كتابات في تاريخ منطقة الشمال: «معركة القصر الكبير»

 

معركة القصر الكبير، أو معركة وادي المخازن، واحدة من أكبر المحطات التي صنعت التحولات العميقة في العلاقات الخارجية للدولة المغربية خلال مطلع العصور الحديثة، بالنظر لارتداداتها الواسعة التي تجاوزت الإطار الزمني الضيق لسنة 1578م، لتمتد بتأثيراتها البعيدة المدى على الكثير من المحطات الحاسمة في تطور العلاقات المغربية الإيبيرية خلال فترة الخمسمائة سنة الماضية. لقد قيل الشيء الكثير عن هذه المعركة، وأنجزت دراسات متعددة بالضفتين المغربية والإيبيرية، للبحث في سر الانكسار الشامل الذي عرفته هيبة الملك دون سيبستيان ومعه دولة البرتغال التي فقدت استقلالها لفائدة الجار الإسباني. ومع ذلك، ظل الموضوع يحظى براهنيته المتجددة، لاعتبارات متعددة، لعل أهمها مرتبط باستمرار حضور وقائع معركة القصر الكبير في الذاكرة الجماعية لمغاربة المرحلة الراهنة وكذلك لنخب البرتغال ومثقفيها ومفكريها ومؤرخيها. وإذا كنا لا ننوي -في هذا المقام- الخوض في تفاصيل «ما جرى» فوق الأرض المغربية، فإننا نسعى للانفتاح على نقاط الظل التي ظلت مضطربة داخل متون الإسطوغرافيات التقليدية المتوارثة، سواء منها الإيبيرية البرتغالية أو المغربية العربية الإسلامية. ويهمنا –أساسا- في هذا السياق، إعادة تصنيف البيبليوغرافيات الدفينة التي استحضرت أوجه حضور منطقة شمال المغرب، وخاصة مدينة أصيلا التي انطلقت منها الحملة البرتغالية ثم مدينة القصر الكبير التي احتضنت وقائع المعركة وتفاصيلها الكبرى.
ويعتبر الأستاذ عثمان المنصوري واحدا من أبرز المؤرخين المغاربة الذين اهتموا بهذا الجانب المظلم من جزئيات وقائع معركة وادي المخازن، من موقعه كباحث متخصص في رصد تلاوين العلاقات المغربية البرتغالية خلال الفترتين الحديثة والمعاصرة. ومعلوم أن الأستاذ المنصوري قد أصدر العديد من الأعمال المرجعية في دراسة إبدالات العلاقات المغربية البرتغالية في تقاطعاتها المتداخلة على المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى رأسها أطروحته المتميزة حول العلاقات المغربية البرتغالية خلال القرن 18. وبذلك، استحق الأستاذ المنصوري ريادته العلمية التي جعلته مرجعا لا يمكن تجاوزه عند كل محاولات البحث في تطور العلاقات المغربية البرتغالية، إلى جانب ثلة من الباحثين المتخصصين، مثلما هو الحال مع الأستاذ أحمد بوشرب المتخصص في قضايا الغزو الإيبيري الذي ضرب بلادنا خلال مطلع العصر الحديث.
ويبدو أن طموح الأستاذ المنصوري قد التقى مع إرادة جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، من أجل إصدار ترجمة علمية رفيعة، لواحد من أهم النصوص البرتغالية ذات الصلة بمعركة وادي المخازن، يتعلق الأمر بكتاب «معركة القصر الكبير»، لكيروش فيلوزو، الذي أصدرته الجمعية المذكورة خلال مطلع سنة 2020، في ما مجموعه 239 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب، في الأصل، يشكل جزءا من بين ستة فصول احتواها المجلد الخامس من موسوعة تاريخ البرتغال التي اشتغل عليها المؤرخ البرتغالي دامياو بيرش، ثم صاغها المؤرخ البرتغالي كيروش فيلوزو من موقعه كمتمكن من تاريخ البرتغال خلال الفترة الحديثة. ولقد حددت الكلمة التقديمية لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير معالم هذه القيمة العلمية للكتاب، عندما قالت: «يعتبر (أي الكتاب) من أمهات الكتب التاريخية البرتغالية… (إذ) يتضمن… مجموعة من الإفادات والتفاصيل المهمة عن المعركة من داخل البرتغال ومن قلب المعسكر البرتغالي، خلال مراحل الإعداد والإبحار إلى المغرب، ومقامه بأصيلا وانتقاله منها برا نحو مكان المعركة، وهي معلومات تفتقر إليها المكتبة المغربية وتشكل رصيدا إضافيا لمعلوماتنا عنها…» ( ص ص. 5-6).
