منذ استرجاع الأقاليم الجنوبية سنة 1975، شرع المغرب في ورش تنموي واسع لإعادة بناء المجال على أسس اقتصادية متينة. المعطيات التاريخية تؤكد أن البنية التحتية عند خروج الإدارة الإسبانية كانت شبه منعدمة، ولم تكن شبكة الطرق المعبدة تتجاوز سبعين كيلومترا فقط في مجموع الأقاليم الجنوبية، بينما كانت الموانئ محدودة الطاقة، والبنيات الاجتماعية تفتقر إلى التجهيزات الأساسية. خلال خمسة عقود، تغير هذا الواقع جذريا مع توسع الاستثمار العمومي والخاص، وتحولت المنطقة إلى أحد أهم مجالات النمو داخل المغرب، بناتج داخلي إجمالي تجاوز سبعين مليار درهم سنة 2023، بعدما لم يكن يتجاوز 16.7 مليار درهم سنة 2004، وهو ما يعكس تضاعف الناتج أربع مرات خلال عشرين سنة تقريبا، بمعدل نمو سنوي بلغ 7.7 في المائة بالقيمة الجارية و5.9 في المائة بالقيمة الحقيقية، وهي نسبة أعلى من المعدل الوطني.
النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، الذي أُطلق سنة 2015 بغلاف مالي يناهز 87.5 مليار درهم، شكل نقطة تحول في تاريخ الاستثمار العمومي بالمغرب. الأوراش المفتوحة شملت الطرق والموانئ والطاقات المتجددة والماء والفلاحة والصيد والسياحة الاجتماعية والصناعات البحرية. نسبة الالتزام والتنفيذ تجاوزت خمسين في المائة في السنوات الأولى رغم إكراهات الجائحة. ومنذ 2015 وحدها، تجاوز حجم الاستثمارات العمومية 77 مليار درهم، مما منح المنطقة قوة اقتصادية إضافية، وفتح المجال أمام تحول جغرافي وإنتاجي غير مسبوق.
البنية الطرقية: من 70 كيلومترا إلى أكثر من 4000 كيلومتر
عند منتصف السبعينيات، لم تكن شبكة الطرق تتجاوز سبعين كيلومترا في مجموع الأقاليم الجنوبية. اليوم، تتجاوز الشبكة الطرقية أربعة آلاف كيلومتر، بينها 1055 كيلومترا من الطرق السريعة التي تربط العيون والداخلة بباقي جهات المملكة، وتجعل المجال الصحراوي منفتحا على الوسط والشمال. مشروع الطريق السريع تزنيت–العيون–الداخلة، الذي تتجاوز كلفته عشرة مليارات درهم، يمثل إحدى أكبر عمليات الربط البري في تاريخ المغرب، ونفذ على مراحل تشمل تثنية مقاطع واسعة وبناء منشآت فنية جديدة وتجويد السلامة الطرقية على طول الساحل الأطلسي.
التقارير الرسمية تؤكد أن الاستثمار المبرمج سنة 2025 في قطاع الطرق وحده يفوق 14.7 مليار درهم، مع أهداف واضحة تتعلق بتأهيل 1075 كيلومترا، وتثنية وتثليث 305 كيلومترات، وبناء 77 كيلومترا من الطرق السيارة، إضافة إلى إعادة بناء أو صيانة 75 منشأة فنية. الهدف المرسوم إلى أفق 2030 يقوم على رفع جودة الشبكة إلى 68 في المائة بعدما بلغت 64 في المائة سنة 2025. الربط البري امتد إلى المنافذ الحدودية، خاصة الكركرات التي تحولت إلى محور تجاري استراتيجي يربط المغرب بغرب إفريقيا.
إلى جانب الطرق، تم تعزيز النقل الجوي بإنشاء مطارين دوليين في العيون والداخلة، يستقبلان رحلات مباشرة من أوروبا والخليج، ويشكلان رافعة للسياحة والأعمال والاستثمارات الأجنبية. وقد ساعد توسع الرحلات الدولية داخل هذه المناطق على إدماجها في حركة التجارة والسفر الدولية، بعدما كانت وجهات بعيدة عن شبكات الطيران.
ميناء الداخلة الأطلسي مشروع استراتيجي ضخم باستثمار يفوق 12.5 مليار درهم
يعد ميناء الداخلة الأطلسي أحد أبرز المشاريع الهيكلية التي أطلقها المغرب في إطار النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، وقد تم توقيع اتفاقية إنشائه أمام جلالة الملك محمد السادس في نونبر 2016. يندرج هذا المشروع ضمن الاستراتيجية الوطنية للموانئ في أفق 2030، ويهدف إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية واللوجستية لجهة الداخلة – وادي الذهب، عبر دعم قطاعات حيوية مثل الصيد البحري، الزراعة، الطاقة، التعدين، السياحة، التجارة والصناعات التحويلية.
