قلب القصيرة

غرق في قراءة الكثير من القصص والروايات والأشعار وظن أنه قادر كهؤلاء الذين يبدعون. بعد رؤيتها في “النظر في الوجه العزيز” شغف بحبها فحاول غزو قلب القصيرة كما غزت قلبه ولكن … أنّى له وأنّى لها أن تغيب عن باله، أعتقد بادئ الأمر أنها سهلة المراس وهي الصعبة المتعنتة بقصر قدها المكتمل المتمنع. أشعرته بأنه يسبح في واد وتسبح غير بعيد عنه في واد آخر، قريبة بعيدة كنجمة في السماء. كان حلمه أن يصبح كاتب قصص قصيرة، فدارت بخلده أينما حل وارتحل، وزارته ما من مرة أثناء حلمه، فكتب ما تيسر من الصفحات، وتفحص ما من مرة ما خطت يده، فنظر وتساءل ما جنس ما يكتب أهو حكاية؟ أم تلخيص رواية؟ أم قصة قصيرة؟  فاختلط عليه الأمر، بحث في خياله وأفكاره وفي لغتها العصية، كان همه الوحيد أن يفهمها كما هي ولكن دون جدوى.
همس في نفسه: آه كم أنت عسيرة أيتها الصغيرة المتنطعة العصية.
كانت كسعاد، حاول أن يصل إلى قلبها بشتى الطرق ولكنها كانت كالتي تأتي ولا تأتي.
صارحته ذات يوم وهما يسيران جنبا إلى جنب، عندما اكتشفت أنه لا يحسن فن العوم في مائها العذب «لن نلتقي، لكل منا طريقه».
كان وقع كلامها كالصاعقة على نفسه وأطرق رأسه يفكر كالمجنون، فألح أن يلتقيها بمقهى «موريطانيا»، ولكنها أبت بشدة وعندما شعرت بغصته الكبيرة وتنهداته المتكررة رقت لحاله، ووعدته بلقاء أخير. فبدأ كالعادة يكرر شكاويه، ظروفه الصعبة، وحكاياته الطويلة المملة وهو يسرد المعيقات التي تحول دون السباحة في بحرها العميق كما تريد. كانت صامتة تنصت لكلامه الطويل الممل وترثي لحاله.
جذبها إليه بقوة نظر إلى داخل عينيها العسليتين العميقتين وحاول أن يغوص في قراءتها كما في النصوص الأخرى، حاول تقبيلها ولكنها أشاحت بوجهها عنه، وتبخرت قبلته في الهواء.
في مساء نفس اليوم، ردت على اتصاله المتكرر بها وقالت له بعزم وثقة وبلغتها الدالة المختصرة:
– شوف أحبي أنا لا أحب الإطناب ولا الكلمات الزائدة بلا معنى، ولا الغوص في التفاصيل المملة، لغتي كما تعرف دقيقة مختصرة عميقة لا تقبل الزيادة، إذا لم تستطع غدا أن تميز ما بيني وبين الأخريات فلا لقاء بعد الآن. وأقفلت الخط.
بدأ يفكر في الغد، ويتساءل عما تريده بالضبط، فرآها في منامه، قام مذعورا والعرق يتصبب من جبينه وبدأ يكتب من جديد، وعندما أتم الكتابة لم ينم.
في مقهى «موريطانيا» ، وجدته ينفخ الدخان وينتظر ويفكر، جلست بجانبه، طلب لها كأس شاي ورشف من كأس القهوة الذي أمامه، حاول أن يخفي قلقه بابتسامة، بادلته ابتسامة باهتة ووقع بصرها على قلمه الحبر وورقة بيضاء، بجانب الورقة البيضاء أوراق أخرى مكتوبة بالسواد، تلك التي كتبها أثناء ذعره، كانت تقرأ وتبحت في مكتوبه عن خيط يربطها به ولكن … ملت من القراءة ومنه، ضغطت على الأوراق المكتوبة بيدها الرقيقة الناعمة ونظرت إلى ما بيدها من أوراق وقالت: “هذا المكتوب لا يهمني في شيء، شوف أحبي حاول أن تبحث لك عن غيري” وجفلت كما يجفل الحصان، نهضت من مكانها، ونظرت الى وجهه الشاحب وقالت:
«لا جدوى…مع السلامة».
حاول أن يمسك بيدها، فانزلقت من بين يديه كما ينزلق الماء من بين الأصابع وانسحبت.
مسح النادل عبد السلام وجه الطاولة ووضع كأس الشاي أمام كأس القهوة الأسود وتتبع خطو الفتاة وهي تبتعد إلى أن اختفت وراء مكتبة الثقافة. أعاد النظر جهة وجه زبونه الشارد وإلى الورقة البيضاء المضغوطة في يده المرتعشة، ثم اقترب منه حتى كاد يلامس أذنه اليمنى وقال له هامسا:
لا تحاول يا صاحبي، فلطالما رأيتهما معا في مقهى «Agate» قرب «جردة مردوخ»
من؟…سعاد؟!!
نعم القصيرة الجميلة المكتنزة المستعصية، وبوزفور…

قاص مغربي مقيم بكندا


الكاتب : بقلم : السعيد الحمولي

  

بتاريخ : 03/12/2020

أخبار مرتبطة

في مسار حياة الناس تنجلي حقيقة طباعهم وخلفيات سلوكهم. تختفي كل إشارات الجدب والاستعلاء، عند رصد ردود فعلهم ومواجهتهم بما

تنظم دار الشعر بمراكش فعاليات الدورة الخامسة لتظاهرة «شواطئ الشعر» في شاطئ الصويرة (قرب منحوتة بركة محمد)، وذلك أيام: 10-11-12

«أُنجز فقط عندما أقع في الحب: في حب الفرنسية وفرنسا، وفي حب القرن الخامس عشر وعلم الأحياء الدقيقة وعلم الكون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *