1
بعفوية يكتب الشعر، عفوية تمتد من الجذور العميقة للحياة وتنتهي إليها..
الحياة سابقة عن الشعر، والإنسان هو الفاعل الحقيقي في عملية الكتابة عبر الأداة الأسمى للتعبير الجمالي، التي اختار أن يسميها اللغة.. واللغة في حد ذاتها وسيط آخر، قد يقف أحيانا عاجزا عن الذهاب بالمعنى الى أقاصيه…هنا يتدخل الخيال بكل ما يفجره من إمكانيات واسعة، لا محدودة، تفتح الآفاق الرحبة أمام العقل كي يتجاوز نفسه سادرا في أقانيم المجاز والإستعارة نحو ملكوت التأويل اللامتناهي..
الشعر يعاش قبل أن يكتب، هو حالة عرفان وجودية تنتاب الشاعر حين تلتهب في مكامن نفسه وأعماق وعيه، بؤر توتر قديمة، تسكن منه الوعي واللاوعي، يندغم فيها المعنى بالمبنى، وبإشكالات الواقع ومفاوزه، ليتحول كل ذلك إلى هيولى تشكل التصور الماقبلي لصور ذهنية أو واقعية، قد تتجاوز الإمكانيات المحدودة للغة الإنسان في حياته اليومية، إلى آماد الحلم وأغوار كهوف الذاكرة، حيث يبدو المعنى صافيا مجردا عن كل الشوائب المادية..المعنى في طفولته ولمعانه المبهر حد الإعماء الذي قد نسميه قصورا وتجاوزا: الشعر..
الشعر تمرد عفوي على قيم الرضوخ لقوة المعنى الواقعي، ذاك المجال الصارم حيث يقف النثر صاغرا أمام جمالية التأويل الهيرمونيطيقي للعالم حتى في أسوأ حالاته، بينما يتقدم الشعر سادرا في حركيته الدائبة نحو الاختراق السافر لكل ما هو عادي، عبر التدمير، التجاوز، ثم إعادة الخلق أو الإبتكار..
الشعر كما لغته، سواء في قصيدة أو في مقطع نثري، يميل عبر إنزياحاته الشكلية والنفسية، إلى بتر شوائب القبح من أطراف العالم وتحويل النواقص إلى اكتمال والقبح إلى جمال، والجمال هنا نسبي، يقاس بالإحساس وليس بالقيم الإجتماعية والعقائدية، والقبح كذلك…
من هنا القول إن الحياة سابقة عن الشعر، الشعر ابن الحياة يرضع من ثديها، ينام في حضنها، يتمرغ وينمو في تربتها، يرتوي من مائها، يتنفس هواءها…يقتات على خيراتها…بالمقابل يرعاها يشذب شوائبها، يهذب توحشها…ويجعلها محتملة، قابلة لأن تعاش…
الشعر يعاش، والحياة أجمل قصيدة وهبها الله للعالم…فطوبى لمن يكتب وطوبى لمن يقرأ…
وطوبى لمن وسعت روحه منتهى مدارج التأويل..
2
هل التصوف لغة شعرية، أم أن الشعر هو لغة المتصوفة؟!
نقرأ كثيرا عن هذا الموضوع، حتى أننا أصبحنا نضيع داخل متاهات القول النقدي الذي يحاول أن يقارب التصوف كلغة للشعر، أو بعد رمزي يعتمد لغة الإشارة للتعبير عن حالات من الإشراق الوجودي التي تعجز اللغة العادية عن الإمساك بها للعبور نحو مسالك المعنى والإيضاح المبين..
هل يمكن فصل القول الشعري الصوفي عن حالة التصوف، التي تكون في الغالب، أقوى وأعمق من كل تعبير لا ينبع من التجربة، تجربة التوحد والرقي الروحي التي يكابدها المتصوفة عبر مجاهدة النفس للصعود إلى معارج الوجود السامية، المحكومة بطقوس لا يتقنها سوى من تمرس وراء ستائر العرفان الشفافة، المشرقة بأنوار المعرفة الجوانية..
