كيف تصبح كاتبًا؟ .. جوليا كريستيفا: وحدها الشجاعة تكبح الشكوى (3)

« لا نتخيل إلى أي حد تتجلى صعوبة التماسك حينما تعيش امرأة مع زوج ليس كالآخرين، ولديها طفل يختلف عن الآخرين، ومهنة غير باقي المهن، وبأن مختلف محاور الارتباط تلك وبقدر كونها ارتقاء فهي تمثل عائقا أيضا(مع أخذ بعين الاعتبار أن كل واحد منا لايشبه“ الآخرين”)وتقوم على توازن ”مغاير تماما’ ‘يصعب تخيل ذلك !“(كاترين كليمون، جوليا كريستيفا، الأنثوي والمقدس، ألبان ميشيل، 2015 )

ولد فيليب وترعرع خلال لحظة كنتم تؤسسون إبانها مرتكزات مشروعكم، مع كتابات ”الشمس السوداء”، “قوى الرعب”، ”حكايات الحب”، ثم الأجزاء الثلاثة حول العبقرية النسائية، وكذا مسار عالمي استثنائي. كيف استطعتم التوفيق بين تربية ابنكم دافيد، ولحظات التقاسم معه، العزيزة جدا على فؤادكم، ثم إبداعاتكم الأدبية وإنتاجكم الفكري؟
بفضل دعم معنوي من فيليب المنتبه دائما، وصاحب مودة لاتنضب، وكذا إخلاص والدة فيليب، التي أكدت لي منذ البداية،  مايلي: ”لن نغير هذا في أي شيء حياتكم المهنية. فأنا إلى جانبكم”. “آه ياكنزي الثمين”، هكذا خاطبتْ دافيد ثم سافرنا نحو نيويورك وتحديدا جامعة كولومبيا باعتباري أستاذة زائرة كي ألقي ضمن أنشطة قسم اللغة الفرنسية محاضرات دورة الخريف. تقاسمتْ طيلة شهر، صحبة فتاة استعنا بخدماتها، تناول مرطبات، وزيارة كاتدرائية القديس باتريك في الشارع الخامس، وفيليب يرقص بدافيد بين ذراعيه، في سطح الطابق الأخير من عمارة شقتنا، المتواجدة في الشارع الشرقي، تحيط بها ناطحات السحاب. أيضا، بفضل قوة فكر والداي حين استضافتهما لنا في مدينة صوفيا خلال العطل. هناك يمارس دافيد التزحلق صحبة جدِّه في منحدرات جبال فيتوشا،  المغطاة بالثلج،  الكتلة الجبلية القريبة من العاصمة؛ كما سبِحَا معا في المياه الدافئة لمنتجع بحري في جنوب البلاد؛ ثم، حين قدومهما إلى باريس، أحبَّ والداي حلبات التزحلق بحدائق لوكسمبورغ، واشتريا كمية معينة من بالونات يقتنيها العابرون من باعة متجولين.

لاشيء سوى ذكريات جميلة ولحظات عزيزة ! تستعيدونها بامتياز بين طيات المجهودات اليومية بغية مواجهة هذا التطور الصعب، التصدي للأمراض، الأزمات، ثم الدأب على طمأنة دافيد خلال فترات استشفائه.
التزم أعضاء الفرق الطبية والتعليمية بمصاحبة شخصية، حسب الطلب، وقد ساعدونا على تهيئ وتنظيم ما ستقوم به الجمهورية فيما بعد على نحو أفضل للتفاعل حقا مع شخصيات في وضعية إعاقة.  في هذا السياق، لا أشعر بأني أسديت مجهودات كبيرة. ربما لأن المجهود يستدعي مجهودا ثانيا وبأن الحب يحفز طاقات غير متوقعة؟ بالتالي،  حتى  مع حاجتي إلى تسع ساعات من النوم، أكون مضطرة للاستيقاظ ليلا، قصد القيام ببعض المهام، ثم النوم ثانية. عندما أستعد لإرضاع دافيد،  أتزيَّن وأرتدي بذلة نوم رائعة حين النظر إليها أو لمسها،  كي أجعله سعيدا  !لذلك لاأفهم امتعاض بعض الأمهات الشابات وقد أنهكن من طرف أطفالهن الرضع. لذلك، لستُ منهن. وحدها الشجاعة تكبح الشكوى، ثم حينما لايتعلق الأمر بالخجل من طفل لكَ يكابد الإعاقة، بل على العكس ضرورة الاضطلاع بالمسؤولية النضالية ضد”الجسم الطبي”أو الدولة. أعيش حياتي كأمٍّ،  بجاذبية، وبالتأكيد لصالح التحليل النفسي، الذي استثمر في عملي.  تستلهم قراءاتي،  الكتابة،  بل مرضاي أنفسهم بكيفية جديدة ماأعيشه مع دافيد. لقد تبيَّنت معه عوالم كانت بالنسبة إلي معتمة أو موصدة قبل ولادته. خلال أول حالة إغماء له في مستشفى سالبيتريير، أسهر، جالسة بجانب فراشه، أحدثه، وأسمعه الموسيقى التي يحبها. في غضون ذلك،  وبين فينة وأخرى،  أعود لقراءة حنا أرنت التي أرست مستويات اختلاف بين اليرقانة،  الحياة الفيزيولوجية،  ثم البيولوجية، تلك الحياة التي تروى،  تتقاسم، إنها  مثل سيرة ذاتية، الحياة وفق معنى.  أحسستُ، أدركتُ، خلال تلك اللحظات بحضور مشترك،  بأن دافيد نفسه يستعيد قواه من أجل الاهتداء إلى الاثنين:  اليرقانة والبيولوجيا.  ثم وجب من جهتي،  توفير العناية  اللازمة حتى يصل إلى المبتغى، على طريقته الخاصة. أبدا لم تظهر لي قبل ذلك”معجزة الحياة”على قدر من البساطة والبداهة، وقد تجردتْ من كل ورع، سوى بين زوايا تلك الغرفة في المستشفى وأنا أراقب نَفَس ابني، ويغمرني نَفَس ثورة حنا أرنت ضد البربرية.  الحياة(البيولوجية)سعيدة بالضرورة حينما تعيد باستمرار البحث عن المعنى، الذي يشكل مأثما للتعاسة.  ضمن سياق نفس الفكر،  تصبح تلك الحياة الأكثر هشاشة وبساطة، سعادة قابلة للتشارك. بفضل دافيد، لم يعد الذي بصدد قوله لكم، مجرد بناء فلسفيا. أعتقد بأني استوعبتُ مفهوم” كوربوس ميستيكوم”(corpus mysticum) لدى كانط، الوحدة بين الحرية وأقصى مستوى التباين، والذي يفتقد بفظاظة للمغزى الدنيوي.  تجلت سلفا تجربة الحياة باعتبارها فتحا جديدا منذ أولى أعمالي السابقة وتحديدا الجزء الأول من العبقرية النسائية لكنه لم يتبلور بوضوح سوى مع تجارب المستشفى.
يبدو لي حينما تتحدثون عن دافيد، بأنكم تتحاوران معا في إطار حيوية متبادلة.
يدرك دافيد وضعيته بكيفية كبيرة، ولايبدي تذمرا قط.  وإن لزمت الإشارة  سريعا،  إلى كونه نادرا مايصادف صعوبة في العثور على طبيعة الكلمات المناسبة من أجل وصف غيبوبته وكذا حدود أخرى. يصف معاناته بأشعار موجزة و مقتضبة.  يتمتع بموهبة سماعية مطلقة،  يعشق موزارت و فيفالدي،  مستلهما طبيعة هذا التذوق من أبيه.  إنه عالمهما الخاص بهما، الذي استأثر بإعجابي. عطوفان جدا، في غاية التشدد بخصوص صداقتهما، خصلتان تجعلكَ فوضويا سياسيا. يبدي دافيد عنادا نحو والديه بقوة السخرية. هكذا تظل بعض تعابير طفولته غير قابلة للنسيان. مثلا “أبي مثل الله، يوجد لكننا لانراه كثيرا”و يفضل دافيد:”السيدة المرحة”بدل جوليا كريستيفا. ثم يثير انتباهي:”حاولي أن تختصري”، ”إنكَ تسهبين في الكلام !”.


الكاتب : ترجمة: سعيد بوخليط

  

بتاريخ : 08/08/2020