«كذب أبيض» للمخرجة المغربية أسماء المدير : «أليغورا متطورة» لبناء ذاكرة ضحايا 20 يونيو بالدار البيضاء

«اللي قال لعصيدة باردة يدير يدو فيها»، جملة تنهي بها المخرجة المغربية أسماء المدير فيلمها (كذب أبيض) أو (أم كل الأكاذيب) ، «الاستثنائي» في طرحه السردي، وفي معالجته الفنية لمرحلة من «أفدح» المراحل التي مرت بها ذاكرة الدار البيضاء (أحداث 20 يونيو 1981).
في هذا الفيلم، الذي تُجلسنا فيها المخرجة مع أسرتها حول مُجَسَّم أحد أحياء الحي المحمدي بالدار البيضاء، تتداخل ذاكرة الحي وناسه (أو على وجه الدقة: ذاكرة الرصاص والخوف) مع ذاكرة الأسرة (تحديدا ذاكرة الجدة المغلقة بإحكام)، في لعبة ترميم «أليغورية» (محاكاة تمثيلية) بواسطة الدمى، حيث عمدت المخرجة، انطلاقا من صورة شخصية غامضة (وفوق ذلك مسروقة)، إلى مساءلة ذلك الماضي الذي لم يوفر لها أية صورة أرشيفية تساعدها على إعادة بناء ذاكرتها، مما دفعها، وبإبداعية كبيرة، إلى ابتكار آلية «التمثيل الأليغوري» من خلال بناء مجسم صغير للحي الذي ولدت فيه بالدار البيضاء، حيث راهنت على التقابل بين الأسرة من جهة، وهذا «الواصل البلاغي» من جهة ثانية.
وتلعب المجسمات والدمى دور «العلامات اللغوية» التي تمنح للمخرجة، وللمتلقين أيضا، مفاتيح إدراك السبب العنيف الذي أدى إلى إحراق الذاكرة أو تزييفها أو إتلافها بالصمت. الأمر الذي يجعلنا نقول إن أسماء المدير، التي كانت تدرك صعوبة إعادة تركيب الذاكرة، أدركت أن هذا التركيب ممكن حين فكرت في استعمال «الأليغوريا المتطورة» (الدمى، الموسيقى (ناس الغيوان+ العيطة..)، المسرح، الشهادة المباشرة، الأرشيف الصحفي، الصور النادرة المؤرخة للمرحلة..)، كأساس لبناء هذا الفيلم المركب وشديد التعقيد، خاصة أن ذاكرة الأسرة تشتغل ضد نفسها، وخاصة ذاكرة الجدة التي تعرف كل شاذة وفاذة عن الحي وسكانه، وعما جرى (مجزرة شهداء كوميرة).
يرتكز السيناريو، الذي تقترحه علينا أسماء المدير، على التأرجح بين عالمين، أحدهما ينكر الآخر ويصارعه. فالشخصي المنغلق لا يريد أن يتذكر أي شيء عن السياق السياسي الذي اندلعت فيه أحداث 1981، بل إن الشخصي يطمس العام، كما يطمس العام الشخصي ويواريه، إما خلف جدران السجون، وإما تحت التراب. فالشخصيات كلها تقريبا، باستثناء أسماء المدير، تعيش توترا مبررا حول ذاكرتهم الشخصية والذكريات المؤلمة التي عاشها جيرانهم، وعلى رأسهم «الشهيدة فاطمة» التي سقطت برصاصتين في العنق.
في هذا الفيلم لا تقوم المخرجة وحدها بإعادة الترميم. فرغم العناد الكبير التي تبديه الجدة، حارسة الذاكرة وجلادها(لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم)، يقوم ابنها (والد المخرجة)، ببناء مجسم الحي ويساعد على استحضار سكانه وأبنائه عبر إعمال آلية الحكي الذي ينتقل بسلاسة من الحكي الشخصي (حارس مرمى لا يقهر: لوري الأسد) إلى كشف مخبوء الذاكرة وفضح المآسي التي عاشها الحي أثناء أحداث 20 يونيو بالدار البيضاء، بينما تقوم زوجة ابنها (أم المخرجة) بحياكة الملابس التي ترتديها الدمى الطينية التي يصنعها زوجها، والتي تمثل كل واحدة منها شخصية معروفة من الجيران، ضحايا الرصاص، بل تمثل أفراد الأسرة، بمن فيهم المخرجة نفسها. لا أحد يقع خارج التركيب، ولا أحد بمأمن من المساءلة والاستقصاء وإعادة البناء، ما دامت إرادة الجدة شاءت أن يخلو البيت من الصور، إلا من صورة واحدة، هي صورة الملك الحسن الثاني. الصورة الوحيدة غير المحظورة.
لماذا لا توجد الصور في البيت؟ لماذا لا توجد ذاكرة مصورة؟ ما هو السبب الغامض الذي يقف وراء ذلك؟ ما سر كل تلك الأكاذيب الصغيرة التي أخبرتها بها عائلتها؟ هذا ما تحاول الحكاية التمثيلية الجواب عنه. وهذا هو المخرج الجمالي لكشف كل الأسرار.