وهل يمكن أن ننزع اللغة الصوفية من جذورها الفلسفية والعقائدية، من أجل الركون إلى توظيفها داخل بنيات الشعر الحديث، دون أن يتسرب إلى هذه اللغة نوع من الجفاف والتجرد الحسي الناتج عن جذعها من تربتها التاريخية التي نبتت فيها، معتمدة في حياتها وألقها على ماء التجربة النابع من عيون الحياة الخاصة بكل من سلك دروب التصوف واتبع مسالك متاهاته، التي قد يضيع فيها من لم يتسلح بصبر التأمل والزهد في دنيا الماديات، والكينونات العابرة..؟!
ليس سهلا أو هينا، أن تكتب بلغة المتصوفة، دون أن تكون روحك مغسولة في بحيرة الوجود الصافي، ودون أن تكون السماء برحابتها وشساعتها عاكسة لتقاسيم وجهك المتعب من شدة الترحال والسفر بين أقانيم مدن النفس الغويرة…
التصوف حالة (من هنا أصحاب الحال)، وكرامة تحيد بالواقع نحو عوالم متخيلة، لا يمكن أن تحسن التعبير عنها لغة عادية.. بل تصل إلى مكامنه الداخلية فقط، تلك اللغة التي تضيء رؤيا صاحبها حد الغموض، ويصبح فيها السواد غالبا كناية عن البياض، وتصبح (أنا) ممتزجة وذائبة في/ (هو) حد الحلول…
الشعر الصوفي، أو التصوف الشعري، عالم قائم بذاته، يؤخذ كله، أو يترك كله، ولغته يفسر جزؤها كلها، ولا يمكن انتزاعها من تربة تاريخها، دون أن تصاب بكدمات وجروح، وتشوهات قد تقعدها عن السير حثيثا نحو مسارب المعنى الكلي للوجود الشعري البليغ…
الشعر الصوفي صورة للغته، ولغته امتداد لحالات التوحد التصاعدي للمتصوف، الذي يتخذ سلالم المعاناة والمجاهدة، كسبيل للرقي نحو مدارج الإدراك الكلي لماهية العالم وامتداداته في صفات كونية للذات الإلهية…
فالمتصوف يتماهى مع لغته، ويعبر بها نحو معرفة ذاته، لذا تأتي هذه اللغة أحيانا شبيهة برؤية أو حلم، لا يمكن سبر أغوارها وتفكيك شفراتها، سوى بأدوات التأويل المفسرة لتعدد الكائنات وغموض الموجود داخل وجوده….
كي تكتب شعرا وتلبسه لغة المتصوفة، لا يعني ذلك أنك ستنتج شعرا صوفيا بالقوة، لأن الشعر الصوفي شعر عارٍ، لغته شفافة، تفضح مكامنه، ومستغنية عن أي لباس معجمي يُسقط عنها من الخارج؛ هي لغة تخلق معجمها، ورموزها، ترسل رسائلها مباشرة من القلب إلى القلب، بعد أن يكون العقل متعبا في غيابات التأمل والحلول داخل الفضاءات العابرة للحقول الدلالية الإصطلاحية، العادية والمتعارف عليها…
شعر التصوف والزهد، والتصوف الشعري زهد في اللغة، حيث تصبح الإشارة الغامضة مفتاحا لفك رموز الحياة والوجود، والإيغال نحو مداخل النفس البشرية، دون أن يسقط المتصوف الشاعر في برج الانفصال عن كينونته كإنسان يعبر عن إنسانيته، بأسلوب فيه جمالية غامضة لا يتذوقها سوى من احترقت مآقيهم بنور شمس العرفان السابحة في ملكوت الله، وكواكبه، وخلائقه… وسماواته السبع الطباق…
3
هل هنالك لغة شعرية ولغة غير شعرية؟ لا أعتقد.. هنالك لغة واحدة محصورة في قاموس أو معجم، تستحكم فيها قواعد ونحو وصرف وتركيب…لكنها في الأول والأخير لغة تتشكل من كلمات تتشابك بينها لتكون جملا وفقرات وعبارات قد تصبح تعبيرا عن كلام عادي، أو مقطعا من قصة، أو رواية،أ و شطرا في قصيدة…لكنها تبقى في الأول والأخير مجرد لغة ..
