لم نكن نحلم بأفضل من هذا للحديث عن السينما بشكل مختلف بمناسبة مهرجان كان وهذه المجموعة من خمس مقابلات ما بين المخرج كوستا غافراس وجيروم كليمون المدير السابق للمركز الوطني للسينماتوغرافيا (1984-1989) وبعدها قناة أرتي (منذ إنشائها إلى غاية 2011)، إذ أن الرجلين إذا كانا يستطيعان الظهور كقدماء الثقافة ومؤسساتها شوهدوا وسمعوا آلاف المرات، فالحوار القائم هنا بينهما يتضح بأنه عذب، مجرد من الاتفاقات ونظمنة الجندر الراديوفوني التي تشكلها مقابلة مع سينمائي وفنان على نطاق واسع.
الآخر الحرية
«لقد فضل الحديث عن موضوعات الساعة بدلا من الكشف عن مسيرته المهنية» ولذا فإنه من غير الوارد أن نسلم أنفسنا إلى السهولة عند هذا المرور الآخر في استعراض للسيرة الذاتية وللفيلموغرافيا لسينمائي يبلغ من العمر 81 عاما والمصنف على أنه واحد من كبار سينمائيي هذه الحقبة، المعروف بشكل واسع من طرف الجمهور والكثير الظهور بانتظام عبر وسائل الإعلام.
بلى فالأمر يتعلق هنا باستعمال التفكير الإزدواجي حول مسائل الآخر والهجرة والتوليتارية والحرية وحول الرأسمالية، أمريكا وأوروبا وحول مبدأ الاستثناء الثقافي وعلاقة الناس بالحكم أو أيضا حول أهمية التطوير والتعبير بحس نقدي.
«إنني أعتقد كما رولان بارت بأن كل الأفلام سياسية، فالسياسة موجودة على نطاق واسع، وفي كل الأفلام ونستطيع تحليل كل الأفلام سياسيا» كما يؤكد كوستا غافراس في الجزء الأخير من هذه السلسلة.
فالمخرج الفرنسي-الإغريقي والرئيس الحالي للسينماتيك الفرنسي يثير القيم التي توجه تفكيره وبكل اقتدار يتحدث أيضا عن صداقته للسينمائي الكبير كريس ماركر (1921-2012) والذي يرى فيه «شخصا مثاليا» بحس الوفاء الذي يتمتع به، استقامته والغياب التام للاهتمام بالتكريمات ومراتب الشرف والمال والسلطة.
في هذا الحديث ما بين جيروم كليمون وكوستا غافراس (زاد ،1969، الاعتراف،1970، المدينة المجنونة،1997، الخ.) نحتفظ كذلك بتبادل مضيء حول انتشار دور المثقفين والمبدعين في السياسة وفي النقاش العام.
المعمعة السياسية
«المثقفون ليس لديهم قوة التدخل كما في السابق إذ أن المواقف المتخذة هي أيضا اليوم أكثر تعقيدا» يلخص المخرج في استجواب دائم للطبيعة التي هي في نفس الوقت بعيدة المنال وواسعة الانتشار للرأسمالية وتداعياتها.
فإذا كانت السينما عبر مهرجان كان وباهتزازاتها المتطايرة حاضرة في كل مكان في الراديو ومختلف وسائل الإعلام الأخرى، فإنه ربما كذلك ومن خلال سلسلة المقابلات هذه تكتسي قوتها السياسية الحقيقية وطابعها الأكثر تشويقا وإثارة¹.
كوستا غافراس أو الأمل
في اليوم الذي رأى فيه فيلم (زاد z) 1969 النور وهو الفيلم الثالث لكوستا غافراس، حينها اقتحمت السياسة السينما، فلا سياسة السياسيين المحترفين تصادرها ولا حسابات الأتباع تفقرها: ولكن السياسة كملكية مشتركة: مخيال ديمقراطي والذي يربي ويرفع سخطا أخلاقيا يحشد الإرادات الحسنة، مشاعر إنسانية عميقة تجمع وتعبئ، باختصار السياسة كمكان للمشاركة وملتقى للتبادل.
بهذا الانبثاق الفرنسي، هذا الحدث الذي لم يكن على الأقل عالميا، وحتى قبل النجاح الكوني الذي قابل هذه الواقعة الحقيقية لاغتيال سياسي المستلهمة من رواية فاسيليس فاسيلكوس، هذه القصة الآتية من اليونان كما المخرج الذي احتفل حينها عند خروج الفيلم بعيد ميلاده الثلاثين، والذي استقر بفرنسا وعمره ثمانية عشر عاما وتحديدا من 05 أكتوبر 1951، كوستا غافراس الذي كان قد كتب سيناريو الفيلم رفقة لاجئ آخر من اسبانيا جورج سامبران بينما الإنتاج كان فرنكو-جزائريا لم يتلق الدعم الكافي من فرنسا بينما وجده بفضل حماس الجزائر الحديثة العهد بالاستقلال بطلب من الممثل جاك بيرين الذي اكتشف بالمناسبة مهنته الأخرى أي الإنتاج.
