لأن .. هذه المدينة كانت تعرف شاعرها.. مرة أخرى..

«مبتهجا بالحماقة
أشرب من نبع الدهشة
لا أرتوي أبدا
لا أرتوي..»
كريم حوماري ص 15 من الديوان

إنها حكاية طي «أصابع الحلم»(1)، وهو النص المسرحي المائز للأديب مصطفى البعليش.لكنها ليست ككل الحكايات الواردة في كتاب ألف ليل وليلة .إنها توجد سردا في الليلة الثانية بعد الألف، أي خارج الليالي المعروفة، ولم تسرد على لسان شهرزاد لموتها المباغت خوفا من الاغتيال.سردها جاء على لسان أختها دنيازاد..بعد زواجها من شهريار .
كل الفصل الأول من المسرحية والمعنون «بالحكاية»هو تمهيد درامي بحضور شهريار ووزيره و شهرزاد، ثم بعد ذلك بحضور دنيازاد لتتمة الحكاية . حكاية محاكمة شاعر بعد انتحاره. «إنها محاكمة جيل على لسان شاعر اختار الانتحار.»(ص34 من المسرحية)احتجاجا على محاكمته.
حكاية هذه المحاكمة لها ما قبلها وما بعدها.

ما قبل المحاكمة :

في جو من المرح والبراءة عثر الأطفال على كتاب (ديوان شعر) فيه كلام جميل. هو ديوان الشاعر الذي سيحاكم .أيمكن محاكمة شاعر مات قبلا؟…
ترى ما هي التهمة؟ إنها أكثر من تهمة .الأولى هي نبش القبور وعدم احترام حرمتها واللعب والرقص فوقها. والثانية هي إفساد عقول الأطفال بكلام جميل عادة ما يتّبعه الغاوون. والتهمة الثالثة القتل العمد.لذا فالشاعر مطلوب حيا أو ميتا.
يعتقل الشاعر رغم موته ويقدم للمحاكمة .دفاع الشاعر هو شعره لكن شعره سيورطه أكثر .
ترى سلطة شهريار ووزيره أن شعر الشاعر يتضمن تهما خطيرة كالحلم بالكرسي وبخرائط جديدة أخرى (ص72،73من الديوان) ونعته للنشيد الوطني بالنشيد الوثني( نفسه ).. وهذه كلها تهم تستوجب الحكم بالإعدام. ولكن هذا الحكم هو ما نفّذه الشاعر بنفسه على نفسه. فما السبيل إلى تنفيذ الحكم عليه؟ فكروا في القضاء على شعره ، بشراء كل دواوينه الموجودة في السوق وخارج السوق إتلافها . هكذا يتم فصل الروح الشعرية عن جسد الشاعر بعد أن بادر هو بفصل روحه عن جسده ذات مساء قرب الميناء.
إلا أن الأطفال رمز البراءة والمستقبل كانوا بعد أن عثروا على الديوان قد احتفظوا بنسخة منه اعتمدوها في كل مسرحياتهم، ومنها هذه المسرحية التي ألفها الأديب مصطفى البعليش «أصابع الحلم» وضمّنها مقاطع من شعر الشاعر كريم حوماري . شكّل هذا الشعر حوارات طويلة قبل المحاكمة وفي خضّمها وبعدها دون توقف.كما هو مسكوك في ديوان «تقاسيم على آلة الجنون»، وهو الديوان الأول و الأخير للشاعر كريم حوماري .(2)

إبان المحاكمة:

عادة ما يكون الاقتباس مهمة صعبة، لا لأن السياقات تختلف وإنما لأن المقاصد تختلف أيضا.ومع ذلك استطاع الأديب مصطفى البعليش تضمين شعر الشاعر في سياقات مسرحية، بادئا بتبرير القول أن الأطفال عثروا على كتاب يتضمن قولا جميلا :
«سلامي
إذا ما
حفيف عبر،
لطيف
وديع
كأحلى خبر،
إني ..وإني
جريح
منسي
بعد حروب لم تقع. (ص95 من الديوان).
الشاعر هنا في الحقيقة يحيّي أخته مليكة ويشكو جرحه ووحدته.لكن الاقتباس لمس في التحية كنزا جماليا وبلاغة في القول والتعبير. كما لمسهما في القول التالي الذي تكرر مرارا وتكرارا في المسرحية :
«سما ما علا
علا ما سما
كسر باب تاريخ
مجد
وجدك
العتيق
بالهوى
علمك الأسماء كلها،
هو اللطيف،اللطيف
الرسول الجوال
الساهر على مغيب الشمس
في عينيك كل مساء.
(ص 59 من الديوان).
ولأن تواجد الأطفال في هذه الأمكنة (الخلاء)لم يكن مصادفة ..فقد جاؤوا ها هنا بحثا عن أسباب اللعب والتخفّي.. إلى أن عثروا على الديوان .. وفيه بداية اللعبة ..بداية المسرحية.
«دخان
خرافي الشكل،
يسكن تجاويف المشهد:»طبول،
ضفائر حمراء ، سوداء وأياد تهتز
وبداية الرقص… «
(ص9 من الديوان).
لمّا اشتد الرقص والإيقاع إلى حد الجذبة نهض طيف الشاعر من قبره وفي قلبه وخز طفيف وهو ينوي القول للطفل الذي يحمل الديوان في يده:
« ذاك الذي في يدك ..كتابي وهو قلبي ..
فيه تجدون ما يخفيه قلبي من أسرار..»
(ص 42 من المسرحية).
ولأن الشرطة تقرأ النوايا، اعتقل الشاعر .
في المحكمة لم ينفع الشعر قضية الشاعر، بل ورّطه وأدانه.لأنه شتّان بين شعر الشاعر وبين مرافعة المحامي . رغم حجاج وبلاغة هذا الأخير فالصدق يعوزه.ولا يملك الشاعر في كل شطحاته إلاّ الصدق، رغم جنوح خياله وجنونه.
ولأن الشاعر دوما في حالة من الجنون والجنوح في شعره وطقوسه لا يمكنه إلا أن يكون صادقا . إلا أن الصدق في التشريع القضائي يجب أن يكون خاليا من المحسنات اللفظية والصور البلاغية .. والشعر لا يستقيم إلا بها.فأداء القسم يجب أن يكون بالنجمة والأنجاد، بالزفير والنبض، بالحروف المتساقطة من العيون كالدموع(ص 15 من الديوان) لأن الوطن اغتالته يد الشمس وصلبته العاصفة (ص 31 من الديوان) وهذا الكون غرفتي ، السماء نافذتي ،الريح سريري..
« ليس لي
الأرض
التي تحملني
ولا السماء
التي تحصرني
ما أنا إلا ورقة خريف
…..
أو نبي آخر ساعة « (ص96 من الديوان).
ولمّا لم يعثروا في شعره على أية تهمة من التهم المعروفة والمنصوص عليها في التشريع لجأوا إلى نثره ..إلى قطعة واحدة من سرده..(ص 97 من الديوان) تحت عنوان «خمسة عشر خنجرا» واتهموه بالقتل العمد.
في هذه الأقصوصة مستويان من البناء واللغة.
المستوى الأول صريح العبارة. سطحها اللغوي فيه شخص يتبناه السارد بضمير المتكلم يحتسي قهوته ذات مساء مقمر، وهو ينتظر صعوده إلى السماء . في سياق ظنون أو جنون يعده رجل بالصعود محملا بخمسة عشر خنجرا في كيس أسود وببذلة سوداء لا ترى ..أهدتهما له فتاة رائعة الجمال وأخبرته أنه باستطاعته اللعب بها وإصابة الأشرار الظالمة التي يسخرها الشيطان لقتل الناس والأطفال في المدينة. لم يحدث أي أذى إلا أن روحه المفارقة لجسده كلفته أن يمنع ذلك. في سنة من نوم نفذ إلى السماء وتمت المعركة (معركة القتل والفتك) ثم عاد إلى طاولته يحتسي فنجانه ويشم رائحة الحياة ويفكر في ما حدث.
المستوى الثاني لا علاقة له بالأقصوصة في حد ذاتها إلا كديكور ووصف. والسرد فيه هو قول المستحيل بلغة استعارية ساردة شاردة . والمستحيل هو حلم يمتلك فيه البطل قدرة هائلة على التحكم في الخناجر وضرب النذل بها(الشيطان ، الظالم ، المستبد..)ليمرح الأطفال بلعبهم في براءة تامة .تلك القدرة امتلكها بفضل امرأة فاتنة هي رمز قيم الجمال والحق والحقيقة والنبل، وبفضل وعد رجل رزين هو رمز الحكمة والعقل . لكن ما كان ليتحقق كل هذا لولا الجنون والانتحار اللذان جعلا الروح تفارق الجسد وتمكث هي هناك في برزخها راضية مرضية ويعود هو هنا مفكرا متأملا.
المستوى الأول من القراءة يدين الشاعر بجرم القتل العمد، وفيه الاعتراف سيد الأحكام . لكن المستوى الثاني منها يبرّئه من كل ذنب مستور وكل جرم مذكور وكل شطط منظور . فهل نفهم الشاعر ونتذوقه وفق القراءة الأولى التي تقف على سطح اللغة وعند عتبة المعنى ؟ أم نسعى إلى فهمه وفق القراءة الثانية التي تغوص في تخوم اللغة وتنصت لحفيف معانيها و تصوراتها؟