ويمتد المشروع على مساحة إجمالية تبلغ حوالي 1,650 هكتارا، ويشمل بناء ميناء تجاري، ميناء للصيد، وميناء مخصص للصناعات البحرية. ومن المتوقع أن تصل القدرة الاستيعابية للميناء إلى أكثر من 2.2 مليون طن سنويا من البضائع، إضافة إلى استقبال أكثر من 100 ألف حاوية سنويا، مما يجعله منصة لوجستية قارية تربط إفريقيا بأوروبا وأمريكا الجنوبية.
بحلول يوليوز 2025، أعلنت مديرة المشروع نسرين إيوزي أن الأشغال بلغت قرابة 50%، حيث تم الانتهاء من جزء كبير من عمليات الحفر والتهيئة، وتبدأ المرحلة المقبلة في ردم الأحواض وتصنيع هياكل الرسو، في إطار رؤية تنموية موجهة نحو تعزيز التعاون الإقليمي والدولي. ويُتوقع أن يوفر المشروع آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، ويساهم في رفع الناتج المحلي الإجمالي للجهة بنسبة تتراوح بين 8% و12% خلال السنوات الأولى من التشغيل.
من الناحية المالية، تبلغ الكلفة الإجمالية للمشروع حوالي 12.5 مليار درهم مغربي، أي ما يعادل نحو 1.2 مليار دولار أمريكي، وهو ما يعكس حجم الاستثمار العمومي في البنية التحتية البحرية. ويمول المشروع بالكامل من ميزانية الدولة المغربية، وينفذ بخبرات وطنية خالصة، ما يعزز السيادة التقنية والاقتصادية للمملكة في هذا المجال. هذا الميناء لا يعد فقط بنية تحتية للنقل، بل هو ركيزة استراتيجية في تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (ZLECAf)، حيث سيساهم في تسهيل المبادلات التجارية بين أكثر من 40 دولة إفريقية، ويتوقع أن ترتفع نسبة التجارة البينية الإفريقية عبر هذا الميناء بنسبة 15% خلال العقد المقبل. كما يرتقب أن يُستخدم الميناء كنقطة عبور رئيسية للمنتجات المغربية نحو أسواق أمريكا اللاتينية، خاصة في مجالات الفوسفاط، الأسماك، والمنتجات الزراعية.
ولا يريد المغرب من ميناء الداخلة الأطلسي أن يكون مجرد منشأة بحرية، بل هو تجسيد لرؤية استراتيجية تهدف إلى تحويل الجنوب المغربي إلى قطب اقتصادي متكامل، وتعزيز مكانة المملكة كمركز لوجستي قاري، في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية. هذا المشروع، الذي ينفذ بخطى ثابتة، يعد خطوة حاسمة نحو تحقيق التكامل الإفريقي، وتأكيد الريادة المغربية في مجال البنية التحتية البحرية.
طاقات متجددة تتجاوز 2700 ميغاواط وتوجه استراتيجي نحو الهيدروجين الأخضر
يشهد المغرب في السنوات الأخيرة طفرة نوعية في مشاريع الطاقة المتجددة بالأقاليم الجنوبية، حيث أصبحت هذه المشاريع تشكل إحدى ركائز الاقتصاد المحلي، وتساهم بشكل ملموس في التنمية المستدامة وتعزيز الاستقلال الطاقي. وبحسب آخر المعطيات الرسمية، فإن الأقاليم الجنوبية للمملكة شهدت طفرة نوعية في مشاريع الطاقات المتجددة، خاصة في مجالات الطاقة الشمسية والريحية. فقد تم تشغيل منشآت طاقية تولد قدرة إجمالية تفوق 1.3 جيغاواط، باستثمارات بلغت 22 مليار درهم. وتشمل هذه المشاريع محطات للطاقة الشمسية في العيون والسمارة، وحقولا ريحية في طرفاية وبوجدور، مما يعزز استقلالية هذه المناطق في إنتاج الكهرباء ويقلل من الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية.
كما أعلنت وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة عن تطوير مشاريع إضافية سترفع القدرة الإنتاجية بحوالي 1.4 جيغاواط، باستثمارات جديدة تصل إلى 21 مليار درهم، ما يعني أن القدرة الإجمالية ستتجاوز 2.7 جيغاواط عند اكتمال هذه المشاريع. هذه الدينامية تأتي في إطار النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية الذي أطلقه الملك محمد السادس سنة 2015، والذي يهدف إلى تحويل هذه المناطق إلى قطب استراتيجي للطاقة النظيفة في إفريقيا.