إذن من أين تأتي الشاعرية لتصبح مرادفا مميزا للغة، وتحقق لها ذاك الفارق العيني الذي يفصلها عن اللغة العادية التقريرية، أو اللغة التي تنتهي وظيفتها حين تتحقق كأسلوب للتواصل الغائي؟!
اللغة تصبح شعرية حين تستعمل من طرف ذات شاعرة تملك قدرة ساحرة على تسخير الكلمات العادية ومزجها بطريقة تحول العادي فيها إلى تعابير مدهشة تخترق حجب التواصل العادي إلى عوالم المجاز والتخييل، حيث تتحول اللغة إلى وسيلة تخدم المعنى وتفتح مجالاته ودلالاته على آفاق احتمالات التأويل الرحبة..
ليس هنالك لغة شعرية، هنالك فقط نفس شعرية تنفخ من روحها في جثمان اللغة البارد لتتحول إلى حقول شائكة وغنية من الدلالات المؤسسة لنظرة جمالية مغايرة ومختلفة إلى العالم…
اللغة هي اللغة، عالم مفتوح من الكلمات والأفعال والأسماء، قد يحكمها قانون الإعتباط الطفولي، أو منطق العقل البالغ…أو يبعثرها جنون الشاعر، حيث تصبح اللغة غير خاضعة لأي منطق غير منطق الجمال والرؤية المزلزلة للسكون والتوارد البارد الجامد المحدد للزمان والمكان…
اللغة لا تخضع لأحكام قيمة تصنفها إلى شعرية أو غير شعرية؛ الشعر حالة وجدانية تتحقق خارج اللغة .. والموسيقى، والتشكيل حالات جمالية تعبر على ذلك بشاعرية قد تعجز اللغة عن ترجمتها إلى حالات جامدة في الزمن المادي.
الإنسان وحده من يستطيع أن يحول اللغة إلى شعر، أو أن ينسجها في مجرد مرادفات وكلمات تروم تحقيق غايات نفعية، تموت فيها اللغة بمجرد أن تنتهي وظيفتها التواصلية…
الشعر نتاج إنساني، سابق عن اللغة، فعل أرخ له الإنسان القديم ببصمات أكفه على جدران الكهوف والمغارات، نَقَشه على الصخر والأحجار والخشبة، وترجم عبره مشاعره وإحساسه بالعالم، في أناشيد وأغان وكتب سماوية تحاول أن تفهم العالم، تفسره ومن ثم الإمساك بكلياته المتجزئة.
اللغة لا تخلق الشعر، الإنسان الشاعر هو من يخلق من اللغة قصيدة، حين يمتلكها ويعيد خلقها حسب مخياله ورؤيته للعالم.
ليس هنالك شيء إسمه اللغة الشعرية، هنالك فقط لغة إصطلاحية، إجرائية، لفظية، مستباحة من طرف الجميع، لكن الشعراء وحدهم من يتقن اللعب بمصائرها وإغراقها في متاهات التخييل والتجريد، التي تعيد خلقها من جديد في رؤية مخالفة لواقعها داخل غرفة عمليات الإستهلاك اليومي، كي تتجاوز دورها الوظيفي البراغماتي في التواصل النفعي، إلى دور أسمى يحولها من مجرد كلام مرصوص ينتهي عند حده، إلى كلام إيحائي لا يدرك وجهه سوى الراسخون في عوالم التأويل والتجلي ..
اللغة تصبح شعرا حين يمتلكها الشاعر، حتى ولو كانت مجرد كلمات بسيطة قد يستهين بها البعض، لكن حين تصاغ في بنية إبداعية مغايرة تسكنها الدهشة، تصبح قطعة نادرة من فن يعجز الكائن العادي أن يأتي بمثلها حتى لو امتلك كل زمام النحو والصرف والبلاغة…..
4
هل يمكن أن يرفعك شعرك إلى/نحو السمو؟…
طبعا لا، فسمو الإنسان من سمو إنسانيته، والشعر صفة للنفس البشرية، التي حين تصل إلى درجة من الرقي الروحي تلتصق بالشعر وتلبسه، لتضفي عليه هالة من الصفاء الروحي تجعله شعرا مرفوعا إلى مدارج السمو الأدبي والأبدي..
