كتابة المكان بين الحنين والصنعة

أحمد المديني يحتفي بـ «أبو المكان» إدريس الخوري

كمال العيادي: أكتب عن الحنين في المكان

ناصر عراق: المكان جزء من ذاكرتي الإنسانية

 

كيف ينجح الكاتب في تحرير مفهوم المكان من مورفولوجيته وماديته ليحوله الى ذات وحالة قد تصل حد تسيده البطولة في العمل الإبداعي؟ هل لايزال المكان إطارا لسيرورة الحدث، أم أصبح أحد مواضيع الكتابة الحديثة، وهل يظل العمل محتفظا بثرائه الدلالي إذا الغينا المكان من بعض النصوص خاصة في الأعمال التي تحمل عناوينها أسماء أماكن مادية؟ خاصة أنه هو المسافة الطويلة الفاصلة بين أقطاب النص الأدبي الثلاثة:
الكاتب، القارئ والعمل؟
أسئلة طرحتها ندوة «كتابة المكان» أول أمس الأربعاء 8 يونيو، بالمعرض الدولي للكتاب والنشر في دورته 27، والتي أدراها فقراتها الكاتب محمد صوف، وتقاطعت فيها رؤى وتصورات كل من الروائي المصري ناصر عراق ، والمغربي أحمد المديني والتونسي كمال العيادي.

ناصر عراق: المكان جزء من تشكيلي البصري

يعتبر الروائي والصحفي المصري، ناصر عراق، أن العلاقة بالمكان لا يمكن فصلها عن العلاقة بالزمن، لأن المكان يتطور ويتدهور حسب القائمين على إدارته، مؤكدا أنه يحاول ما أمكنه ذلك، استثمار علاقته بالزمن والمكان، هو الذي زار 200 مدينة عربية وأجنبية ، شاهدا على تحولاتها و تطور عمرانها وناسها من القاهرة إلى دبي في 1999 حين انتقل إليها للعمل بمجلة «دبي الثقافية» و»دار الصدى».
علاقة ناصر عراق بالمكان تَصْدُر عن خلفية فنية أيضا هو الدارس للفن التشكيلي والممارس له، ما عزز لديه ملكة التركيز على الأمكنة بتفاصيلها الدقيقة، الوجوه، الأشياء، ملامح الناس، لتنضاف تجربته في المسرح كممثل ومخرج ومصمم للديكور، في إغناء هذه العلاقة بالمكان الذ ي أصبح يعيشه سينوغرافيا ، من حيث حركة الممثلين وعلاقتهم بالكتل الموجودة.
مرجعية بهذا الثراء، جعلت ناصر عراق يعتبر المكان جزءا من تشكيله البصري وذاكرته الإنسانية، حيث يستحيل الانفلات من أسر المكان خاصة للكاتب المرتبط، عميقا، ببعض الأمكنة التي يقوده الحنين إليها، ولذا فجل رواياته يحضر فيها المكان بكثافة.
يتذكر ناصر عراق، الحائز على جائزة كتارا عن روايته «الأزبكية»، طفولته الممتدة على امتداد الحقول الخلفية لـ»شبرا البلد» أيام القاهرة القديمة، حيث النيل يستقبل طلة الصباح وحيث الهرم على مرمى نظر، قبل أن يزحف الإسمنت على آخر امتدادات الريف وتنسحق معالم القاهرة تحت عجلات التمدن.
تحولات شكلت زادا نهل منه ناصر عراق في أغلب مواضيع رواياته وشخصياتها وفضاءاتها، من» الأزبكية» الى «دار العشاق» ومن «فرط الغرام» إلى «الأنتيكخانا».