للمقارنة، كانت القدرة الإنتاجية للكهرباء في هذه الأقاليم لا تتجاوز 7 ميغاواط قبل انطلاق هذه المشاريع، موزعة بين 2 ميغاواط في العيون و5 ميغاواط في باقي المناطق، ما يعكس التحول الكبير الذي شهدته هذه الجهات خلال العقد الأخير.
الاقتصاد الأزرق في الأقاليم الجنوبية: المغرب يحول ثروته البحرية إلى قوة صناعية وسياحية
أطلق المغرب في السنوات الأخيرة سلسلة من المشاريع الطموحة في مجال الاقتصاد الأزرق بالأقاليم الجنوبية، مستفيدا من امتداد سواحله على المحيط الأطلسي بطول يبلغ 950 كيلومترا، وهي من أغنى المناطق المغربية بالثروة السمكية، حيث تمثل أكثر من 60% من إجمالي الإنتاج الوطني للصيد البحري.
هذا التحول النوعي في النشاط البحري من قطاع تقليدي إلى منظومة صناعية متكاملة يعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى تثمين الموارد البحرية وتحقيق التنمية المستدامة. فقد شهدت الأقاليم الجنوبية توسعا كبيرا في المناطق الصناعية البحرية، حيث تضم حاليا أكثر من 100 وحدة تصنيع وتثمين، تشمل مصانع التصبير، معامل إنتاج الدقيق والزيوت، فضاءات التبريد والتخزين، إلى جانب وحدات الصيد الساحلي والتقليدي. هذه البنية التحتية المتطورة ساهمت في رفع القدرة الإنتاجية وتحسين جودة المنتجات البحرية الموجهة للأسواق الوطنية والدولية.
في مجال تربية الأحياء المائية، انطلقت مشاريع جديدة بشراكات بين الدولة والقطاع الخاص، تهدف إلى خلق قيمة مضافة من خلال استزراع أنواع متعددة من الأسماك والقشريات، مثل القاروص (الدرعي) والجمبري (الكروفيط)، الموجهة أساسا للتصدير نحو أوروبا وآسيا. وقد تم تخصيص أكثر من 1300 هكتار لإنشاء مزارع بحرية في مناطق مثل الداخلة وبوجدور، مع توقعات بإنتاج يفوق 80000 طن سنويا بحلول عام 2030 . هذه المشاريع تندرج ضمن الاستراتيجية الوطنية لتطوير تربية الأحياء المائية، التي رصد لها غلاف مالي يفوق 2 مليار درهم، وتستهدف خلق أكثر من 3000 منصب شغل مباشر وغير مباشر.
أما السياحة الرياضية والبيئية، فقد شهدت بدورها نموا ملحوظا، خصوصا في مدينة الداخلة التي أصبحت وجهة عالمية لرياضة الكايت سورف بفضل الظروف الطبيعية المثالية لرياح الأطلسي. تشير الإحصائيات إلى أن عدد السياح الوافدين إلى الداخلة ارتفع بنسبة 25% سنويًا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، مدفوعا بدخول رحلات جوية مباشرة من أوروبا والخليج، مما ساهم في تنشيط القطاع الفندقي والخدمات السياحية. وقد تم تنظيم أكثر من 15 بطولة دولية لرياضة الكايت سورف في الداخلة منذ عام 2020، بمشاركة رياضيين من أكثر من 40 دولة، مما عزز من إشعاع المدينة على المستوى العالمي.
