبتةُ اللاَّحمة :
« رَاهْ اللِّي كْتَابْ
دَوّْزْنَاهْ»
بقيّت كلمة « سطح العمارة « معلّقة على مشجب ذاكرتي اللاواعيّة ،فتشجَّعتُ ، ثمّ صعدت إليه . وجدتني أمام حديقة غنَّاء ، أشجارها ذات فروع و أغصان باسقة ناميّة ، تميلُ إلى السَّواد من مبلغ خضرتها . توغّلتُ إلى داخلها مُغامرا وأنا أطفو فوق بدني ، حتّى رأيتني جهة اليمين ، أركبُ صهوة جواد أبيض من دون سرج ولا لجام ، كان يركض بي لمائة عام في ظلّ شجرة هائلة(***). وفي لحظة ، توقّفَ الجوادُ اللاهث أمام نهر يجري به ماء كالنبيذ ، على الأغلب لأنَّهُ لم يعد لجسدي ظلٌّ بمستطاعه أن يمشيَّ مع ظلِّ الشجرة العظيمة؛ فظلِّي السخيف أصابه الوهن ، من فرط محاولته مجاراة الظلٍّ الغالب الجبَّار .
فحانت مني ، وقتئذٍ ، نظرةٌ إلى جهة اليسار ، فرأيتني داخل مغارة شبه معتمة في اخرها ضوء وَاه ، أقفُ أمام ألواح من طين نيء ، وقد أمرني صوتٌ مجهول أن أخطّ بلا ابطاء على تلك الألواح غير المسطورة ، خشيّة أن تنطبق المغارة ، أن أدوّنَ جنوني و أحزاني، أمنياتي و مسرّاتي ، لؤلؤ قلبي و عصفور نظراتي ، انكسار عشقي ، والجرح الطويل المخفيَّ تحت إبط كأسي..أن أدوّن لسان أبي الثقيل و ذاكرته المخرّبة ، اللّذين سيغدوان ، عما قريب ، هما خراب ذاكرتي ، وثقل لساني..خراب وثقل كأنّهما مُناغاة رضيع و هذيَان أبجديّة .. أن أدوّنها جميعها ، ندبة فندبة ، وغصّة فغصّة ، دون نسيانٍ ، قبل أن تصير المغارة المقفلة فُرناً حارقاً ، سيُهلك لا محالة خلقا كثيرا .
أستفيقُ من منامتيالعجيبة ، ثمّ أصعدُ فعلا إلى السطح الحقيقيّ للعمارة ، حيث ألفيتُ الحارس البديل وْلْدْ بْنْعْكَيدَة ، ينشرُ بعض الشراشف والأثواب الملطّخة بالدماء. و حينما سألته من أين أتى بها ، أوضح لي بأنّها تعود لساكن الشقّة رقم ثمانيّة ، موظَّف دار الضرائبمسيوقْوِيسْمْ الزَحَّافْ.
فقد كان يتعهّدُ داخل صالون بيته نبتة بدائيّة صغيرة من آكلات اللّحوم ، تسمّى « خنّاقة الذُّباب « ، لكنّها سرعان ما نمت بشكل جنونيّ غير مرتقب ،و ارتفعت لحوالي نصف متر ، مُبرزة و رقتين كبيرتين من ذوات الشعيرات ، على شكل إبر وأشواك ، مثلما لو أنّهما فمٌ كبير الحجم مزوّد بأسنان طويلة حادّة . وذات يوم – كما أضافَوْلْدْ بْنْعْكَيدَة – سقطت سيجارة مسيوقْوِيسْمْ الزَحَّافْالمشتعلة داخل تجويف النبتة المستنقعيّة اللاّحمة ، فلمّا سعى إلى انتشالها بإحدىيديه ، حقنته النبتة الغدَّارة بمادّة سامّة ، ثمّ سحبتهُ ،تدريجيّا ، شبه مُخدَّر إلى بطنها ، حيث افترستهُ بكامل أطرافه ،و هضمته فيما بعد على مهل ، بواسطة عصاراتها الحمضيّة القويّة . وهذا ماكان ، قال لي وْلْدْ بْنْعْكَيدَة ، وهو يطلقُ قهقهة واسعة ، كما لو أنّها الفمُ المفتوحُ عينهُ لتلك النبتة اللاَّحمة.
9. الوَشْمُ الرَقِيقُ :
«مَاتُو كَرَانِي
وأَنَا آشْ تْلاَنِي»
كنتُ مُستلقيّا على سريري ،مُستغرقا ، حوالي السادسة صباحا ، في سماع قصيدة شعبيّة إيروتيكيّة مغربيّة تسمّى « لْوْشَامْ الرْقِيقْ «(****) ، حين توقّفت ، فجأة، مسجّلة الكاسيت القديمة .
