كتابات في تاريخ منطقة الشمال: عبد السلام بنونة.. رائد الحركة الوطنية بشمال المغرب

 

تظل سيرة الحاج عبد السلام بنونة مجالا أثيرا لمؤرخي المغرب الراهن في كل محاولاتهم لتقليب صفحات مسار تكون تيارات الحركة الوطنية بالشمال ثم بعموم بلاد المغرب. فالرجل صاحب فضل كبير على أطياف العمل الوطني بالمنطقتين الخليفية والسلطانية، من موقعه كفاعل مباشر في الأحداث، كانت له القدرة الكافية، والنزاهة السياسية في السعي لاستيعاب عوامل آفة السقوط والانكسار التي جسدتها حيثيات استسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف سنة 1926، ثم ما تلاها من توال مسترسل لسقوط أقطاب حركة المقاومة المسلحة الأولى بالبوادي مع هزيمة عسو باسلام بالأطلس الكبير واضطراره للاستسلام للفرنسيين سنة 1934.
كان الحاج عبد السلام بنونة سابقا لعصره، بانفتاحه على مكتسبات الحضارة الغربية وعلى تيارات العمل التحرري بالمشرق العربي، إلى جانب إتقانه الكبير للغة الإسبانية وانفتاحه على عناصر عطاء القوى الكولونيالية في المجالات الفكرية والتقنية والأدبية والفنية، ثم الاقتصادية والسياسية. كان يعرف، بذكائه المتقد، أن حركة المقاومة المسلحة لا يمكن أن تحقق أهدافها وترنو إلى توسيع آفاق فعلها، مادامت البيئة الحاضنة غير مستوعبة للسياق ولا لحجم التضحيات ولا لآفاق العمل. فالمثبطات كانت كثيرة والإكراهات متعددة، وكوابح الانطلاق مزمنة. لذلك، فالاستمرار في تحدي شروط الواقع، لم يكن إلا ضربا من التحدي غير المحسوب العواقب والذي لم يكن ليؤدي إلا إلى المزيد من الانكسار ومن الإحباط ومن التردي. فلا يمكن مواجهة الغزاة إلا بعد تقوية المجتمع وتحصينه، ليس – فقط – عسكريا، ولكن -أساسا- اقتصاديا واجتماعيا وتربويا وثقافيا.
كان الحاج عبد السلام بنونة مدركا لحدة الشرخ الذي كان يُبعد المجتمع المغربي عن مكتسبات الحضارة الغازية، كما كان إيمانه قويا بضرورة بناء النفوس وتحريرها من آفة التخلف والجهل والانحطاط قبل الانتقال إلى مشاريع المواجهة المادية المباشرة للاستعمار. وعلى الرغم من أن هذا الموقف ظل مثار عدة ردود أفعال من قبل متحمسي الكفاح المسلح، فإن تأثيره سرعان ما انساب داخل المجتمع، قبل أن يتحول إلى برنامج تحرري شامل بكل جهات المغرب، تبنته أطياف العمل الوطني التحرري الجنيني، سواء بالمنطقة السلطانية التي كانت خاضعة للنفوذ الفرنسي، أم بالمنطقة الخليفية التي كانت خاضعة للنفوذ الإسباني، أم بالمنطقة الدولية التي شملت مدينة طنجة وأحوازها.
لقد قيل الشيء الكثير عن تجربة الحاج عبد السلام بنونة، وصدرت دراسات تأسيسية بهذا الخصوص بتوقيع رموز الكتابة التاريخية الوطنية المعاصرة بالشمال، وعلى رأسهم المؤرخ محمد ابن عزوز حكيم، ومع ذلك، ظل الموضوع يثير شهية الباحثين لاعتبارات متعددة، لعل أبرزها مرتبط بآفاق التأويل داخل تجربة الحاج عبد السلام بنونة، ثم باستمرار تأثير إسقاطات هذه التجربة على مجمل تلاوين خريطة العمل السياسي التأطيري بمنطقة الشمال، منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي وإلى يومنا هذا.