الأقاليم الجنوبية تحولت إلى قطب اقتصادي يسيل لعاب المستثمرين الدوليين
أصبحت الأقاليم الجنوبية للمملكة اليوم من أكثر المناطق جذبا للاستثمار الأجنبي، هذه الجاذبية تعززت مؤخرا بحدث اقتصادي بارز تمثل في تنظيم المنتدى الاقتصادي المغربي الفرنسي يوم 9 أكتوبر 2025 بمدينة الداخلة، في سياق الدينامية الجديدة التي تعرفها العلاقات الاقتصادية المغربية الفرنسية، وقد عرف هذا الحدث مشاركة أزيد من 300 من أرباب المقاولات والمستثمرين من كلا البلدين، إلى جانب ممثلين عن الهيئات الحكومية، الجهات الترابية، والمؤسسات المالية، مما يعكس الاهتمام المتزايد بالأقاليم الجنوبية كمجال استثماري واعد. المنتدى ركز على 6 محاور استراتيجية: المبادرة الملكية الأطلسية، الأمن الغذائي، الانتقال الطاقي، إزالة الكربون، السياحة، والتكوين المهني. وتم تقديم عروض تفصيلية حول المشاريع الكبرى التي تشهدها جهتا العيون الساقية الحمراء والداخلة وادي الذهب، خاصة في مجالات الطاقات المتجددة، حيث تتجاوز القدرة الإنتاجية الحالية في الأقاليم الجنوبية 1.3 جيغاواط، مع مشاريع إضافية سترفعها إلى 2.7 جيغاواط خلال السنوات المقبلة. كما تم تسليط الضوء على مشروع ميناء الداخلة الأطلسي الذي يُعد من أكبر المشاريع اللوجستية في إفريقيا، بميزانية تفوق 12.5 مليار درهم، والذي سيمكن من تعزيز الربط البحري بين المغرب ودول غرب إفريقيا، ويشكل رافعة أساسية لجذب الاستثمارات الصناعية والتجارية. في قطاع السياحة، تم عرض أرقام تفيد بأن الداخلة تستقبل سنويًا أكثر من 120,000 سائح، مع نمو سنوي يفوق 25%، مدفوعا بدخول رحلات جوية مباشرة من أوروبا والخليج. من الجانب الفرنسي، عبر عدد من المستثمرين عن نيتهم إطلاق مشاريع في مجالات الصناعات الغذائية، الطاقات النظيفة، والخدمات اللوجستية، مستفيدين من الحوافز الاستثمارية التي توفرها الدولة المغربية، ومن الموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يجعل من الأقاليم الجنوبية بوابة نحو إفريقيا جنوب الصحراء. كما تم الإعلان عن إحداث آلية متابعة مشتركة بين CGEM وMEDEF لتسريع تنفيذ المشاريع الاستثمارية التي تم الاتفاق عليها خلال المنتدى.
من جهتها، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، على لسان نائب وزير الخارجية كريستوفر لانداو، في شتنبر 2025، عن دعمها الكامل لتوجه الشركات الأمريكية نحو الاستثمار في الأقاليم الجنوبية، في سياق اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على صحرائه. وأكد لانداو أن الإدارة الأمريكية ستعمل على تشجيع الفاعلين الاقتصاديين الأمريكيين على استكشاف الفرص المتاحة في هذه المناطق، خاصة في قطاعات الطاقة، اللوجستيك، والصناعات التحويلية. هذا الموقف يعكس رغبة أمريكية واضحة في تحويل الاعتراف السياسي إلى شراكات اقتصادية ملموسة، وقد بدأت بالفعل بعض الشركات الأمريكية في إجراء دراسات جدوى لمشاريع في الداخلة والعيون، خصوصًا في مجال معالجة وتصدير المنتجات البحرية.
أما روسيا، فقد وقعت في أكتوبر 2025 اتفاقًا جديدًا مع المغرب في مجال الصيد البحري، يشمل سواحل الأقاليم الجنوبية، ويمنح السفن الروسية حق الصيد في المياه الأطلسية المغربية مقابل التزامها بتشغيل البحارة المغاربة وتقديم منح دراسية للطلبة. هذا الاتفاق، الذي يمتد لأربع سنوات، يعكس اهتمام موسكو المتزايد بالثروات البحرية المغربية، ويعزز التعاون الثنائي في قطاع حيوي يشكل ركيزة أساسية للاقتصاد المحلي في الجنوب.
من جهة أخرى، برزت الصين كفاعل اقتصادي رئيسي في المنطقة، حيث كشف تقرير صادر عن جامعة «جونز هوبكنز» في شتنبر 2025 أن المغرب أصبح ثاني أكبر وجهة عالمية للاستثمارات الصينية في التكنولوجيا الخضراء، بإجمالي استثمارات يفوق 18 مليار دولار. وتشمل هذه الاستثمارات مشاريع في الطاقات المتجددة، البطاريات، والهيدروجين الأخضر، مع اهتمام خاص بالأقاليم الجنوبية نظرًا لموقعها الاستراتيجي وقربها من أوروبا. وتُعد الداخلة والعيون من بين المناطق المستهدفة لإقامة مصانع ومراكز بحث وتطوير في إطار الشراكة الصينية المغربية في مجال الابتكار الصناعي. كل هذه المؤشرات تؤكد أن الأقاليم الجنوبية المغربية لم تعد فقط مجالا جغرافيا ذا أهمية استراتيجية، بل تحولت إلى قطب اقتصادي صاعد يجذب اهتمام المستثمرين من مختلف القارات، ويقدم نموذجا ناجحا للتنمية المندمجة والمستدامة.

