قصص قصيرة : سقطة الأقحوان

 

أغلقت المدينة الأبواب كلها، وأزلج البيت بمزلاج من قسوة وحديد. والقلوب أوصدت مداخلها سوى قلب واحد، بينما فتح الضياع الأحضان، وهيأ وسائل أسفار تمضي سريعة في التيه، فركض سعيد في معارج ومضايق الغربة، أحس أن ماءه جف، وأن أوراقه آيلة للسقوط، شم ما بقي لديه من سائل مخدر، فضاعف من سرعة جريه، وكانت طريقه أطباقا من أصناف الألم.
جرى في اتجاهات مختلفة، ومر من شوارع المدينة كلها، يجر عربات الجراح، ويتصبب بعرق العناء، رُفعت في وجهه لافتات الجفاء، وقطفته خيبات الأيام ..
سعيد طردته المدرسة في العاشرة، وتنكر له الأهل بعد ذلك بأعوام، فغاص في جحيم الشوارع، انقذف في متاهات الزمن، واكتوى بظلم المدينة، جلدته سياط الفصول، ولسعته رياح القر شتاء، ولفحات الهجير صيفا .
واصل الجري، وأصر على المرور من أنحاء المدينة جميعها، ربما ليرفع تحديا في وجهها، وهي التي لم تبتسم قط في وجهه، ولم ترحمه أبدا، أو ربما ليبكي أطلال أحلامه، وله في أرجاء المدينة المختلفة ذكريات، وكثير من البصمات.
هو ابنها العاق، وهو من لبس من عرائها، وأكل من جوعها، وشرب من عطشها، وهو من خبر كلامها وصمتها، وسمع آهاتها ودويَ أحزانها…
زحف الليل، ولم يتوقف جريه، امتدت الساعات، واتسعت غربته، ثم رأى المدينة تتحول إلى غابة موحشة، تحتلها الوحوش، فأصيب بنوبة فزع جعلته يضاعف سرعة جريه، ويصيح مستغيثا .. لم يأبه به أحد، ولم تفتح في وجهه أبواب، ولم تشرع لصراخه نوافذ. اشتعلت حرارة جسده، وهطلت غزيرة زخات عرقه، وجن فزعه، وتواصلت صيحاته، واسودت طرقه، وجف ماء يقينه، واختفى بصيص ضوئه، وتوسعت متاهته، ووهنت قوته، وتضاءلت سرعته، وخفتت أصواته، وضاقت مساحاته، وعوت الذئاب في بطنه، ثم سقط أرضا بعدما حرث المدينة طولا و عرضا، فتوسد حجرة، وافترس شوكا، وتغطى بالعراء.
لم يعد إلى الحي، ولم يظهر له أثر في المقهى، ولم يطرق باب الأسرة، ومع ذلك لم يسأل عنه أحد، كأن حضوره وغيابه سيان. أمضى الليل في مكان سقوطه، وفي الصباح تواصل اختفاؤه. اعتاد كل نهار أن يرتدي سترة صفراء مكتوب عليها (حارس سيارات). يتنقل بين المواقف، يجمع دريهمات، ينفقها في صحن غداء بئيس وسجائر ومخدرات…
انتصف النهار، ولم يظهر أثر لسعيد، أطلت كنزة من نافذة بيتها في الطابق الأعلى من العمارة التي تتوسط الحي، أرادت أن تراه ككل يوم..
كنزة الوحيدة التي ظلت تعطف على سعيد، جمعهما حب قوي، لم يضعف مع توالي الانكسارات، حين تخلى عنه الجميع تشبثت به، وواظبت على إطعامه حين يشتد جوعه، ومؤانسته حين تشتعل غربته، ومواساته حين تتراكم أحزانه، ويتضخم يأسه. أحبته، وأحبها، وظلا يلوذان ببعضيهما، وأحيانا يتوحدان ويقتطفان الفواكه بأنفاس واحدة وبعيدا عن الانظار .
ترددت كنزة كثيرا على النافذة، لكن الحبيب ظل يشهر غيابه في وجهها، اشتد خفقان قلبها، وعصفت بها رياح التوجسات، سيطر عليها فزع غريب، وجلدتها الحيرة، واستبدت بها الشكوك..
أسرعت إلى الدولاب، تناولت جلبابها الأسود، ولبسته على عجل، ثم غادرت البيت، وركبت أهوال البحث عن سعيد .
ركضت كما ركض، سال عرقها كما سال عرقه، عطشت كما عطش، جاعت كما جاع.
جرت في الاتجاهات كلها، ومرت من أماكنه جميعها، تذكرت وقوفه وجلوسه، ومشيه وجريه، وصله وجفاءه، وهدوءه وهيجانه، وزهرة الاقحوان التي كان يقدمها لها في كل لقاء..
غاصت في ذكرياته، واستنشقت روائح أيامه وأحواله، قلبت فصوله، ومضت بعيدا في صفحات حياته، وارتوت بمياه ضحكاته، واحترقت بلظى سقطاته.
محت الشوارع والدروب التي اعتاد أن يمر منها، وسألت عنه في أبواب المقاهي والحانات التي كان يتردد عليها، فتحت المحطات والحدائق والساحات، وطارت بأجنحة العذاب، في الأجواء البعيدة .
وبينما هي في أوج العطش وقمة العناء ومنتهى الوهن، رأته ممدودا على أرض من حجر وشوك، صاحت، صرخت، نادت، جرت، اقتربت، وصلت، ثم ارتمت عليه فوجدته جثة هامدة.


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 13/01/2023