للحكاية ما بعدها

أي أن الحكاية هاته لا تنتهي ولا يمكنها أن تنتهي لا خوفا من الموت وإنما لأن كل الشعراء الذين ماتوا منذ جاهلية الشعر إلى المعري والمتنبي، وصولا بها صحبي إلى محمود درويش، مازالوا أحياء يرزقون بشعرهم.
ترى ما السر الذي يجعل هؤلاء الشعراء الأقحاح رغم موتهم يستمرون في التواجد والتأثير في مجتمعهم من خلال شعرهم؟ علما أن هناك من أغفلهم المجتمع وطواهم النسيان وألمعوا لمعانا بعد ذلك؟
الشاعرية (ملكة الشعر) لا تتحدد إلا بعناصر قليلة لكنها فعالة. أولا محاولة «نقل المستحيل»، وثانيا لا يمكن لهذه المحاولة أن تكوى إلا ب»الجنون».
المستحيل هو ما لا يمكن قوله.هو الذي لا يحيل إلى أي شيء .ولا يمكن وصفه بتالي.كأنه موجود في العدم ولا يمكن استخلاصه منه إلا بسلطان. سلطان الله كان أمره و إبداعه حين قال»كن فكان». لكن سلطان الأدباء والشعراء هو عبقريتهم أي جنونهم.والجنون هو هذه القدرة على التخلص من هذه الحجب المختلفة التي تحجب عنا الحق والجمال والخير..حجاب الحسية وحجاب العقلية وحجاب الآدمية وحجاب الفنائية ..
يبقى»حجاب الحدس» وهو آخر ما اصطلح عليه الإنسان لمحاولة الإطلالة على المستحيل لنقله إلى الممكن، من السماوي إلى الأرضي ومن اللاهوتي إلى الناسوتي عبر الحلم والهلوسة والاستيهام والخيال .. وتلعب اللغة من حيث هي مفردات وكلمات وبلاغة ومحسنات وسياقات الدور الأساس في كل هذه العمليات.»ولكن لا يمكننا تفسير المغزى والمجاز بالكلمات ، فإما نفهمها وإلا فلا».(هاروكي موراكامي).
المستحيل هو الحب خاصة حين يكون تراجيديا ومن طرف واحد أو يكون صوفيا، المستحيل هو درء الموت، مواجهة الفناء، الإقبال على الانتحار وغدر الاغتيال، المستحيل هو تعدد اللغات وتعذر التعبير عن الموضوع الواحد المعطى أو المفترض.»إن الأفكار الخلاّقة في معظم الحالات ، هي عبارة عن عواطف لا تخلق من عدم إنما تبرز من الظلمة (الكاووس)من دون منطق و لا برهان»(موراكامي ) . فالشاعر الحقيقي «يعشق تلك اللحظة : لحظة امتزاج الوجود بالعدم»(نفسه).
«ومن نافل القول أن أفضل المجاز يعدّ أفضل الأشعار». هذا هوعالم المجاز عند هاروكي موراكامي (مقتل الكومونداتور….)(3).و هو عالم الشعراء الذين أصابهم مسّ من الشعر أو مسّ من الجن ، ربط حياتهم برمتها بهذا العالم الافتراضي وعوّض به العالم الواقعي.عالم مجاز الشاعر كريم حوماري تطغى فيه موضوعات عدة يمكن أن نذكر منها اللغة وما يساوقها من تيمات أخرى والحب والجنون…
ففي شطحته الأولى تتضح لنا علاقة الشاعر باللغة بوضوح تام .فهي علاقة إساءة. تسيء اللغة لآلام الشاعر وذلك بالتدريج:فالأقلام تسيء نطق الكلام والكلام يسيء نطق الإشراق ولا يدري الشاعر أين نفسه من متاهة نفسه.والقلب يسيء نطق الحب والحب يسيء نطق الحمق والشاعر يصعد في دمه ينزل في حزنه يظهر يختفي يتحول يشتعل يلمع يسيل يتسامى …
نشرب كؤوسنا الأليمة من نخب
العبارة
نتيه في القوافي سكارى
.. .. .. .. ..
يا صاحبي شردتنا القصيدة
و الكلام يسيء نطق الآلام. (ص6 من الديوان).
ورغم أن اليد تمسك ناي الكلمات (الإيقاع) فالشاعر يبقى كلاما دائخا مترنحا(ص 9 من الديوان).يمشي ثم يمشي وحتما سيصل مجنونا أو محمولا في نعش الكلمات الدالة بالكاد على صراخه وألمه.إنه خداع العبارات الضائعة على صعيد وعيها، تلك التي تسقط من شرفات صمت الشاعر:
