كتاب « المقدس بين الرمز والسيف» للدكتور نور الدين الزاهي

العنف السلفي والوهابي وعنف العلوم الاجتماعية ضد الإسلام

 

أصدر الدكتور نور الدين الزاهي كتابا يتناول « المقدس بين الرمز والسيف « ينطلق فيه من استراتيجية التأويل إلى استراتيجية التنفيذ، ومن العنف الرمزي إلى العنف المدمر، ومن الرأسمال الرمزي- القدسي إلى الرأسمال القتالي الراديكالي، ومن تفكيك الرموز إلى تفكيك الأرحام والأوصال، ومن مسرحة المعنى إلى دوغمائية ووثنية الاعتقاد، ومن تذكية الذبيحة إلى نحر الكائنات البشرية ..ذلك هو الفاصل بين مقدس الرمز ومقدس السيف.
يتطرق كتاب الدكتور نور الدين الزاهي « المقدس بين الرمز والسيف « إلى العديد من العناوين والعناوين الفرعية حيث نجد في فهرس الكتاب : الزاوية بوصفها ركنا ( جذور التركيب الأول و طبيعة التركيب الثاني )، الزاوية بوصفها مفهوما هندسيا والزاوية بوصفها مجالا مقدسا والزاوية بوصفها زمانا مقدسا والزاوية بوصفها تأسيسا عمرانيا ورمزيا ( الزاوية كتأسيس عمراني، وكمثال الزاوية الدلائية والزاوية السملالية )، والزاوية بوصفها تأسيسا رمزيا ( الزاوية بوصفها رمزا تعليميا والزاوية بوصفها مركزا للتجمع والزاوية بوصفها مركزا للتحكيم والزاوية بوصفها مركزا طبيا )، والزاوية بوصفها وجها للمحلي والكوني .
كما تطرق الكتاب إلى إسلام الزوايا أو الإسلام السياسي ( إسلام الزوايا أو الإرث المزعج للسلفية وإسلام الطرق الدينية وإسلام المخزن أو الإرث المعلن للسلفية ) واختتمه بعنف الإسلام وعنف العلوم الاجتماعية ( عنف النص والعنف في تاريخ أو ممارسة العنف والعنف الابستيمي الجنائزي أو تفكير الديانة بمستقبلها الميت والعنف ضد الإسلام، كما تحدث عن العنف الحاصل داخل النص القرآني، ضمن تاريخ المسلمين القريب من لحظة النبوة.
يحتوي كتاب « المقدس بين الرمز والسيف « للدكتور نور الدين الزاهي على 177 صفحة من الحجم الكبير عن منشورات «دار أكورا»

 

 