بكل تأكيد قبل فيلم زاد ثمة سياسة في السينما: دوافع سياسية أساسية أو قراءات سياسية ممكنة، ناهيك عن الأفلام الرائدة حيث الجرأة ترافق حدثا سياسيا: قيام الثورة الروسية مع بوتمكين لسرغاي انشتاين أو التعبئة ضد النازية مع الدكتاتور لشارلي شابلن، ولكن مع ضربة المعلم لكوستا غارفاس تشكلت قطيعة بدون رجعة: فجأة السياسة في الحاضر تظهر في الشاشة الكبيرة كموضوع قائم بذاته بكل معنى الكلمة، وسؤال مطروح على الجميع: بدون تأخير أو تأجيل أو لفترة طويلة بعد. وذلك أيضا في اتجاه بعض المبتدئين، سبق إخطارهم وإقناعهم، وكذلك باتجاه الجمهور الأوسع، بواسطة وسائل سينما مطالبة بكل وضوح بمسعى العدد الأكبر من الناس، وخصوصا ليس في شكل الدعاية الاقناعية التي تسعى لإخضاع المشاهد لعقيدتها وحرمانه من حرية النقد.
غير أنه وقتئذ ما كان بتاتا حقيقة واضحة ليس فقط في البلدان الخاضعة لأنظمة توليتارية، كما كانت حالة أوروبا بعد- لا في الجزء الشرقي فقط- لاسيما في اليونان (منذ العام 1967 إحلال دكتاتورية العقداء التي استمرت إلى غاية 1974) وفي اسبانيا (انتظار 1977 ونهاية حكم فرانكو وتنظيم أول انتخابات حرة)، بلدا مولد كل من كوستا –غافراس وسامبرون، ولكن كذلك في ديمقراطية منخفضة الكثافة كما هو حال فرنسا، أين على سبيل المثال فيلم معركة الجزائر للإيطالي جيلو بونتكورفو والذي أخرج في 1966 والذي ساهم في التقويض الابتكاري كما فيلم زاد لم يتحرر من الرقابة إلا في العام 2004 بعد أربعين عاما من خروجه.
وبطبيعة الحال ليس أبدا من المصادفة إن عمل فيما بعد سيناريست هذا الفيلم فرانكو ساليناس مع كوستا –غافراس في فيلمي حالة حصار(1972) وحنا ك.(1983).
هو هذا الحدث الذي مكن من اكتشاف هذا الصندوق والذي يجمع لأول مرة تسعة أفلام لكوستا-غافراس وهو ما يمثل نصف فيلموغرافيا هذا السينمائي المتكونة من 18 فيلما إلى غاية 2016، جيل بكامله، والذي أنتمي إليه، والذي يحمل شواغل العالم والآخرين في الأعوام 1960 و1970 والذي استعار الدرب المفتوح من طرف كوستا – غافراس: فعل السياسة في الذهاب إلى السينما، والاستمتاع عند الخروج متأثرا جدا ومنتعشا، ومصدوما ومعنيا، منبها ومعبأ، كما لو أن خبرة العرض تتحول إلى وعي بالحقيقة.
«كل الأفلام سياسية» كما يحب أن يقول اليوم كوستا – غافراس هي طريقة عنده بألا يتهرب مع ترك مسافة: لتحمل الشعار «السينما سياسية» والذي يوجد ميل لإلصاقه به، ولتعريض عمله لخطر الوقوع في براثن التفقير عند خروجه من استديو الإنتاج، حيث يراد له أن يبقى مغلقا عليه. إذ أن توسيع نطاق التعريف إلى السينما كلها، هي بكل وضوح تحطيم أية محاولة للترتيب «أعتقد كما رولان بارت بأن كل الأفلام سياسية كما شرح ذلك في 2014 عند حديث له مع جيروم كليمون مدير المركز الوطني للسينماتوغرافيا (1984-1989) ثم أرتي (منذ إنشائها إلى غاية 2011) فالسياسة موجودة على نطاق واسع وفي كل الأفلام ونستطيع تحليل كل الأفلام سياسيا.»
