«قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط» للكبير الداديسي

سردية اللاجئين والمهجرين من أوطانهم

 

«قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط « عنوان لافت يلخّص مقاصد الروائي والناقد المغربي الداديسي من خلال ثلاثة رموز ينفتح كلّ منها على حكاية، ولكلّ حكاية شخصية تمثّلها بما في ذلك البحر المشخصن لتتضافر جميعاً لتقديم رواية ترتبط بالواقع المعاش وبشكل أساسي قضية لجوء السوريين والإفريقيين إلى الشاطئ الشمالي للمتوسط تبعاً لما حلّ ببلدانهم من خراب سببته حروب واستبداد ومنازعات سياسية محلّية وإقليمية لم تخل من تدخلات للقوى الكبرى التي دخلت بدورها صراعات في مناطق مختلفة، فعادت الحرب الباردة لأجل تقاسم النفوذ ولأجل ذلك تمّ الاعتماد على ميليشيات مقاتلة تمّ تسليحها كي تقوم بمهمة الحرب بالوكالة، وبالتالي عصفت رياح الحرب بالسكان الذين هاموا في أصقاع الأرض المختلفة للخلاص من شرور الحرب التي لم تبق ولم تذر، وبحثاً عن الأمان.
البنية الرمزية تكاثفت كما أسلفنا في عنوان الرواية الطويل: «قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط»، إذ تشير مفردة الحليب إلى امرأة سورية (بيضاء) تدعى «ميّادة»، وتشير مفردة القهوة إلى «مامادو» الأفريقي القادم من الكوت ديفوار (ساحل العاج) يمتزجان معاً ليشكلا المشروب المعروف «قهوة بحليب»، واللون الناجم عن هذا المزيج سيكون لون الطفلة التي سينجبانها. أما البحر الأبيض المتوسط فقد تمّ وصفه بالأسود، ولعل روائيين آخرين وصفوه بالأحمر لكثرة الضحايا التي قضت في لجّته خلال رحلتها نحو بلاد الشمال. ولعلّ الوصف بالأسود هنا دلالة بالغة عن حزن مركّب وعميق توخّاه الداديسي لخبرته بهذا البحر وبتاريخه، فلطالما كان واسطة تفاعل حضاري تعود إلى أزمنة قديمة تحدّث عنها هيرودوت في تاريخه وبخاصة أسطورة الأميرة الفينيقية أوروبا، وهي الأسطورة الأكثر انتشاراً ما بين شاطئي المتوسّط كتعبير عن مقدار عملية التفاعل الحضاري ما بين الفينيقيين واليونان في وقت مبكّر لم تكن في حينه القارة الأوربية قد سمّيت بهذا الاسم قبل اختطاف الأميرة السورية، وكان على كاتب الأسطورة أن يؤرّخ هذه الواقعة في سردية كبرى والتي شملت في ما شملته مناطق عدة من حوض المتوسط كدلالة على التفاعل، وتبادل المنافع الذي ظلّ قائماً على مدار القرون ونشوء الحضارات على رماله البيضاء. ولكن مع الأسف استحالت مياهه الآن إلى السواد كدلالة على انقطاع هذه العلاقات وإغلاق باب اللجوء بوجه النازحين الموجوعين في الوقت الذي احتاجوا فيه إلى حضن دافئ.
وبذلك فإننا نعتقد أن حكاية «ميادة» السورية الحموية هي نوع من إعادة إنتاج الأسطورة رمزياً بالرغم من واقعيتها، وإمكانية وقوعها في خضم هذا البحر الشاهد على تاريخ الحراك التجاري والعسكري، وسوى ذلك من وقائع تاريخية ما بين مدّه وجزره فأغلقت أوروبا بوّابات العبور. وفضلاَ عن ذلك لم تساهم في إيجاد حلّ للأزمة أو الأزمات الناجمة عن استعمار الشرق الأوسط وإفريقيا.
الأميرة السورية الجديدة لم يختطفها زيوس كبير آلهة الأولمب، وأنجب منها ثلاث فتيات، وإنما تمثّلت في شكل لاجئة غرق مركبها فقذفتها الأمواج على السواحل المغربية ليتحدد مصيرها على نحو يغاير الأسطورة، فتبدأ بسرد حكايتها ذهاباً وإياباً من الماضي القريب إلى زمان الحكاية وكذلك فعل مامادو (محمد) الأفريقي كساردين يتناوبان على تقديم حكايتهما بالتساوي.
قسّم الروائي نصّه مابين الشخصيتين، وأعطى لكلّ واحد منهما ستة فصول سردت ميّادة الستة الأولى بضمير المتكلّم على شكل فلاش باك أو بالأحرى مونولوج طويل استرجع مأساتها، وما أوصلها إلى المغرب ولقائها بمامادو، وكأننا بالروائي أراد بهذا اللقاء كي يوضح رؤيته ومقاصده الفكرية والإنسانية، فلا فرق بين لون ولون أمام وحدة المشاعر الإنسانية ونبلها.
يبدأ المشهد الأوّل مع لحظة وصول جسد «ميّادة» إلى البرّ المغربي وهي ما بين الحياة والموت، ما بين غيبوبة وأخرى لا تعرف ماذا جرى لها متسائلة عن مصير ابنتها وفق مصفوفة احتمالات بشعة في ما إذا نجت، وثمة أصوات مبهمة للسكان المحليين الذين أنقذوها: «مكومة أرتجف ملفوفة بلحاف صوفي بيدين مرتعشتين متعبتين ارتجافا شديدا تصطك له أسناني، لا أكاد أتحكم في أي عضو من جسدي، كل يرقص على إيقاعه الخاص، أحاول جاهدة تخفيف الارتجاف بلف البطانية بألوانها البراقة على جسدي، فأشعر بها تمتص بلل ما بقي عالقا على جسمي من ملابس لا أكاد أدرك ما يجري حولي، مجرد أصوات تنبعث كأنها صادرة من غيابات بئر عميقة بلكنة مغربية متسارعة:
– مسكينة رماها البحر…
– إنها سورية شاهدناها طيلة هذه الشهور الأخيرة تتردد بين تطوان المضيق الفنيدق وباب سبتة
– ليست وحيدة… فهناك أفارقة آخرون تم العثور على جثثهم على سواحل تطوان» .

*رواية «قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط» للكبير الداديسي صدرت عن منشورات جامعة المبدعين المغاربة، فاس، 2021


الكاتب : عزت عمر (ناقد وكاتب سوري)

  

بتاريخ : 17/05/2021

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *