يعرف عن الفنانة التشكيلية كاميليا الزرقاني المنحدرة من مدينة وزان اهتمامها الكبير بكل ما هو مغربي أصيل، حيث تجسد في أعمالها مزيجًا رائعًا من الجمال الفني والعمق الإنساني، وتفرغ فيها تجاربها الشخصية وأهوائها، وتبوح من خلالها بشوفينيتها، وحبها الكبير لكل ما هو مغربي.
بدأت رحلتها مع التشكيل بالرصد والتقليد والاستكشاف، ولكن سرعان ما امتلكت تقنيات الرسم والتعبير الفني بفضل فنان سويسري أكاديمي، أشرف على صقل موهبتها لسنوات، فأطلقت عنانها بعد ذلك لريشتها، مستلهمة رسوماتها من الذاكرة الجماعية، وملاحظاتها، بعد ما اقتحمت عالم اللون بكل أنواعه، حيث وجدت فيه المادة لتكريس الاعتزاز بالانتماء من خلال أسلوب يجمع بين التجسيد والتجريد، يعتمد على استخدام تقنيات متنوعة كالألوان الزيتية والمائية والأكريليك، بالإضافة إلى الصباغة الطبيعية.
إن الفن الحقيقي المؤثر في النفوس بالنسبة للفنانة هو ذاك الذي يأتي تلقائيا، وينبع من الجذور، ولذلك تجدها غالبا ما تطرح قضايا عصرية بعمق ورمزية تراثية متفردة، تؤثث لوحات تثير الانتباه بفعل أشكالها والطريقة المستعملة في توظيب وتوظيف ألوان الطبيعة التي تسافر عائدة بالزمن لاستحضار الماضي في لحظة محددة، وإبراز فسيفساء من الثقافات الناتجة عن موروث غني ومتنوع، وتسليط الضوء على الفضاء المغربي الذي يعج بالأعراف والتقاليد، مما يمنح أعمالها بعدا تاريخيا، وجمالية، تسر الناظرين، وتثير الحنين، تأخذ قيمتها المادية من تركة الأجداد وموروثهم، خاصة من تلك الألبسة والجواهر والقلائد، ومن أشياء أخرى تتسم بالبساطة، ولكنها تتخذ طابع التعقيد عبر نقوش وزخارف بديعة، تعكس حرفية الصانع المغربي التقليدي على مر الزمن، تلقفتها فنانة ساحرة تحب تحويل الواقع إلى لوحات تشكيلية بأسلوبها الخاص، يجعل المتلقي يكتشف وجهين في قماشة واحدة ، الأول يمثل المعتاد الذي يتم رؤيته تلقائيا، والثاني فيه شيء من سريالية تعكس لمسة عصرية تصنع الفرق بالحضور القوي للمرأة المغربية التي من خلالها تعبر عن ذاتها.
إن هذه المرأة سواء كانت شمالية أو أمازيغية أو صحراوية تعيش بداخلها، كما صرحت بذلك في إحدى مداخلاتها، وتخرج تلقائيا لتتجسد أمامنا بطريقة انطباعبة، وهذا الحضور يتجاوز تلك النظرة النمطية الضيقة التي تُبرزها كجسد أنثوي فتان ومثير. إنها تلك المرأة التي تفرض وجودها بحرفيتها وعلمها، هي تلك المرأة التي تشبه كامليا الزرقاني، هذه التشكيلية التي أحبت الفن منذ طفولتها وهي تتعاطى الطرز ونسج الخيوط إلى جانب أقرانها، وكبرت وكبر معها هذا العشق، وبحثها في التراث المغربي جعلها تتبنى ترسيخه في أذهان الأجيال الصاعدة، وتسخر موهبتها لتأريخه وإبراز خصوصياته، ليس بنصوص تاريخية ولكن عبر لوحات وإنشاءات فنية تترك أثرا بليغا في النفوس، مستعملة في ذلك الريشة وأناملها في بعض الأحيان، لتشعر بتلك الرقة التي تصبها على القماش في لحظة إلهام، وذلك بأسلوب يتباهى بالألوان، ويمنح العين فرصة الاطلاع على ضربات غير عنيفة، تعبر عما لم تستطع التعبير عنه بالكتابة، أبطالها شخوص ونماذج، وألوان تبقى مشعة لا تأفل، ولا تتلاشى في الظل.
كل لوحة مقاومة للنسيان بطبقاتها اللونية، تبوح وتنطق بالواقع، وتعكس بهاء الجمال، تتدفق مثل شلالات، تبدو وكأنها مقبلة ومدبرة، تبعث على الحركة، وتحمل أكثر من دلالة، وكأنها سمفونية تتموج بتجلي الآنا والآخر، حيث تحملك لتجول بخيالك في جميع الأقاليم المغربية من طنجة إلى الكويرة، وتلج بك إلى قصور تخفي داخلها تاريخا عميقا، تختزله أشكال هندسية، وزخارف الزليج.