أحمد المديني: نحتاج لأن نقدم المكان بأدواته لا بفيض العاطفة

اختار الروائي المغربي أحمد المديني الدخول الى المكان من «باب الكبير» بالرباط، حيث من شيم الوفاء وآداب الزيارة أن نحيي صاحبه «أبو المكان» الراحل إدريس الخوري الذي لم يلتفت القائمون على المعرض إلى رحيله وغيابه الشاسع والموجع بتخصيص فقرة من فقراته استحضارا لروح كاتب سكن العاصمة وسكنته،كواحد من أعمدة المدينة الأدبية.
يؤكد صاحب «رجال الدار البيضاء» أن المكان يحضر في كل رواياته، مبتدأ ومركزا ومنتهى، لافتا إلى أن مفهوم المكان أصبح مركزيا في الرواية الحديثة، عكس وجوده في الآداب القديمة، فهو حياة تتجاوز الوجود المادي بجدرانه وأبوابه وسقوفه، وتتجاوز المكان الخارجي ومن هنا نفهم المكان في الرواية والواقع كما يوجد في النص أو في الحياة أو بينهما.
يعتبر مؤلف «نصيبي من باريس»، أن كل حديث عن المكان هو حديث عن المدنية الحديثة، لأن الرواية الحديثة بنت المدينة والثورة الصناعية ونتاج العلاقات الرأسمالية الوليدة، مشيرا إلى أن هذه الرواية الحديثة خلقت مكانها المستقل بها، بتقاليده وروحه وثقافته، لذا ينبغي أن يتضمن المكان الروائي هذه الروح وهذه العناصر المادية التي يوجد الإنسان في قلبها، فهو من يحيي المكان بكينونته وبكيانه المادي وثقافته، وبالصراعات التي تدور داخل دائرة ثقافية أو سياسية أو اقتصادية. هذا التوجه حسب صاحب «فاس لو عادت إليه»، أسس له الروائيون الأوربيون حيث صنعوا مفهوم المكان في السرد التخييلي، خاصة الرواية الفرنسية التي أسست للمكان من جديد لأنها انطلقت منه كـ«شيء» بتجريد تام، لتفصل بين الكائن والمكان ولتصبح البطولة للمكان كوصف وكتشخيص عبر العين التي تنقل أدق التفاصيل، بعيدا عن أي إسقاط عاطفي.إسقاط، يرى المديني، أن على الروائيين العرب التخفف منه ومن ظلال الذات التي تسقط استعاراتها عليه وتُحمِّله ما لا يحتمل، وهو ما لا يستقيم ولغة الرواية التي اتناول المكان في وجوده الموضوعي. فالروائي لا يحتاج الى فيض العاطفة الذي يبقى ضروريا في حدود معقولة، بل يحتاج إلى إلى قدرة فنية ومهارة في اللغة تجعله يطوّعها ليخلق أمكنته من جديد، مضيفا أننا «نحتاج لأن نقدم المكان بأدواته وليس بلغة طافحة رغم ما للغة من أهمية في الوصف» لكنها لا تكتفي لوحدها.

كمال العيادي:لا أكتب المكان، بل الحنين فيه

من يحمل منهما الآخر: الإنسان أم المكان؟
يعترف الروائي والقاص والمترجم والشاعر التونسي كمال العيادي أنه لا يكتب المكان، بل يكتب الحنين في المكان وروحه، يكتب عن طفولته، عن الدروب والحارات التي احتضنت شغبه الطفولي ونزقه الشبابي، وكل الأمكنة التي صنعته.
يرى صاحب «مفاتيح القيروان»أن المكان يكتسي روح الشخوص، و»أننا صنيعة المكان في العالم العربي وفي النصوص العربية»، لأننا نعرف تفاصيل الجنة والنار كمكان افتراضي لم نزره، ولكننا نستبطنه في ذاكرتنا ووعينا ووجداننا.
ويخلص مؤلف «حومة علي باي» إلى أن المكان في الرواية أهم من الزمن، هذا الأخير يتم تذويبه في المكان، كما أن الكتابة التي لا تستشعر روح المكان، يجب أن توضع أمامها علامات استفهام ، لأن عملية الكتابة ليست تجذيفا في اللغة، ولا تشكيلا من القاموس، أو استحضارا من الذاكرة، بل هي حرف دال موجع في الحياة، مؤكدا أن كل «الذين كتبوا بروحهم وعصارة قلوبهم، وامتزج المكان لديهم بالشخوص وبالذكريات والحنين بقيت آثارهم خالدة في جميع أشكال التعبير الثقافية».


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 10/06/2022