ولإبراز الحوافز العلمية التي وجهت عمل الأستاذ المنصوري للاهتمام بالكتاب موضوع هذا التقديم، يقول المؤرخ المنصوري في كلمته التقديمية: «قد يكون غريبا أن يهتم البرتغاليون بمعركة انهزموا فيها أكثر من اهتمام المغاربة بالمعركة التي انتصروا فيها، لكن تفسير ذلك قد يعود إلى توفر الجانب البرتغالي على مادة غنية من المصادر والوثائق والشهادات التي لا تتوفر لدى الجانب المغربي. وهي في معظمها معاصرة ومعاينة للحدث، أو قريبة منه، من إنجاز البرتغاليين أنفسهم أو غيرهم من إسبان وإيطاليين وغيرهم… لذلك يصبح من الضروري للباحث المهتم بهذا الموضوع، أن يحاول الاطلاع على المقاربتين (المغربية والبرتغالية) قبل أن يحاول تجميع ما يمكن الاتفاق عليه في أبحاث جديدة، مبنية على التكامل والتنسيق والمقارنة، وتصحيح الأخطاء. في هذا الإطار تأتي هذه الترجمة التي عنونتها بمعركة القصر الكبير، لتقريب القراء المغاربة من وجهة النظر البرتغالية، من خلال هذه المقاربة التي يتوخى صاحبها الحياد والموضوعية –قدر المستطاع- والتي تندرج في إطار مشروع أتوخى منه إطلاع الباحثين المغاربة على كتابات نظرائهم البرتغاليين عن المغرب وتاريخه، وسد بعض الفراغ الذي تعاني منه الخزانة المغربية…» (ص ص. 8-9).
ولعل من أهم ما يضفي قيمة إضافية على جهد الأستاذ المنصوري، اعتماد الكتاب المترجم على كم هائل من المستندات والوثائق والمصادر والشهادات والروايات لصانعي الحدث أو للمساهمين فيه أو لمواكبيه عن قرب. وتزداد هذه القيمة بروزا، مع استحضار الجهد الكبير الذي بذله المترجم من أجل ضبط السياقات، وإعادة ترتيب الهوامش والإحالات، وتطويع منغلقات اللغة البرتغالية لتقديم نص عربي سلس، ينساب السرد فيه وفق قواعد انتقال المعلومات من لغتها الأصلية إلى اللغة المستقبلة. وقد استثمر الأستاذ المنصوري في ذلك، إتقانه الواسع للغتين، المترجم منها والمترجم إليها، إلى جانب ارتباطه الأكاديمي بموضوع الكتاب، وبشغفه المتواصل لتعزيز هذا الارتباط «الحميمي» بمجال الدراسة عبر سلسلة مبادراته ذات الصلة، وهي المبادرات التي جعلت منه خبيرا في العلاقات المغربية البرتغالية للقرون الخمسة الماضية.
وبالنسبة لمنطقة الشمال، فالمؤكد أن الكتاب يقدم معطيات توثيقية هامة حول واقع حواضر المنطقة ومجالاتها الترابية عشية سنة 1578م، وخاصة بالنسبة لمدينتي أصيلا والقصر الكبير، إضافة إلى أنه يساهم في تجاوز روح التعامل العاطفي المفرط في حماسه، والمنتصر للرؤى المركزية للدولة المغربية السعدية، في مقابل إعادة تقييم دور الأقاصي بالشمال في سعيها لتكوين سد منيع كان له دوره الفعال في صيانة استقلال البلاد وفي التصدي لمختلف الأطماع الاستعمارية التي تبلورت بأوربا في سياق موجة المد الميركنتيلي الجارف، ووجدت تطبيقات عملية لها فوق الأرض المغربية عبر موجات الغزو والاحتلال الإيبيريين للثغور المغربية بالضفتين المتوسطية والأطلنتية للبلاد.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 25/03/2021