لا يحضر المقدس في العالم بشكل مباشر، بل عبر وسائط مغايرة لذاته. يتعلق الأمر بأشياء وكائنات وأشخاص وأمكنة وأزمنة… تتلقى حضوره لتصبح مسكناً له، وبناء على ذلك لا تكون أشياء العالم مقدسة في أصلها وجوهرها، بل تصبح مقدسة في ما بعد. يتجلى حضور المقدس في منحه كل أشكال سكنه معنى مغايراً لطبيعتها، أو لنقل معنى زائداً وفائضاً. هذا المعنى الزائد والفائض هو ما ننعته بالرمز. تغادر الكلمات والأشياء والأمكنة والأزمنة مجالاتها الدلالية المباشرة، لتصبح مشبعة برمزيتها. يهب المقدس المعنى، ويشكل الرمز جسد هذا المعنى، ولذلك يكون الرمز بالنسبة للمقدس، هو الكائن الأكثر قدرة على احتضانه، وفتح منافذه على أنماط العيش المشترك بين الأفراد والجماعات. يستدعي نمط التعالق ذاك بين المقدس والرمز استراتيجية التأويل والمسرحة. تأويل الحكايات والمحكيات ومسرحتها في طقوس الحفل والحرب والصيد والزواج والختان والولادة والموت والحرث والحصاد…
تشكل الزوايا تنظيمات دينية، وبحكم وضعها ذاك، تجد نفسها في وضعية تماس دائم مع تنظيمات أخرى، سياسية وسياسية – دينية وإيديولوجية- دينية وقبلية، محلية كانت أو مركزية. لكن سيكون من باب العماء اختزالها في بعدها التنظيمي. كل زاوية هي في الأصل علاقة بين شيخ ومريد. شيخ تشكل مشيخته إعلاناً رسميا عن كونه أصبح مسكنا للمقدس المتجلي جسديا في القدرة على استقبال البركة وسر القدرة على توليدها وتخصيبها، وكذا القدرة على توزيعها وإثبات وجودها المحايث لحركاته وسكناته وصمته وأقواله. بركة ومباركة للخيرات والكائنات كي يتضاعف عطاؤها، وفي الآن نفسه ضمان أمنها وسلامتها ضداً على كل محاولات إلحاق الخراب بها. بركة ومباركة للخيرات والكائنات كي يتضاعف عطاؤها، وفي الآن نفسه ضمان أمنها وسلامتها ضداً على كل محاولات إلحاق الخراب بها. بركة حجاجها كرامات وخوراق وحكم وأقوال وأفعال لها فاعلتها الرمزية المرئية. ذاك ما يفتح علاقة الشيخ على وسطه الحضري أو القروي ويرفع مقام جسده الرمزي ليصبح مجالاً معماريا (زاوية وبعدها ضريح) موسوماً بالقداسة (حرم)، ومحميا بهيبة البركة، وقدرة الأتباع على ضمان تجددها الدائم بفعل التحيين المستمر في الزمان للطقوس والأذكار والأوراد والزيارات والمواسم.
تمقت السلفية والوهابية الزوايا وطقوسها بحجة البدع والجاهلية والعنف المتوحش الذي يطبع طقوسها، والتأويل المذنب لأذكارها وأورادها، والتخلف الذي يسم أنماط ودرجات تبجيل بركات وكرامات شيوخها. يتلافى السلفي والوهابي الوقوف وجها لوجه أمام سؤال العنف في صلاته بالمقدس بشكل عام وبالديانات بشكل خاص. يوجد العنف في صلب المقدس، مثلما يسكن كل الأساطير والقصص والملاحم والتراجيديات… التي غذت وما زالت تغذي المتخيل الديني، وهو أيضاً عنف متجذر في طقوس الجماعات والشعوب وأشكال لعبها الطقوسي بموضوعات القتل والحرب والصراع والمصالحات والموت والحياة والذبح والذبيحة… يتعلق الأمر في هذا البعد بعنف رمزى غير مدمر وغير قاتل، بل يمكن نعته بكونه عنفاً منتجاً. إنه عنف منتج للعيش المشترك بين الهويات والثقافات والانتماءات والعوائد والمعتقات المختلفة. تنطق الزوايا خصوصاً في المجالات القروية بصوت التعايش بين العرف والشرع والمحلي والكوني والخاص والعام وعلوم الفقه والمعارف المحلية العملية… وتعمل على تدبير تلاقحاتها وتوتراتها.
ذاك ما يهدف هذا المؤلف بيانه في فصله الأول المعنون بالمقدس والرمز، من استراتيجية التأويل إلى استراتيجية التنفيذ، ومن العنف الرمزي إلى العنف المدمر، ومن الرأسمال الرمزي -القدسي إلى الرأسمال القتالي الراديكالي، ومن تفكيك الرموز إلى تفكيك الأرحام والأوصال، ومن مسرحة المعنى إلى دوغمائية ووثنية الاعتقاد، ومن تذكية الذبيحة إلى نحر الكائنات البشرية… ذاك هو الفاصل بين مقدس الرمز ومقدس السيف. مقدس نعتناه بالكلياني لأنه يوسع دائرة التحريم لتشمل الوعي والحركة والقول واللباس والذوق… ما يضيق على الناس فضاءات الحكي والحكاية ويخنق رحابة اللعب بالعنف وعنف اللعب. يهجر العنف موطنه القدسي الأصلي ليسكن بنيات العيش في اليومي مستبدلاً جلده الرمزي الغني بعنف مدمر قاتل لحرية الأفراد والجماعات. كل شيء محرم، وكل الطقوس وثنية، وكل الحكايات القدسية أساطير جائرة… اتساع دائرة التحريم والتضحية لأجل دوام اتساعها هو ما تتغيى دراسات الفصل الثاني إبانته عبر إبانة الفرق بين تعالقات المقدس بالرمز وتعالقاته بالسيف، وكذا عبر رصد كيفيات العبور من فضاءات المقدس الرمزي إلى فضاءات مقدس العنف الراديكالي .
لا تقصد دراسات هذا المؤلف شحن القارئ بالأحكام، مثلما لا تعتقد في أطروحة جوهرانية العنف الساكن في ديانات الشعوب، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية. ذاك ما حاولنا أن نختم به مؤلفنا عبر رصد عنف الإسلام وتعيين طبيعته القدسية، وبالمقابل رصد عنف العلوم الاجتماعية الغربية تجاه الإسلام وتعيين طبيعته الإيديولوجية.