النفوس الكبيرة وحدها من تنتج شعرا عظيما (ولنا أسوة في المتنبي، وايتمان و رامبو).. أما النفوس الصغيرة الغارقة حتى النخاع في مستنقعات الأنا، فلا يمكن لها أن تنتج سوى أمزجة لغوية فارغة من الروح مهما تطاولت في غيها الإستعاري، ومهما أحيطت بأقنعة المجاز، الذي حين يصبح غاية في حد ذاته، يشوبه العفن وتسري فيه دماء التفسخ، وتذروه ريح الهشاشة….
الشعر الخالد نتاج لنفوس مغسولة في شفافية الحياة، نفوس متوحدة جاحدة للجماعات وعقليات القطيع، لا يهمها من الشعر سوى ذلك الإكتفاء الذاتي العارم، والإمتلاء الروحي، الذي يجعل الشاعر زاهدا حتى في لغته….
الشاعر الصرف، الذي يشرب مباشرة من فم الجحيم، ويرضع حتى الثمالة من ثدي النعيم، هو من يكتب من عمق المأساة عن لحظة فرح، ويحول الجنون إلى عقلانية سافرة لإدراك الحقيقة، ثم يحول الحقيقة إلى متاهة مضيئة تدهشك بنورها حد الإعماء، وتثير حواسك حد الإغماء، ببساطة عارية عارمة في التقاط تفاصيل الحياة الصغيرة، ولمها في عقد يجعل من المعنى أقمارا تتلألأ أمام عينيك فوق عنق القصيدة….
الشعر لا يسمو بصاحبه، سوى حين يكون امتدادا لروحه، حروفا في لغته، ألفاظا في كلامه، نبرة في صوته، إحساسا في قلبه، صورة في نظره، وفكرة تسكن منه العقل والبصيرة…
الشعر هو الإنسان، وكلما كنت ساميا في إنسانيتك، كنت ساميا في شعرك.. أما غير ذلك فيذهب جفاء مهما دقت الطبول، زمرت المزامير، بحت الحناجر.. وتعددت أوضاع الراقصين والراقصات في حلبات مواخير الكلام..
5
من المميزات الأنطولوجية للشعر، أنه وجود شفاف حتى حين يستغور المعنى عبر لغة تميل إلى الإحتجاب..
الشفافية لا تعني التصور الساذج للحياة واللغة، بل تعني شفافية الرؤيا والنظرة إلى الوجود …
تلك الشفافية هي التي تغيب عن الكثير من الأشعار المغربية، التي تغرقنا في ظلامية القاموس اللغوي على حساب شفافية المعنى ووضوح الرؤيا، وأعتقد أن المتصوفة هم من الأوائل الذين أدركوا عبر التأمل ومجاهدات النفس، أن الحقيقة، حتى ولو كانت مستعصية أحيانا، يمكن إدراكها عبر شفافية لغة الشعر… وكلما كنت بسيطا في سموك نحو الله ،زدت قربا منه…وكلما كنت شفافا في لغتك، إنكشفت أمام مداركك ألغاز طلاسيم الوجود وأسرار الكائنات..
والشفافية في اللغة لا تعني الإسفاف في التعبير، أو الركاكة في التركيب…الشفافية درجة من الوضوح في الرؤيا، ترقى بالتعبير الشاعري إلى درجة الإشراق والتجلي في ملكوت المعنى…حيث يصبح العالم امتدادا للقصيدة وتصبح القصيدة حلولا في العالم وليس تفسيرا له.. فكل ما يفسر لا يعول عليه…
شفافية اللغة مرآة القارئ، فيها يرى وجه/روح الشاعر، خاليا من كل أقنعة الإستعارة، والغموض ..نقيا من إدعاء ما لا يملك …يقرأ عبرها الشعر في وضوح رؤيوي، لترتفع لديه ذائقة الجمال درجات…دون استخفاف بباقي الملكات، والعقل أولها…