نهضتُ ، أشعلتُ الضوء ، ثمّ فتحتُ السّتارة المغلقة للغرفة . تطلّعتُ عبر النافدة إلى الخارج ، فلم أتعرّف على شيء ممّا أذكرهُ ، بل شاهدتُ أمامي نسخة طبق الأصل من عمارة «الرَّادُوني» . وفي الطابق التاسع لتلك العمارة الموازيّة ، أبصرتُ من الجهة الأخرى المصباح المنير لغرفة ، وشخصاً يحدّق إليَّ ، كأنَّهُ أَنَا تقريبا أو لعلَّهُ شبحِي؛شخصاً كانَ يبدو وحيدًا إلى ما لانهاية . مكثنا ساكتين ننظر مليّا إلى بعضنا بعضا ، ثمّ أغلقتُ السّتارة .
رنَّ جرس باب الشقّة رنينا حادّاً ، فهرعت بثوب نومي الذي تزيّنه زهور آيلة للذبول ،و فتحت . وجدتُ أمامي كلا من وْلْدْ قْدُورْ و وْلْدْبْنْعْكَيدَة . لم يتملَّكني أدنى خوف ، فقط تذكّرت أنّه قد مرَّ أربعون يوما على إقامتي المؤقّتة هنا .
رجعتُ متمهِّلا إلى الداخل . حملتُ حقيبتي الخضراء الصغيرة ، ثمّ تبعتُهما بخطوات صامتة …
(*)إحالات :
(*) « الرَّادُونِي» هي ملحمة فنّ العَيْطَة في المغرب ؛ أطول عيطة من بين العيوط ؛ بُنيت على مقامات حْجَازْ و بَيَاتِي و رَصْدْ ؛ وتتشكّل من اثني عشر وزنا ،و تسعةأقسام، تلك التي شُيّدَ عليها هيكل هذه القصة القصيرة ،و أُقيم على أسسها تنضيدُ عناصرها المعماريّة السرديّة ،المركّبة عدديّامن فقرات رباعيّة . وقد تمَّ استهلال كلّ قسم من أقسام هذا النصّ المتنافذ بإحدى الحبَّات أو البرَاولْ أو جمل شهيرة من القصائد الغنائيّة المرجعيّة لفنّ العيطة ، كما تمَّ تلفيقُ و تَرْمِيقُ أسماء شخصيّات النصّ من أسماء بعض روَّاده و رموزه .
(**) العيطةالحصباويّة ، تنسب إلى منطقة «عَبْدَة»، وسُمّيت هكذا في إحالة على منطقة تقع شمال مدينة آسفي. كما أنَّ «الحَصَبَة» ، هي الحجارة الصغيرة . يقال أرضٌ حَصَبَة أو حصباء ، أي كثيرة الحجر الدقيق ، بما يشبه القضيض «الگرافيط» ،الذي وَاحِدَتُهُ قِضَّةٌ. الحجر أو الحصى الصغير المُكَسَّر ذاته ، المتناثر حكيا داخل سرد هذه القصة القصيرة ، ليؤلِّفَ حِبكة لها، تشبه تقريبا تنقيطيَّةَ الحَفْرِ على معدن النُّحاس ،و نوعا من « التْنْبَاتْ» ( الزخرفة ) بالعقيق المُهَرَّسْ ، كما يقال في خياطة الملابس باليد ، وفي خياطة القصة القصيرة بالرَشْم .
(***) ورد في الحديث النبويّ الشريف : « إِنَّ في الْجنَّةِ لَشَجرَةً يسِيرُ الراكب الجواد المُضمَّر السريع ماِئَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُهَا» . وَرُوِيَّ في «الصَّحِيحَيْنِ» أَيْضًا مِنْ روَايَةِ أَبِي هُريْرَةَ قالَ:» يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مائَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُهَا» .
(****) « لْوْشَامْ الرْقِيقْ « من أشهر القصائد ، التي أدَّاها بآلة « «لْوْتَارْ» الشيخ أحمد وْلْد قْدُور(1937- 2023) ، أحد فطاحلة فنّ العيطة بالشاوية العليا . وهي قصيدة ذات مقطعين متوازيّين وموضوعين مختلفين ، ينتهيان بالالتقاء و الاندماج في برزخ غنائيّ بديع . في تقديري الشخصيّ ، المقطع الأوّل ذو طابع إيروسيّمُضمر ، وفيه يطلب الشاعر من الحَجَّام ( محترف الحجامة والحلاقة ) أن يرسم وشوما رقيقة على جسد الخليلة المعشوقة ، حتّى تشتدّ اثارته نحوها ؛ «دِيرْ الخُوخْ و دِير الرمَّان / دِيرْ بُوعْويِدْو دِيرْ الفَواكِه على الألوان/و دِيرْ العَسَّاسْ هُوَ لْقَدَامْ» . أمَّا المقطع الثاني ، فَرَعَويٌّ خالص ؛ يروي رحلة صيد الغزلان، وسعي الرماة لاقتناصها.
(*****) ملحوظة أخيرة :بالطبع ، كلٌّ من وْلْدْ قْدُورْ و وْلْدْبْنْعكَيدَة ، هُما من كانَا يسكنان في الشقّة رقم تسعة من الطابق التاسع للعمارة ! .