المقدس والرمز

حضور الزاوية، في المجتمع المغربي، اتخذ طابع المؤسسة والتي يعتبر الإطعام والتعليم القرآني قواعدها الأساسية. واستمر هذا النوع من الحضور إلى عهد السلطان المريني أبي عنان حيث ستتخذ شكل مؤسسة أو «مركز لنشر الإيديولوجية الرسمية ولتأطير الفعل السيكولوجي للمسافرين» ، في ظل حكم هذا السلطان، أصبحت مهمة الزاوية هي السهر على تلاوة القرآن وترديد الأذكار النبوية، قصد جعل الناس الذين يلجون الزاوية، يستدخلون الإيمان بالله الواحد وبشرعية السلطان الدينية والسياسية. ويتم هذا الاستدخال الإيديولوجي – الديني عبر جعل الوافدين على الزاوية لا يفكرون سوى في حدود التلاوة والترديد، وهذان الفعلان يحققان مفعول تحويل زبناء الزاوية إلى أفراد وعناصر متصالحة دينيا مع الله وسياسيا مع المجتمع. فالترديد اجترار وتقليد، وليس تفكير وانتقاد، لذلك فهو يحقق مهمة سيكولوجية – دينية لها هدف إضفاء الشرعية بشكل غير مباشر على الوضعية الاجتماعية التي يستفيد منها السلطان بشكل مباشر وسياسي. بهذا تتحول الزاوية إلى مؤسسة إيديولوجية للدولة المرينية، الهدف المكبوت من ورائها هو «تثبيت شرعية الحكم والقضاء على مخلفات الخليفة الموحدي (…) وتحييد المهدوية، ولكن أيضا، وكما سنرى، القضاء على التصوف الاحتجاجي».( ص 15 )
كان تأسيس الزوايا من طرف المرينيين له أهداف متعددة خارجة عن إطار التعليم والإطعام. فللقضاء على مخلفات النظام الموحدي، كان لا بد من نشر وإعادة تأسيس المذهب المالكي، ثم قطع الطريق على الصوفية الذين كانوا أكثر التصاقاً بالشعب وأكثر تأطيراً له. لكن آليات الواقع التاريخي ستدفع بهذه المؤسسة إلى التحول إلى مؤسسة تركيبية.
تلعب الزاوية دور المركز الموزع لمعرفة محددة، ولقيم معرفية – دينية، قصد إعادة بناء العلاقات بين الناس. ويلعب الشيخ دور العالم المنتج لهذه المعرفة والقيم. أما محيط الزاوية البشري فإنه يستقبل هذه المعرفة ويعتقد فيها. تهدف الزاوية من خلال عمليتها التلقينية، والتعليمية إلى تكوين هابیتوسات (Habitus) جديد عند مستقبلي معرفتها، قصد توجيه وتأطير علاقاتهم الاجتماعية. كما يشكل الفقه العنصر الأساسي لعملية التعليم، وتشكل معتقدات الطلاب والمريدين، الموضوع الأساسي لعملية الفعل والتحويل، والتشكيل، والتكوين (تكوين هابیتوسات). يستثمر الفقه الملقن العادات المحلية، ويؤطرها ضمن مقولاته، كما يسجنها في نصوصه. إنه يحتويها كي يعيد إنتاجها ضمن تشكيلة معرفية مركبة تكون السيطرة فيها معطاة للمقولات الفقهية الإسلامية. ( ص 48 )