عزو وإسناد هذه الملاحظة التعريفية لرولان بارت -والتي لم أنجح في العثور على مرجعها – لا تفتقر إلى السخرية طالما أن مؤلف ميثولوجيات يطالب ببعض «المقاومة» في السينما، ما بين الولع والاشمئزاز. إلا أنها ليست على الأقل مناسبة إذ أنه في إطار التناقضات والتجاذبات على ما يبدو النخبوية لرولان بارت، يعشعش أيضا الفهم حسب مفردات فيليب واطس بأن «السينما هي في تفس الوقت سلاح في الصراع الإيديولوجي ونموذج لما يسمح بإلغاء التعارض ما بين الفن والثقافة الجماهيرية»
فالسينما بالنسبة لبارت تضيف هذا الجامعي الأمريكي في سينما رولان بارت (من الأثر الناشر 2015)، “هي بعمق مرتبطة بالمشترك وبالتعددية لأنها أكثر من أي فن آخر تطرح مسألة العدالة، إنها “رمز الديمقراطية” ولهذا السبب فإنها تثير مشكلة للمفكرين والأساتذة والمختصين الذين اعتادوا على شغل موقع خبراء”. شأنها في ذلك شأن السينما الشعبية لكوستا غافراس تطرح إشكالا للطلائعية المنصبة من تلقاء نفسها والمتمترسة وراء سينما بشكل صريح مناضلة موجهة للمبتدئين، أتباع القضايا العادلة ومعتنقي المسار الصحيح، ديمقراطية بصورة جذرية، بوفاء هادئ لهذه المطالبة المثابرة والعنيدة والأكثر ثباتا واستمرارا على الرغم من التطرفات السريعة الزوال، وقد كانت لفترة من الزمن ضحية لمزاح وعزل المذهبيين والإيديولوجيين، وهذا لمجرد نجاحها والذي حدث مبكرا وسريعا والذي استمرت في البحث عنه والعثور عليه، إنها هذه الرحلة الشريطية والفريدة، على الأقل في السينما الفرنسية، والتي تتيح رؤية هذا التبويب الممنوع لفترة طويلة بسبب الحقوق والتعريفات الحكومية وخصوصا على الأفلام الأولى لكوستا غافراس.
من مقصورة القتلة (1965)، اقتحام محكم من طرف (مجرم) وإخراج متحكم فيه من طرف سينمائي يصور على الطريقة «الأمريكية» والتي تجعل الأداء(الأكشن) التوصيل المؤدي إلى السرد، إلى فيلم حنا.ك. وهو من الأفلام الغربية النادرة التي تذهب إلى قلب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، باقتدار، دون كاريكاتير ولا تبسيط، هذا الصندوق يجمع أعمال كوستا غافراس مثلما أحدث موعدا في تاريخ السينما، فهو يسمح بإعادة الالتقاء بالشباب المبدع والحيوية المبتكرة لما يبدو لنا اليوم عاديا: تناول السياسة من خلال السينما، ليس لمجرد التسلية والاستمتاع ولكن من أجل المشاركة، عدم البقاء كمتفرج في قصة غريبة ولكن التحول إلى فاعل في صناعة مستقبله بنفسه، البحث في الظلمة عن قاعات عرض أنوار مخيال مشترك.
ورغم إشارته حسب ما يبدو إلى عالم اختفى-الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له مع فيلم الاعتراف (1970)، والديكتاتوريات اللاتينو-أمريكية مع حالة حصار (1973) واختفاء (1982) أو نظام فيشي مع وحدة خاصة (1975) -، منذ اللحظة الأولى كوستا غافراس بجرأته الرائدة وحدسه المؤسس يقود مباشرة إلى مرحلتنا الانتقالية هذه، أين الأمل الديمقراطي يبحث عن إعادة التشكل في أشكال سياسية جديدة، بحكم الواقع فإن الأجيال الجديدة المناضلة، وبنفس النضارة التي هي في نفس الوقت سعيدة وخطيرة كما حدث معنا في زمن زاد، فإنها لا تتردد في العثور على الإجابات التي تنقصها بالذهاب إلى السينما أو بمشاهدة السلاسل التي يتم تطويل أمدها على الشاشة الصغيرة.