في سياق هذا التوجه العام، يندرج صدور كتاب «عبد السلام بنونة: رائد الحركة الوطنية بشمال المغرب (1888-1935)»، للأستاذ مراد المعاشي، سنة 2024، وذلك في ما مجموعه 124 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل يستجيب لأفق الاهتمام المتزايد لدى مؤرخي الزمن المغربي الراهن وفق المحددات المؤطرة التي أشرنا إليها أعلاه، خاصة وأن الأمر يتعلق بتجربة مؤسسة تنتمي لفترة تحول مجتمعي حاسم لازلنا نعيش تداعياتها المتداخلة والجاثمة على أداء النخب الوطنية إلى يومنا هذا. اختار الأستاذ مراد المعاشي العودة لتجميع رصيد الأعمال البيوغرافية التي اشتغلت على سيرة عبد السلام بنونة، وتحديدا الأعمال المنجزة باللغة العربية، مع إضاءات بيبليوغرافية فرنسية ضيقة جدا، مقابل تغييب مطلق وكلي لأرصدة الوثائق الإسبانية والأعمال القطاعية والبيوغرافية ذات الصلة. ويحدد المؤلف الإطار العام لعمله في كلمة تقديمية تركيبية جاء فيها: «سنتناول البحث في شخص عبد السلام بنونة، موظفين بذلك المنهج البيوغرافي، الذي يهتم بالفرد في إطار تفاعلاته مع قضايا عصره ومحيطه، من خلال ما يعرف بالتاريخ الميكرو اجتماعي، كما اعتمدنا مقاربة كرونولوجية أحيانا، وموضوعاتية أحيانا أخرى، معتمدين على الجمع بين السرد والتحليل والتفسير، وذلك للإجابة عن الإشكالية الكبرى وهي: ما الدور الذي لعبه عبد السلام بنونة في التأسيس للحركة الوطنية بشمال المغرب خاصة والمغرب عامة؟ للإجابة عن هذه الإشكالية تم تقسيمها إلى أسئلة فرعية وهي: من هو الحاج عبد السلام بنونة؟ وما أفكاره وتوجهاته؟ وما أبرز أعماله ومواقفه؟ وما إسهاماته في بناء الحركة الوطنية المغربية؟…» (ص ص.8-9).
وللاستجابة لمطلب هذه الأسئلة الموجهة، اعتمد المؤلف على تقسيم عمله بين أربعة فصول متكاملة، إلى جانب مقدمة تأطيرية وملحق ببعض الوثائق التي سبق للمرحوم أبي بكر بنونة استغلالها وتوظيفها في إصدارات سابقة. ففي الفصل الأول، توقف الأستاذ المعاشي للتعريف بشخصية عبد السلام بنونة، وخاصة على مستوى الأصل والانتماء والنشأة والتكوين ومنظومة القيم التي أثرت في تجربته. وفي الفصل الثاني، انتقل المؤلف للبحث في تفاصيل أدوار عبد السلام بنونة الممهدة لنشأة الأنوية الأولى للحركة الوطنية خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1916 و1930. وخصص الفصل الثالث للتعريف بإسهامات بنونة في الحقل الوطني منذ فترة صدور الظهير البربري سنة 1930 إلى سنة 1935، تاريخ وفاته. أما في الفصل الرابع والأخير، فقد اهتم المؤلف بالتعريف ببعض الاهتمامات الشخصية لعبد السلام بنونة خاصة على المستويين العربي والدولي، وهي الاهتمامات التي جعلت منه رائد عصره بمبادرات غير مسبوقة لتحديث الذهنيات وللارتقاء بالمجتمع، الأمر الذي وجد ترجمته في مشاريع اقتصادية وتعليمية وجمعوية وثقافية، لا شك وأنها تحتاج للمزيد من الأعمال البيوغرافية المتخصصة. يعود الفضل للحاج عبد السلام بنونة في تشييد مصانع عصرية، وفي إنشاء جمعيات مدنية، وصحافة محلية، في زمن كان فيه المجتمع المغربي لايزال حبيس ظلام التخلف والانحطاط من جهة، ثم التآمر الاستعماري من جهة ثانية.