كما يتطرق الكتاب إلى إسلام الزوايا أو الإسلام السياسي ونقرأ في (الصفحة 65 ) : « إن خطاب السلفية الدينية، خطاب لا متجانس وغير واضح، كما أن الخطاب المخزني (ما نقصده بالضبط بالمشروع الديني للسلطان مولاي سليمان) هو الآخر خطاب مركب، مثلما أن خطاب الزوايا الديني هو خطاب غير متجانس. وهذا اللاتجانس السائد والمؤسس لهذه الأشكال المختلفة في عملية استثمار الإسلام، سيساعدنا على تفسير وفهم الأسس المتحكمة في كل محاولة لنفي الشرعية الدينية عن خطاب الزوايا باعتبارها أسساً تبريرية – إيديولوجية ومصلحية سياسية. لذلك سنعمل بشكل عكسي على الكشف عن البعد السلفي في خطاب الزوايا الديني، وعن حضور إسلام الزوايا في الوهابية المغربية وفي خطاب السلفية الدينية، وهو ما سيساعدنا على الكشف عن التناقضات الداخلية لهذه الخطابات الثلاثة، على اعتبار أنها الإرث الذي سيؤطر دينامية السلفية السياسية التي جسدتها نخبة العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن».
إسلام الزوايا أو الإرث المزعج للسلفية
شكل إسلام الزوايا موضوعاً رئيساً للسلفية الدينية بالمغرب مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لدرجة يمكن القول معها، إنّ البعض من هؤلاء حقق حظوته الكبرى فقط لأنه خاض بشكل عنيف هجوماته النظرية والعملية ضد إسلام الزوايا. وبهذا الصدد، لا يمكن أن نجد نموذجاً أفضل من الشيخ أبي شعيب عبد الرحمان الدكالي (1878 – 1937م)، وقبله الشيخ عبد الله بن ادریس بن محمد بن أحمد السنوسي الفاسي (1841 – 1931م) الذي يعتبره كل من علال الفاسي ومحمد ابراهيم الكتاني، الجسر الذي نقلت عبره السلفية القديمة من شكلها الديني، إلى شكلها السياسي المعاصر. وفي نفس الفترة أيضا، حضر أحمد الناصري صاحب كتاب «الاستقصاء»، كما حضرت أيضا شخصيات أخرى ، نستحضر منها ابن المؤقت المراكشي باعتباره اسما مغمورا ، نظرا لأنه لم يشغل منصبا مهما في أجهزة الدولة المغربية مع بداية القرن الحالي.
إن ما يسمح بجمع هذه الشخصيات في إطار واحد، هو أن إنتاجاتها الدينية وممارساتها السياسية من داخل الأجهزة المخزنية وممارساتها التعليمية كانت تحمل سمات رد الفعل على الوضع المستجد الذي أصبح يعيشه المغرب والإسلام، والمتمثل في تحول المغرب إلى موضوع للمؤسسات العسكرية والسياسية والعلمية والدينية الأجنبية، ثم تحوله إلى موضوع للصحف الأجنبية منها، والعربية – المشرقية، إضافة إلى بروز علامات التفكك الأخلاقي والديني. وقد تمحور رد فعلهم على البحث من داخل المجال القيمي – الأخلاقي والديني عن الأسباب التي أدت بالمغرب إلى هذه الوضعية، ومحاولة استنباط الحلول التي بإمكانها أن تمنح المغرب أرضية صلبة لولوج القرن الحالي، باعتباره قرناً مهدداً لحياة المجتمعات الإسلامية. وقد شكل الدين الطاهر والدعوة لإعادة إحيائه المرجع المشترك لكل الحلول المقدمة.