ومن ثم فهذه الأفلام التسعة لهذا الصندوق، هل من الممكن جدا مرافقتها لدروس «السينما والسياسة» المقدمة في جامعة كومبليتونس بمدريد من طرف بابلو اغليزياس، أستاذ العلوم السياسية زعيم البوديموس حزب سياسي فتي نشأ عن حركة «الساخطين» الإسبان والذي حضارتنا، كما أنه أجهد نفسه لاستجواب «أعوامنا الشتوية» – هذا الحظر الأوليغارشي المناهض لكل البدائل الديمقراطية والاجتماعية-انطلاقا من سلسلة متلفزة في الدروس السياسية للعبة العروش( بوست- مطبوعات 2015) «السينما كما كتب في وجه ما كيافيل في الشاشة الكبيرة صنع بالفعل من السينما أداة للمعرفة والتفكير ، والسعي من أجل تحقيق إجابات مبتكرة لأزمات مقابل الطريق،2016) المستمد من درسه الجامعي، ليس فقط ميدانا للإنتاج السياسي المباشر ولكن باستخدامها علاوة على ذلك في التفكير والنظر بطريقة نظرية في الشيء السياسي.»
رؤية وإعادة رؤية الأفلام الأولى لكوستا غارفاس هو كذلك أيضا استجواب لراهننا، مثلما ندعو ماضيا مليئا إلى جانب الحاضر في لحظة مخاطر، على خلفية السخط الصريح الذي تستلهمه الإنسانية التي تسكنها، والحرية التي تطالب بها، سينما كوستا غافراس تسائل وهننا وتغير تخلينا وتنازلنا.
إن كنا منومين فسينما كوستا غافراس توقظنا، وإن كنا فقدناه فبأفلامه نستعيد الأمل.
من هو كوستا غافراس
ولد كوستا غافراس بأثينا في 13 فبراير 1933 من عائلة ذات أصل روسي، مؤلف وجيه وملتزم سياسيا، هو ابن موظف متهم بأنه صاحب أفكار شيوعية، لهذا السبب قرر الذهاب إلى باريس وهو في سن الثمانية عشر أين سجل في المعهد العالي للدراسات السينماتوغرافية (IDHEC)،بعد مروره بكلية الآداب، وبعد أن عمل ناقدا في السينما ومساعدا لرونيه كليمونت وجاك ديمي بدأ العمل خلف الكاميرا في 1965 مع مقصورة القتلة المنتج من طرف جوليان ديرود والمستفيد من المساهمة المالية لكل الممثلين، الفيلم حقق نجاحا باهرا والنقد حيا التحكم في الإخراج وإدارة الممثل.
وبعد الإخفاق النسبي لفيلم رجل مفرط، دراما تقع في وسط للمقاومة، يعود وينتصر في فيلم زاد 1969 ويحصد جائزتين في كان وأوسكارين هذا الفيلم المستلهم من رواية فاسيليس فاسيليكوس Vassilis Vassilikos والذي يروي عملية الاغتيال الحقيقية للنائب لمبراكيس Lambrakis في أثينا 1963 تأليف مزدوج ما بين كوستا غافراس وجورج سامبرون Costa–Gavras et Jorge Semprun وقد أشيد بفيلم زاد من طرف النقاد على أنه أول أكبر فيلم سياسي فرنسي.
في 1970 فيلم الاعتراف المستمد من قصة السيرة الذاتية لآرثر لندن نائب سابق لوزير خارجية تشيكوسلوفاكيا يدين تجاوزات الستالينية، حالة حصار في 1973 والذي يستهدف السيطرة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية على بعض دول أمريكا اللاتينية ووحدة خاصة في 1975 يتناول قضية بوجه خاص دنيئة لتعاون حكومة فيشي تحت الاحتلال في أوت 1941.
وبعد رحلة سريعة في الفيلم العاطفي (صفاء امرأة)، كوستا غرافاس يعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفيلم إدانة جديد: اختفاء، وفي الواقع أن منتجا هوليووديا اقترح عليه إخراج فيلم حول مسؤولية الأجهزة السرية الأمريكية في سقوط حكومة التحالف الشعبي التي يرأسها سلفادور أليندي بالشيلي، على الرغم من الإنكار الرسمي لكتابة الدولة الداحض لأية مشاركة في الانقلاب العسكري للجنرال بينوشيه،فإن فيلم اختفاء تلقاه الجمهور بشكل جيد في الولايات المتحدة الأمريكية، أين يقوم تقليد متين مع السينما السياسية، الفيلم تحصل على السعفة الذهبية في كان 1982 وعلى أوسكار لأجل أفضل اقتباس.
في أفلامه المتعاقبة من بينها خيانة (اليد اليمنى للشيطان) 1988 كوستا غافراس يواصل سفره في السينما الملتزمة، في 1989 أخرج واحدا من أفلامه الأكثر كثافة وشجاعة، موسيقى بوكس، مع جيسيكا لانج، الممثلة والفيلم حصلا على جائزة في مهرجان برلين، فيلمه الأخير المخرج في 2001 هو دراما تاريخية في الخط اليمين لأولى أفلامه الروائية الطويلة.