«إذا كنت الصمت
من أكون
حين تتكلم
ويصدرك النغم في جسدي» (ص82 من الديوان).
ثم يستنهضها من نوم حبرها ، قائلا:
«حبري مدارج نشوة ترتقي طيشي» (ص87 من الديوان).
في هذا الطيش يبحث الشاعر عن الكلمة كأنه يبحث عن سيجارة. لكنه لا يبحث عن الحقيقة:
«لأنه مفقود
مجنون
كالشعراء»
(ص68من الديوان)
فالأفكار التي لا ترسمها اللغة تسقط (ص77 نفسه) و تتلاشى وتضيع في المستحيل الذي هو «اللانهاية في اللامعنى» (ص94 نفسه).
«تقاسيم على آلة الجنون» هي تقاسيم رومانسية بالمعنى الذي عاشه الرومانسيون الأوائل :»عواطف جيّاشة ،حساسية رقيقة ،ميولات إنسية ، وحب وهوى وعشق ولوعة وجوى.
الحب لدى الشاعر كريم حوماري لا علاقة له بالحب الأفلاطوني، فهو شهوة ورغبات ولذات وغواية .
«يسألني ما الحب ؟
أجيبه، ما تشاء من لذة.
يسألني ، ما العشق؟
أجيبه ، ما تشاء من فلول ذهبية
وتسألني، ما الهوى؟
أجيبها،
«وردة بين يدينا». (ص72 نفسه)
في هذه الغواية رفيقته، صديقته، فراشته، تشبه القمر والشمس، وهي كلها له :
«القمر لليل
الشمس للصباح
وأنت لي .
………….
ستكبر شعلة الشبق،
وفي المدى
نرتاح ثم نكمل
السفر.»
(ص 16 نفسه)
.. .. .. ..
هكذا يكون لليل قمره
وللصباح شمسه
وأنت لي ..لذة..
جرعة تبلل العطش.» (ص19 نفسه).
ثلاثة أرباع الديوان غزل .غزل شفيف عفيف.لا يتحسّر على البعد ولا على الفراق بقدر ما يتسامى في حبه ولذّته ويرفعهما أعلى عليّين:
« سيري نحو التوحد
سيري بطيئا نحو الرب
الله أكبر أشهد أنك من صلبي
خرجت شهوة ، لذة..» (ص34 نفسه)
الأصل في الحب والشعر هو الجنون:
«هو الحب في معناك
هو الحمق في معناي» (61 نفسه)
كل كلام العالم يسيء لهذا الألم.لذا لا تسعف الشاعر سوى «الجذبة».
فيها يطالعه :
«شبق النبوة[….]
هراء،هذيان
وهمس جنون…أخال موكبا
وأخالني نبيا
سجين حماقات.»
يا رفيقتي …
نرتاح ثم نكمل السفر
نغازل جنون الزمن
نسليه و ننسج حماقات
على نغم القلق
نلهو بجروحنا
و نمضي كالسحاب
ما أجمل السفر.»
(ص 18نفسه)
وفي ذروة الرؤيا يقول الشاعر:
«رأيت الحاء تعانق الباء
والألف يرقص على إيقاع النون
قيل أخذت نصيبي من الجنون». (ص21نفسه)
كان نصيب الشاعر وافرا من الجنون، إلى حد أن تساءل:
« فهل تستطيع الروح أن توجد
بين ثنائية أخرى
غير الموت والحياة؟» (ص94).
ولأن المسرحي لا يمكنه أن يبني مسرحيته إلا على منوال التراجيديا أو الكوميديا أو هما معا، فإن الأديب مصطفى البعليش استلّ من هذه الثنائية ، ثنائية الموت والحياة، إشكاليته الدرامية . إنها إشكالية المستقبل والانبعاث والاستمرار ..خرج الأطفال من دقّات الجرس للعب ونهض طيف الشاعر من قبر الحكايات واستمرت الحكاية آلاف السنين وما زالت تنشد إنسية الإنسان.

هوامش:

1 ـ مصطفى البلعيش «أصابع الحلم»،مسرحية،منشورات سلكي أخوين.2013.طنجة.
2 ـ كريم حوماري «تقاسيم على آلة الجنون»تم نشره بدار قرطبة ،1997 تحت إشراف جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الإمام الأصيلي و جمعية نبراس للفنون البصرية.
3 ـ هاروكي موراكامي»مقتل الكومونداتور»……….


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 23/12/2022