إسلام الطرق الدينية / إسلام السلف

يجد الإسلام الطرقي أسسه وجذوره في إسلام الصلحاء. وكما بينا ذلك سابقاً، فإن إسلام الصلحاء أسس بشكل كامل وقوي على الدعوة إلى الرجوع نحو فترة النبي، أي الرجوع إلى رحلة الإسلام الأولى وكانت هذه الدعوة سببا في بروز أشكال متعددة للارتباط بالنبي (تأسيس الشرف والشجرات السلالية المؤكدة للانحدار من النبي ثم التركيز على ذكر النبي وبهذا الصدد نستحضر كتاب الجزولي «دلائل الخيرات» باعتباره عبارة عن ترديد متعدد للصلاة على النبي). إنها دعوة تأسيسية لتجاوز الفروع والعودة إلى الأصول. لكن دعوة الصلحاء هذه لم تستطع أن تترسخ واقعيًا في شكل تنظيمي سواء على المستوى الإيديولوجي، أو على المستوى السياسي. لقد ظلت هذه الدعوات فردية، أما أسباب سيادتها وانتشارها بالرغم من طابعها هذا، فقد هيأت له شروط الأزمة أو الفساد التي وزعوا فيها خطاباتهم.

إسلام المخزن أو الإرث المعلن للسلفية

يقول علال الفاسي: «وإذا نحن نظرنا إلى الوراء، نجد أول ظهور عصري للحركة السلفية كان في المشرق في نجد، حيث قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بثورته التي أحدثت دويا شديداً في الشرق الإسلامي، إذ صرخت في وجوه الذين ألفوا الخرافات وتعدوا البدع، وقامت دولتهم على الإقطاع واستغلال نفوذ بعض رجال الدين في تعبيد الأمة العربية لحكم استبدادي جائر، فهبت تدعوهم إلى الإسلام الطاهر، واستمداد من معينه لتجديد عقائد التوحيد وتلخيصها من شوائب البدعة والضلال والعودة إلى الإسلام الطاهر، والاستمداد من معينيه الأولين: كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام (…) والحق أنه وقع تجاوب بين الأفكار في نفس ملك المغرب السلطان مولاي سليمان العلوي مع زعماء الوهابية في نجد، وقد تكون البواعث مختلفة في باطن الأمر لأن دافع الوهابية اعتقادي أكثر منه اجتماعي، بينما كان الباحث في نفس السلطان سليمان على اليقظة هي الحالة العامة للبلاد على أنها اثر من آثار الابتداع في العقيدة والسلوك».
يوضح لنا هذا المقتطف من المحاضرة التي ألقاها علال الفاسي بجامعة الأزهر سنة1947م، بشكل كامل، أن الوهابية التي تم استقبالها تشكل مكوناً وإرثاً استثمرته السلفية الدينية والسياسية كما هو الأمر عليه مع نخبة الثلاثينات من هذا القرن. وبما أننا لا نريد أن نجعل من هذه النخبة موضوعاً لنا الآن، بل إننا سنحاول الكشف عن موقع إسلام الزوايا في هذا الإرث الذي سيكون مرتكزا لنشاط هذه النخبة الديني والسياسي، فإننا سنحاول الكشف أولا عن الوهابية في شكلها المغربي، ثم عن علاقتها بإسلام الزوايا وفي الأخير عن تناقضات كل من الوهابية المستثمرة أو الإرث المعلن كما سميناه وأخيرا عن تناقضات إسلام الزوايا كذلك على اعتبار أنه شكل إرثا مزعجا بالرغم من أنه ظل حاضرا بشكل قوي في التشكيلة الفكرية والدينية لهذه النخبة. ( ص 78 – 79).

