«قيلولة أحد خريفي» لهشام بن الشاوي

حضور القارئ في النص الروائي وتعدد الأصوات

في روايته : « قيلولة أحد خريفي»، الفائزة بجائزة الطيب صالح، في دورتها الثانية (2012م)، يستدعي الكاتب المغربي هشام بن الشاوي القارئ، ويخاطبه، بل يسحبه إلى عوالمه ليصير عنصرا ضمن البناء الفني والجمالي للرواية، يجعله متورطا في كتابة العمل والتفاعل معه، مخرجا إياه من سلبية التلقي إلى فاعلية الكتابة.
يتحول المتلقي بهذا الاستدعاء إلى شخصية تخييلية مشاركة، كما جميع الشخصيات الأخرى من مثل راوي الرواة، ومن أوكل إليهم سرد الأحداث، فضلا عن الشخصيات الأخرى المؤثثة للعمل ولم تشارك في القول، وعرض وجهة نظرها. وبهذا الاستدعاء، يجد القارئ نفسه مشتركا و مشاركا فعّالا و بنّاء في أحداث القصة بتوجيه الخطاب له، فلا يعود خارجيا، بل يصير داخليا ومتابعا بفعالية أحداث الرواية  من دون حواجز تجعل منه متلقيا سلبيا.
هكذا، يصير العالم خارجا وداخلا، وتصير الرواية جنسا امبرياليا يحتوي كل شيء، ويلتهمه لتكوين وجبة سردية ممتعة، تحرك القارئ من داخل المتن ومن خارجه، ولا يكتفي العمل باستدعاء القارئ وتعدد الرواة، بل نجده يستدعي أعمال الكاتب السابقة، ويجعلها ضمن أدوات اشتغال عمله الحالي. كما يستدعي قراءات أصدقائه وقد اكتملت، ليقدموا مراجعاتهم، كما فعل الناقد المرحوم إبراهيم الحجري، أو غيره وإن لم يذكر اسمه، جاعلا ذلك التدخل أو النقد بالخط العريض ليميزه عن خط السرد.
والجميل أن تدخل إبراهيم الحجري تم دمجه في بداية النص الروائي، وهو الذي جاء بعد قراءة العمل المخطوط، ليصير ضمن اللعبة السردية، التي تتلاعب بكل العناصر الداخلية والخارجية، تحتوي الكل في منظومتها في حركة دؤوب تعبر عن عدم اكتمال العمل مادام على قيد القراءة.
وتعدد الرواة يؤدي إلى تعدد وجهات النظر حول الموضوع نفسه، وإغنائه وإثرائه، فالتعدد يسمح بقراءة الموضوع من زوايا متعدد ومتباينة.
وفي هذا الخصوص يقول الناقد إبراهيم الحجري في تقديمه للعمل: «يعمد الرواة إلى كشف المستور ووضع العلب السوداء للفرد على طاولة القارئ ليقلبها على وجوهها مكتشفا بعضا من ذاته هناك. وقد كان الكاتب قاسياً مع رواته ومع شخوصه معاً، وحاصرهم في دوامة العصف ذاتها، لتتشكل نواة الألم الخفي التي تبعثر أوراق المروي لهم، دون مهادنة أو تسامح. تلك القسوة التي تتمظهر على الورق ليست غريبة عن طبيعة الشخصيات ولا عن طبيعة القراء ولا حتى عن طبيعة الكاتب الفعلي نفسه، إنها معضلة (التداخلات) لدى بن الشاوي على مستوى التشييد الخطابي، فلست تدري هل هو الذي يحكي أم شخوصه أم كائنات غريبة تقفز من الخارج لتقحم فضولها، لذلك يمكن نعتها بالكتابة التي تتعقد تفاصيلها كلما مشت، دون أن يكون هناك أي افتراض لنهايتها. إنها تستمر في ذاكرة القراء وذاكرة الكاتب، وربما تسير نحو صورة تشكل ثلاثية أو رباعية أو من يدري. فمازال هناك متسع للسرد، ولاتزال شخوص بن الشاوي حية برغم الوعثاء، تسافر وتحيا وتصمد في حياة لا إنسانية على هامش التاريخ معلنة أمام الملأ سخطها ووعيدها على الورى مهددة بأنها في مستقبل النصوص ستتنامى مثل الفطر لتقوض الدوامة التي أفرزتها».
والمثير في الرواية أن شيخ الرواة، أو موزع الأدوار يقوم بتعرية فعل الكتابة، فهو يكتب ويتحدث عن الكتابة في الوقت ذاته، وإذ ينفتح على فعل الكتابة فإنه يقول واقعها المزري بكثير من الحزن حين يرى تصدر التافهين للمشهد مع غياب لأي موهبة. فالحسرة تأكله وهو يشاهد عبر التلفاز شخصيات تافهة لا تستطيع تكوين جملة مفيدة تتحدث عن الأدب بلا أدب، والبعض اتخذ الكتابة الجنسية منصة للشهرة من دون أي موجب فني، فقط، الرغبة في تحريك الغرائز.