فكاميليا تجعل من عملها الفني بساطا تنثر عليه مشاعرها نحو المغرب، وتتباهى بتفرده وعظمته وأصالته، وتعزز ذلك بتقديم نماذج من بيئتها التي تعيش في أحضانها.
غالبا ما تأتي لوحاتها بخلفيات سوداء، وذلك ما يضفي على الألوان إشعاعا، ويزيدها زهوا، ويسلط الضوء على المحاور الأساسية التي تصبح كتلة مثقلة بعناصر يربطها ذلك الخيط الرفيع الذي يمتد في الزمكان، تبدو وكأنها منمنمات، رغم أنها تأتي مسطحة، لا يتم مراعاة فيها الخط المنظور لتعكس البهاء، حيث يتم فيها التركيز على مفردات وأشكال معينة، كالدائرة المرتبطة بالأنوثة التي تحضر بقوة، نلاحظها على الخصوص في أزياء تقليدية تأتي مزركشة لا تأخذ لونا محددا، تبدو وكأنها عبارة عن أعمال فسيفسائية، تنبض بالحياة، حيث تتنوع فيها الألوان وتتحول إلى كلمات تروي قصصًا عجيبة، وتظهر على شكل صور لامعة ، تتجاوز الواقع للتعبير عن الإشعاع، وتنوع ثقافات البلد وتمازجها، ولذلك لا غرابة أن تتكرر العين الفرعونية في أعمالها لخصائصها التميمية المستخدمة للحماية من الحسد، مما يضع المشهد البصري أمام قلق في أفق اللوحة، يتجسد من خلال تدرج اللون من الفاتح إلى الباهت، ومن الأصلي إلى الفرعي ليحمل الذات إلى محاولة البحث عن شيء ضائع مع الزمن، يجعل الفنانة تعيش حالة من الاضطراب، تعبر عنها بواسطة استخدام الخطوط المتعرجة، وتشويه الأشكال، مما يخلق عندها إحساسًا بالضيق، خشية أن تنساق المرأة المغربية مع الموضة، فتفقد رفعتها وأناقتها بإتلاف تحفها، الأمر الذي قد يُطمر إلى الأبد تاريخ عريق موغل في القدم، تتحدث عنه هذه المرأة التي تشبه بزينتها إلى حد كبير عروسة الأمازيغ، تاغنجا، رمز الإخلاص، والخير، مما يعكس مزاج الفنانة في لحظة انتشاء، عبرت عنه بلمسة على طريقة تنبض حيوية وهي تنسج صورة شاعرية غير مختزلة في زاوية واحدة، تتقاطع فيها الذاكرة والحنين والرؤية العصرية، لكن يُقرأ العتاب في نظرة صاحبتها، وندبة ترفض الانطفاء، ونداء صامت للحفاظ على التلائد، يتم استشعاره والتعبير عنه بطريقة التركيز على أصول الأشياء وأبعادها التاريخية، فيغمرها شعور الانغماس في نسيج الأشياء من خلال تصوير الشخصية بطريقة تكعيبية ثائرة، تتجاوز مقاييس الجمال العصرية، وتوظيف مبدأ التضاد اللوني في هذا العمل بالذات الذي ينظر إليه كقیمة ابتکارية، تعكس الجرأة في استخدام المواد والأدوات والتقنيات، وطرح الأفكار، ورؤية جديدة للعالم من حولنا، مما يثير التفاعل ويبعث على التفكير.
مهما اختلفت الألوان وتنوعت الخامات، يبقى اللون الترابي على حقيقته للإحالة إلى البيئة، والأسود والأبيض لاستعراض التاريخ، وبعث الروح فيه، واستحضار الزمن الجميل، حتى يتمكن من الانتفاض مجددا من عمق لوحة تبدو وكأنها تحفة، توحي بمومياء تبعث على الهدوء والحكمة، يخيم عليها صمت مطلق ، يعتبر أهم من الكلام في الجانب البصري، وعنصرا أساسيا لتأمل وجه لم يأت كجزء من جسد، بل هو بوابة إلى ماض عريق، ولعل أعظم ما يمنحه هو هذا الإدراك بأن الجمال الحقيقي لا يكمن في ملامحه ، بل في إيماءاته التي تتحول إلى لغة هيروغليفية تنبض بالحياة، تجسّد المرأة المغربية كذاكرة حيّة، وتحوّل القماش إلى مرآة لهوية لا تنطفئ ، بل تتجدد لتساير إيقاع العصر بتناقضاته وتبايناته، يعكس ذلك استعمال تقنيات متنوعة وألوان صاخبة، مستقاة من محيط فنانة منفتحة، تستقر مع أسرتها الصغيرة بالدار البيضاء، تتميز بجرأة في عرض أفكارها وتصورها، وطرح توجهاتها الفنية بثقة دون الخوف من التجديد والتجريب.