كتاب «ترميم عظام الغرقى، يليه أول الماء في تكوين الموج» للفنانة والشاعرة نوال شريف

شعرية الهشاشة والترميم

 

سأنطلق في قراءة وتحليل مضمون هذا العمل من تعريف الإنسان على أنه كائن هش. مصدر الهشاشة البشرية هو الانكسارات المتعددة التي يتعرض لها الإنسان في حياته اليومية، مثل التعب والمرض والنسيان والألم والحزن والأحداث التي يمر بها.هذه الانكسارات هي مقدمات تؤشر على أنه كائن متناهي وبالتالي لايستطيع أن ينتصر على الأوضاع التي تعكس محدوديته في الزمان، لكن مع ذلك فالكائن الهش لا يستسلم لأنه يعي بأن الهشاشة هي شرطه الأنطولوجي فيحاول بالتالي أن يتجاوز هذه الأوضاع التي يدرك أنه لايمكن له إلغاؤها .وهذا ما يحفزه على اكتساب القدرات والوسائل التي تمكنه من التجاوز والنزوع نحو اللامتناهي… الهشاشة كما يقول الفيلسوف الفرنسي «بول ريكور» ليست ضعفا أو نقصا بل هي علامة على اكتساب هذه القدرات المتعددة من أجل عملية التجاوز المذكورة ، الكائن الهش مقيم في العالم لكن هذه الإقامة لاتكفي إذا لم يسع إلى إعادة تشكيل هذا العالم والانفتاح على إمكانات جديدة تكون بمثابة بدائل ..والإبداع هو إحدى هذه البدائل الممكنة للاستمرار في إقامته. من هنا فإن الهشاشة ليست فقط منبعا للتفكير في الوضع الإنساني بل كذلك منبع للإبداع الفني بوصفه محاولة لترميم الذات والعالم وإعادة تشكيل المعنى داخل سياج الانكسارات والجروح الأنطولوجية..
هذه المقدمة التي انطلقت منها أعتبرها ضرورية للشروع في قراءة هذا العمل الإبداعي الذي يحمل عنوانا مركبا» ترميم عظام الغرقى يليه أول الماء موج». الصادر عن دار «الموجة الثقافية» 2025 بالمغرب..وقد جنست المؤلفة نوال شريف كتابها بعبارة «شعر وكولاج» وهو تجنيس مفهوم في ظل تداخل الأجناس التعبيرية المعاصرة وتماهي الحدود بين القول الشعري والصورة البصرية، بين اللامرئي والمرئي.. لكن تقديم الشعر على الكولاج بهذه الصيغة غير المعرفة ينم عن رؤية واضحة في اعتبار مركزية الشعري واحتضانه لهذا الفن الترميمي بامتياز. كما ينم عن الوعي بتجربة تعيد الاعتبار للكتابة التي تحتضن هذا الجوار بين الحرف واللون لتعطي في النهاية شكلا تجريبيا يؤسس لقراءات مختلفة ولم لا لتأويلات متعددة المستويات.بالفعل فالقراءة مهما بدت موضوعية أو تلقائية فهي غير بريئة بل هي فعل آثم كما يقول الفيلسوف الفرنسي «لويس ألتوسير»، فالقارئ لاينطلق من الفراغ بل من داخل رؤية تؤطرها مفاهيم وتجارب فكرية بل وتيارات..لذلك من الأفضل أن يكون القارئ واعيا بخلفياته على أن تظل هذه الرؤى تعمل بطريقة لاشعورية وقد تشكل في بعض الحيان عائقا في سبيل القراءة والفهم..من هذا المنطلق يمكن قراءة هذا العمل على ضوء فكرة الهشاشة البشرية ..
إن قارئ اللوحات الكولاجية والنصوص الشعرية في هذا الكتاب يدرك عملية الارتقاء من أوضاع الهشاشة الإنسانية نحو الأفق الجمالي بوصفه تجاوزا لهذه الأوضاع، حيث الذات الشاعرة ترافق هشاشتها في اتجاه ترميم ماتبقى من عظام طافية فوق سطح الكينونة .. اختارت الشاعرة والفنانة نوال شريف في هذا العمل الفني/الأدبي تكسير الحدود بين الكلمة واللون من خلال المزاوجة بين الكتابة الشعرية ذات النفس الشذري والصورة الكولاجية ، داخل فضاء سوريالي يهجس بالمراوحة بين الترميم وإعادة تشكيل المعنى، وهو مايسمح بالحديث عن محاولة فنية تجريبية واعدة في أفق إغناء الكتابة الشعرية المعاصرة من جهة وضح دماء جديدة في المشهد التشكيلي المغربي المعاصر. في اللوحة الكولاجية ليس هناك مجال للبحث عن معنى جاهز..الأجساد معطوبة…الوجود غارقة في الانمحاء..تتبادل الألوان أدوارا تراجيدية..الأصفر جسد ميت عند حافة النسيان..الأحمرشفق ينتظرلحظة الاختفاء المؤقت في علبة المساء..الأسود بحر ميت عند ضفاف أم الربيع.. الأبيض نهار صغير يلهو بعظمة كتف…الأزرق دم بشري يجري في عروق الحيرة..الأخضر يبيع نسغ الحياة لعظام تباد في شاشات العصر..تبعثر الأشياء يوحي بالاحتفاء بشعيرة المسافات ومدح كل ماهو مختلف ولامعقول.. عندما يتشقق الجسد مثل رخامة تندثر الرؤوس والوجوه.. تسقط العظام أو تقذف بها الريح ..