تحتل الجدة «القاسية» المركز الأول في حكاية هذا الفيلم. إنها العامل المعاكس الذي يمثل الاستعصاء. بيد أن الدمى تضطلع بالدور المركزي لترويض هذا الاستعصاء ووضعه أمام الحقائق المحجوبة. وهنا نصبح أمام جدلية الخفاء والتجلي، حيث يكشف أفراد العائلة، كل من زاويته، شيئًا فشيئًا عن الأسرار «المعتقلة» في ماضيهم، بمن فيهم الجدة التي رأينا أنها تفضح كذبة الأم (الصورة المزورة والمسروقة)، وكذلك تفعل الشخصيات الأخرى التي تكشف عن نفسها ببطء، من خلال كلماتهم النادرة أحيانًا، وأنشطتهم اليدوية، وغضبهم، وإيماءاتهم، وأحيانا استعادتهم للاحتجاج الصريح على أبنائهم المختطفين ومجهولي المصير.
لقد استطاعت أسماء المدير (المخرجة وليس الصحافية) أن تصنع فيلماً سينمائياً حقيقيا بدل السقوط في الروبورتاج الصحافي. وهذا هو التحدي الأكبر الذي ربحته المخرجة بتفوق وإبداعية، من خلال تجاوز الحياة اليومية المتواضعة لأسرتها لإنشاء عمل فني يستحق التنويه. عمل جعلنا بأسلوبه السردي وبلاغته الأليغورية في قلب مغرب الثمانينيات دون السقوط في الوثائقية المباشرة. مغرب الاعتقالات والتصفيات الجسدية والاختطافات وعنف السلطة. إنه فيلم يتحرك داخل التوثيق وضده في الوقت نفسه، بل إنه شهادة حب حقيقية، أولا من الجدة التي أرادت أن تحمي أسرتها بالحجب والطمس والصمت («كذب أبيض» ينكر ما جرى لحماية الأقارب من الخطر، أي مما جرى لفاطمة، وما جرى لعبد اللطيف، وما جرى لـ36 جثة ماتت اختناقا في الاحتجاز). وثانيا من الأم التي سرقت صورة لتمنح ابنتها أسماء ذاكرة لا تملكها، وبدل ذلك منحتها حافزا لإعادة تشكيل كل شيء مع الاهتمام اللامتناهي بالتفاصيل بدقة جراحية (مجسم هندسي من الورق المقوى، ودمى طينية، وتحريك مستمر للقطع بما يخدم استرجاع الذكريات وترميم الأحداث لمعرفة الأشياء التي وقعت حقيقة وجرى طمسها)، إضافة إلى الحس التعاوني الكبير الذي تبديه الشخصيات الواقعية من أجل إحياء الذاكرة الميتة وتنشيطها، من خلال جمع الأدلة وتبديد الجزء الملغز في الحكاية، حتى أمام اعتراض الجدة وإمعانها في الإنكار، إلى آخر لحظة من لحظات الفيلم، حين تقبل صورة الحسن الثاني وتخفيها في صدرها، ولهذا «الإمعان» في تقديس صورة الملك الراحل دلالة سيكولوجية كبيرة أو ما يمكن أن نطلق عليه متلازمة ستوكهولم.
إن فيلم «كذب أبيض» تخييل ذاتي فريد يستثمر ذلك الشعور الجماعي الذي عبرت عنه «جلسات الاستماع والمصالحة». كما يشكل تحديا سرديا يستثمر العرض الأليغوري من أجل الوصول إلى الحقيقة، وليس العكس. إنه ليس فيلما «وثائقيا»، ولا يقدم إلينا أي ميثاق سردي حول هذا الموضوع. والأجمل من ذلك، أنه يستعرض حكاية صورة ليكشف المسكوت عنه في الذاكرة الوطنية، أي حكاية الذين سقطوا من أجل الخبز ليدفنوا في ملعب لكرة القدم.
لا ينبغي أن نقفز على مجموعة من الخصائص الفنية والجمالية التي استعملتها أسماء المدير في هذا الفيلم. فإلى جانب حركة الكاميرا والمونتاج، هناك جرعة من التهكم كقاعدة نقدية للواقع السياسي وأثر انغلاقه وعنفه على الأفراد، فضلا عن الاعتماد بشكل يكاد يكون كليا على التعليق الصوتي، إلى جانب تحريك الكاميرا وتوظيف الضوء في المساحات الضيقة بغاية الكشف عن ما تحاول الذاكرة الجماعية إخفاءه، واللجوء أحيانا إلى المسرحة لإظهار ما جرى رميه خارج الحكي (خارج التاريخ)، وهي الحيل الفنية التي ساعدت على نمو الحكي بالشكل الذي فكرت فيه المخرجة، أي ذلك الشكل الذي يتيح للضحية أن تتحدث وأن تقدم شهادتها بكل حرية، بعيدا عن المخاوف التي اعترت الجدة وقادتها إلى الإشراف على طمس ذاكرة الاضطهاد السياسي في المغرب.
لقد اعتبرت أسماء المدير، التي عرض فيلمها «كذب أبيض» في مهرجان «كان» بفرنسا، وفاز بجائزة أحسن إخراج في قسم «نظرة ما»، كما عرض بالولايات المتحدة، أن عرض هذا الفيلم في المهرجان الدولي للفيلم بمراكش له طعم خاص ومختلف، وانتظرته بفارغ الصبر، لأنه فيلم مغربي موجه لذاكرة المغاربة..


الكاتب : مراكش:سعيد منتسب

  

بتاريخ : 30/11/2023