شيخ الرواة، إذن، بطل إشكالي يحمل قيما إيجابية في عالم ملوث، لم ينج بنفسه من تلوثه؛ فقد يخوض تجارب غير مشرفة ليطفئ نار فضوله. ص12، يقول الراوي معبرا عن ذلك:» صرت أكابد قلقا وجوديا، كما أتعذب بوعيي الشقي الحاد». ص89.
وابن الشاوي، وفق الناقد التونسي السلامي عبد الدائم: « واحد من المبدعين الذين لا يكتبون للترف الفكريّ أو للتباهي الاجتماعي ونشدان الشهرة، بل هو يكتب للضرورة: ضرورة الاحتجاج على الواقع والسخرية منه في آن دونما ادعاءات إيديولوجية».
تعمل الرواية على إرباك المتلقي، من خلال تشظي الحكاية؛ وهو تشظ يعبر عن تشظي المجتمع، وتفتته، وإذا كانت الرواية تجعل من نفسها موضوعا، وتسعى إلى جعل القارئ يتابع تعريها، فإنها، في الوقت ذاته، تجعله مشاركا في تعرية العالم وزيف العلاقات الإنسانية. وقد جاءت الرواية في قراءتها لنفسها ولواقعها المتعدد بوليفونية، متعددة الأصوات، لكن ما يثير الانتباه كون راوي الرواة يوظف كل الضمائر التي تعود عليه، فنجده مرة يتحدث عن نفسه بضمير الغائب، وهو ما أدركه الضابط، ومرة يستعمل ضمير المخاطب وكأنه  شخص آخر، وذات مغايرة لذاته، أو أنه صورته منعكسة في مرآة، ومرة يوظف ضمير المتكلم، خاصة حين يريد التحدث عن نفسه مناجيا، وعن متاعب الكتابة ومعاناتها وأمكنتها، وعن واقعها الملوث.
ويبقى هذا الراوي هو الناظم لكل هذا التشظي، الذي يعرفه الفضاء الروائي، وهذه الفوضى الفنية، التي تثير زوابع في ذهن المتلقي.
والجميل أن الرواية تجمع بين عالم الكتابة الخيالي، والعالم الواقعي المر، والعالم الافتراضي في توليفة ذكية تعبر عن براعة الكاتب في خلق عوالمه المدهشة.
وفي علاقة الشخصيات وبخاصة شيخ الرواة/المؤلف، بالمكان، نجدها لا تميل إلى الأمكنة المغلقة، التي تحرمها من حريتها وتنسم هواء الحياة النقي، لكنها تميل إلى المغلقة، التي تمنحها حرية الإبداع والكتابة، أما الأمكنة المفتوحة فهي نوعان: نوع يثير في النفس الراحة حين تكون منبسطة، ونوع يثير ضيقها حين تكون مهضبة.
كما أن ذات المؤلف تنفر من أماكن الضجيج، وتستغرب من الكتاب، الذين يرتادون المقاهي وغيرها من الأمكنة الصاخبة. ولذا، نراها تحب البادية حيث مراتع الصبا، وصفاء النفس، وجمال الطبيعة، بخلاف المدينة وضجيجها وزيف العلاقات فيها.
ومن خلال كل ذلك، نلمح ما يشبه السيرة الذاتية داخل المتن الحكائي، حيث نجد الراوي/المؤلف يسرد كثيرا من خصوصياته والمتعلقة بأجوائه النفسية وأجواء الكتابة، وعلاقته بالآخرين؛ لكنها تصير بهذا التوظيف سيرة تخييلية، تنهض كباقي المكونات الأخرى في بناء الرواية.
كثيرة هي الموضوعات المثارة في هذا العمل الإشكالي، الذي وظف تقنيات كثيرة ببراعة قصد إرباك المتلقي، الذي تعود على السلبية، من مثل الموت، والصداقة، والترقي، وزيف العلاقات، والمقارنة بين الأمكنة في علاقتها بنفسية الشخصيات، والترقي غير المشروع، ومن ثم السقوط المدوي، أو العقاب لا بمفهومه الأخلاقي، ولكن بالانحدار والسقوط بسبب ترق غير سليم، ويرتبط هذا العقاب بشخصية ولد سلام، الذي ظهر في بداية العمل شخصية مهمة ذات جاه ومكانة بعد صعود سريع، لنجده في نهايته في سوق أسبوعي يزاول عمل «شناق»؛ وهو العمل الذي يرتبط بشخصيته الأساس، ليصعد نجم آخر مكانه بعد نصب فخ محكم لولد سلام؛ وما كان هذا النجم سوى شريكه، الذي وثق به واطمأنت نفسه له.
كل ذلك بلغة سليمة، تعتمد، أحيانا، التلغيز الحاث على التأمل لتحقيق المزيد من الإرباك.


الكاتب : عبد الرحيم التدلاوي

  

بتاريخ : 24/01/2022