ترتكن الذات الشاعرة إلى ذكريات العزلة الداكنة، لكن هذا الركون لايعني استسلاما فالصباح قادم رغم كل شيء ليساهم في ترميم الشقوق ويحتفل ببياض الجمر «لست نغمة/في جوف ناي/أنا تفاحة/ في حلق الوجود».(23) وحين يتعرض الحب للتلاشي لايسلم من أسنان الذات الشاعرة المصرة على الصمود «الحب برقوق مجفف/تمضغه أسناني المنخورة»(33)..في عصر الهشاشة الجديد تغرق القصائد وتتحول إلى فقاعات ميتة.. تنتفخ الأجساد الصغيرة ويتعرض الحب بدوره للتلاشي بعدما جفت ثماره وتحول إلى مضغة بين الأسنان المنخورة، لكن من كل هذا الرماد القاتم تنهض الذات الشاعرة لترسم منبرا ورقيا تعتليه لغة المراوغة لتعلن أن البياض أضحى نهارا طويلا يؤسس لفضاء التجاوز والتحدي: «أنا هنا،/أنا هنا أيها القراء/أنا هنا في وحدتي المثيرة/أتلذذ رمادكم/بلساني المقطوع»(34).في الجزء الثاني من الكتاب تزداد وتيرة تصوير الكتابة بوصفها احتضانا للهشاشة من الشتات الخام إلى الوحدة الرمزية التي تمنح للذات فرص الإطلالة على هشاشتها، تقول الشاعرة : «أنا المرأة الغيمة/المرأة الظل/المرأة الكتابة»(39)، تتدرج عملية الترميم من شتات الغيمة وبعدها إلى ضوء الظل وقربه من الجسد الممد الكتابة هنا تمنح الذات القدرة على الإصغاء لذبذبات الكينونة..الإصغاء كذلك ترميم وتحرير من العزلة. تقول الشاعرة: «أحمل جنوني الكبير/على ظهري/كخيبة/واركض «(45).الركض ليس هروبا من الخيبة بل تكريس للحظة الجنون كفعل قادر على نقل الانكسارات إلى فضاءات جديدة، حيث تلتقي الذات الشاعرة التي تتعثر بأحراش اللغة مع الذات القارئة ليس أمام ركام الكلمات بل أمام معجم يختزل تجربة مشتركة لإعادة تشكيل المعنى وبالتالي إعادة إنتاج العالم من جديد تقول الشاعرة: «هذه اليد التي أكتب بها الآن/معجم/ بلاكلمات «(49). بهذا المعنى يتبين بأن شعرية الترميم كما تعكسها مضامين الكتاب تترجم موقفا من العالم يتبنى مقاومة كل العوامل التي تساهم في تفكك الذات والواقع. من خلال شعرية هجينة التكوين، متعددة الأصوات تتغذى على آليات الاستعارة والإزاحة وإنتاج موقف جمالي ينطلق من أن التشظي والنسبية وعدم الاكتمال هي عناوين على هذه الهشاشة بالبشرية..
في الختام أعود إلى الحديث عن هذه التجربة الجديدة لنوال شريف التي تزاوج بين الكتابة الشعرية وفن الكولاج ، هذا الأخير الذي يعد أكثر من مجرد تقنية تعتمد على تجميع المواد والصور المختلفة لخلق جسد واحد أو متعدد، بل هو تعبير بصري عن رؤية معقدة للعالم، تتجاوز حدود الشكل والمادة لتلامس البنية العميقة للواقع الإنساني المعاصر. فن الكولاج ملائم اليوم لهذا العالم الذي تفككت فيها الكثير من اليقينيات والثوابت التي كانت بالأمس غير قابلة للنظر والمراجعة خاصة بعد انكشاف هشاشة السرديات الكبرى، فكان لابد من مسايرة هذا الوضع عبر اجتراح أساليب جديدة تعيد ترتيب شظايا العالم المفكك برؤية متقدمة تقوم ، على التداخل، والتجاور، ولم لا التنافر في بعض الأحيان. الكولاج نداء إلى إعادة التفكير في معنى الانسجام، والهوية، والسرد، والزمن. دعوة للفنان أن يتعامل مع الواقع كمادة خام، يعيد تشكيلها وفق حساسية نقدية أو جمالية، مما يمنح هذا الفن طابعًا تأمليا يتجاوز مظهره البصري. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار الكولاج رؤية للعالم، لأنه يلتقط اللحظة البشرية في تعددها، وفي تصدعاتها، وفي قابليتها للتركيب من جديد. بخصوص الرؤية الشعرية المحتضنة لهذا الفعل الإبداعي ، فهي لاتعني فقط إضافة شذرات لغوية، وإنما هي فعل يحول العابر إلى رمز، والناقص إلى كثافة دلالية. فعندما يضع الفنان صورة ممزقة لوجه شاحب بجانب شذرة شعرية شاردة، أو قطعة قماش مستهلكة بجانب كلمة “ضياع”، فإنّه لا يعرض مشهدا بقدر مايكشف عن مفارقات تحرك بقوة سؤال المعنى فب عالم أصبح يضج بسرديات اللايقين وأشكال الحداثة السائلة..


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 19/07/2025