ماكس فيبر وإسلام
العنف الحربي

يتناول ماكس فيبر الديانة الإسلامية من زوايا وأبعاد ثلاثة مترابطة. يتمثل البعد الأول في تحديد طبيعة تعاليمها من حيث صلاتها بالخلاص والدنيا. ثم طبيعة كاريزما النبي، وأخيرا البنيات والطبقات الاجتماعية التي شرطت ظهورهاته الديانة وحددت طبيعة قيادتها الدينية السياسية.
كل ذلك لأجل فحص إمكاناتها الإتيكية التي لم تسمح لها بدعم ميلاد عقلانيتها الاقتصادية. عكس كل من البوذية والكاثوليكية والبروتستانتية، يتجاهل الإسلام مبدأ الخلاص، ويتعارض مع أي نمط من الرهبنة سواء في الدنيا. لذلك فجميع تعاليمه من ترغيبات وترهيبات غايتها الحياة الدنيوية. بل إن هاته التعاليم وصلت إلى حد تصوير الحياة الآخرة بوصفها جنة ينعم فيها المحاربون بالشهوات والملذات. تتمحور تعاليم الإسلام على حث المسلمين على الجهاد والحرب لأجل جمع الثروة، وبعدها الإستمتاع بملذات ونعم الدنيا، وأخيراً تأدية شعائرهم البسيطة واليسيرة وغير المكلفة (الفرائض الخمس). وبسبب هاته الطبيعة لم يكن العمل والشغل شرطا لجمع الثروة، مثلما لم يكن السعي نحو تحصيل الأرزاق بالجهد أمرا ضروريا. ( ص 160 )
ويشير الكتاب إلى أن الإسلام ضمن انشغاله على سوسيولوجية الأديان بوصفه إسلاما حربيا ، ويؤثث ذلك التوصيف بكثير من المعطيات التاريخية التي تتطلب الحذر والتدقيق والمراجعة .

كلود ليفي ستراوس والإسلام المخرب

لم يشكل الإسلام، من حيث هو دين وثقافة وحضارة، هما مركزيا في أبحاث وكتابات كلود ليفي ستراوس. وهو ما سيجعل التساؤل عن مشروعية إدراجه ضمن مقالتنا هاته تلقائيا ومشروعا. بل إن القارئ باللغة العربية فقط قد يشكك بشكل كامل في ما سنقدمه. لقد تعرض ليفي ستراوس للإسلام في كتابه «مدارات حزينة» بطريقة مباشرة ومثيرة، لكن المترجم العربي حجب عن القارئ العربي كل المقتطفات التي خص بها الكتاب الإسلام، وذلك عبر حذفها وبسبب ذلك ظل الكتاب يتسم لدى جميع قرائه العرب المسلمين بنوع من الجلالة. لقد كتب ليفي ستراوس مؤلفه بلغة شاعرية بليغة وفاتنة، وأثثه بدمج سلس لسيرته الذاتية بفلسفية عميقة وموجزة، ولونه بكل ما دونه من ملاحظات في كراسته الميدانية، لدرجة دشن معها ما يمكن تسميته بالكتابة الأنثروبولوجية الجديدة، والتي يكون فيها الأنثروبولوجي كاتبا.
شکلت شبه الجزيرة الهندية بمسلميها وبوذييها ومسيحييها، میدان الكتاب. مثلما شكلت العين الملاحظة والملتقطة للتفاصيل والمشاهد والأماكن والأحاديث، والصياغة الاستعارية والمشهدية حينا والعقلانية التأملية حينا آخر، أساس أسلوب الكتابة والاستعادة. هكذا شكل ليفي ستراوس جسد كتاب المدارات، لكن في الفصلين الأخيرين المعنونين بـ: «تاكسيلا» و«زيارة إلى الكيونغ»، حيث يحضر تناول الإسلام من حيث هو ثقافة وممارسة وديانة، تنطفئ الشاعرية، ويغيب الاسترسال، وتحضر التوصيفات المباشرة والاستعارات الميتة، ويسطع عنف التصوير المشهدي المشحون بالأحكام المعرفية والعاطفية تجاه الإسلام كديانة، وكنمط عيش، وكممارسة حياتية وثقافية وذوقية. وبسبب كل ذلك سنتابع حضور المقتطفات والفقرات غير المترابطة داخل النص الأصلي، لنعرضها كما هي تحت ظل عناوین نابعة من مضامينها. عناوين فرعية سندرجها تحت ظل عنوانين كبيرين، يخص الأول الممارسات والذهنيات والثاني الإسلام كديانة. (ص 162 – 163).


الكاتب : مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 26/01/2024