وإذا كان العمل الجديد للأستاذ مراد المعاشي قد نجح في إعادة تقييم أوجه عطاء تجربة عبد السلام بنونة من خلال ربطها بسياقاتها الوطنية والعربية والدولية، فإنه – في المقابل- تغافل عن وقائع حاسمة وخلفيات محددة في تجربة بنونة، مردها – بالدرجة الأولى- إلى التغييب الكلي للوثائق الوطنية الدفينة، ثم للوثائق الإسبانية ذات الصلة، وكذا لنتائج الدراسات المتخصصة المنجزة بمختلف الجامعات الإسبانية خلال مرحلة ما بعد رحيل الاستعمار الإسباني عن شمال المغرب. فعلى الرغم من إشارة الأستاذ المعاشي إلى اعتماده على عدد من الوثائق في بحثه (ص.90)، فإننا لم نقف داخل متنه على أي من هذه الوثائق الدفينة، باستثناء ما هو منشور في أعمال معروفة لمحمد ابن عزوز حكيم أو لأبي بكر بنونة. ولعل هذا ما جعل المؤلف يقدم العديد من الأحكام المطلقة التي تتطلب الكثير، وأقول الكثير، من التريث العلمي ومن الصبر المنهجي ومن الأناة التنقيبية قبل استصدار الأحكام الخاصة بها. من بين هذه الأحكام -على سبيل المثال لا الحصر- والتي تحتاج إلى التريث والتدقيق، قوله بخصوص المقارنة بين النموذجين الاستعماريين الفرنسي والإسباني بالمغرب: «من المؤكد أن هذا الاختلاف والتباين ألقى بظلاله على المغرب، وكان من نتائجه وجود حماية فرنسية قمعية ومتسلطة، ولها تصور استعماري، وحماية إسبانية ليس لها أي تصور لكيفية إدارتها للمنطقة، فتجدها قمعية تارة ومهادنة تارة أخرى، نظرا للتقلبات الداخلية التي كانت تعرفها…» (ص.6). ويضيف: «فإذا كانت الحركة الوطنية بالمنطقة السلطانية اختارت المواجهة المباشرة مع فرنسا نظير القمع الذي جوبهت به من قبلها، فإن نظيرتها بالمنطقة الخليفية اختارت السير على نهج المهادنة والملاينة (كذا)…» (ص.6). ولإبراز أهمية إصداره الجديد، يقول المؤلف بنوع من الإطلاقية: «كما أن شخصية عبد السلام بنونة، لم تحظ بالدراسة والتحليل الكافيين، على الرغم من أدواره الكبرى في نشأة العمل الوطني، وغالب الدراسات تطرقت لشخصه ضمن جملة الوطنيين بالشمال… ولم تأت على دوره الأساسي والكبير في هذا الصدد…» !! (ص.8). ويقول بخصوص الخط السياسي العام المميز لأداء عبد السلام بنونة بصيغة تحتاج لوحدها أن تكون موضوع دراسات علمية وتشريح أكاديمي: «سارت الحركة الوطنية في المنطقة الخليفية على الخط الذي رسمه لها عبد السلام بنونة، وهو خط الاعتدال والملاينة، قصد توفير الشروط اللازمة للاستقلال، التي كان يرى بنونة أن دونها لن يكون هناك أي استقلال تام، ولم يحد رجالاتها عن هذا الخط الذي رسمه بنونة إلى غاية وفاته…» (ص.88).
وعلى هذا المنوال، تنساب العديد من الأحكام والخلاصات، التي يبدو أن غياب المادة الوثائقية الغميسة كان من وراء إتاحة المجال لإطلاقها بدون ضوابط علمية صارمة. فما هو حظ وثائق الحركة الوطنية بالشمال داخل المادة الخام التي اشتغل عليها الكتاب، وتحديدا الوثائق الموزعة ليس فقط بمدينة تطوان ولكن – كذلك- بمختلف أقاصي منطقة الشمال؟ وما هو حظ تقارير الاستخبارات الإسبانية والتغطيات الإعلامية المواكبة لعمل عبد السلام بنونة، مما أصبح متاحا الاطلاع عليه اليوم باللغة الإسبانية؟ وهل يكفي منحى اعتبار أعمال محمد ابن عزوز حكيم كقطب للرحى في توفير مادة الكتاب، من أجل إطلاق مثل الأحكام المذكورة أعلاه؟
ستظل أسئلة المشروع التحديثي للحاج عبد السلام بنونة قائمة، وسيظل منهج المؤرخ وأدوات نبشه الدقيقة، سلاحا كفيلا بالكشف عن التفاصيل «الأخرى». وسيظل النقد التاريخي مدخلا لابد منه في السعي لتحصين الذاكرة التاريخية، بعيدا عن مهاوي الانزياح، وقريبا من حقائق الأسئلة المُربِكة لإشكالات الزمن المغربي الراهن.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 11/09/2024