عزيزتي فروغ :
ماذا سيحدث لو كتبت إليك الآن؟ الآن بعد أن وصلني أنينك عبر هذه الريح التي سافرت طويلا قبل أن تأتيني بصوتك هادئا، جارفا، مشتعلا، فياضا بحنينك إلى الحرية، تلك الحرية التي جمعتني بك تحت سماء حقيقة لا تموت.
… تموتين أنت.. أموت أنا .. وتبقى الحقيقة، لأنثى من بعدنا ، ستقرأ ما كتبتُه، وستقرأ ما كتبْتِهِ، وستكتُبُ إلينا بدورها، لتتحقق دورة الحياة….
لو تعلمين كم تركتِ العالم فارغا، لو تعلمين كم في هذه الضفاف من شمس لا تشرق…
بالأمس، فقط، أنهيت حروبي مع شياطين العطش، حين ضممت إلى صدري أشعاركِ، بهية جاءتني قصائدك، وقد أفسَحْتُ لها ركنا شاسعاً في القلب، قصائد أشرقت لها كل شموسي واحتفلت بها كل ملائكة روحي…..
كنتِ هناك، في سلامك…
ربما كنت ترسمين أشكال دهشاتك، ربما في صمتك، في صلواتك، في عمقك واصلْتِ إطلاق سراح الأسئلة التي بها وهبت وجودك شمسا أبهى من شمس كل الصباحات… صباحات لم تكن لتنتسب إلى وجدك.. إلى ولهك الباقي.. إلى تفردك الأبقى…
بالأمس يا شبيهتي في التعب، حلقت في أرجائك، تأرجحت في أرجوحة وقتك.. جاءتني حمامتك الحزينة التي فرت من قلبك، وبكامل إحساسها المتفجر «فتحت لي فجوة في جدار هذا الليل الكريه، فجوة نحو النور» فرأيتك ورأيتني ورأيت اليقين وبدايات السفر..
«الوردة الحمراء « قادني عبيرها إليكِ، فتلمست في جنح الظلام فرحة صغيرة أبقت على أحلامي سالمة إلا من قلق… ومثل من تخطَّفَها قوسُ قزح ثملٍ، أبَحْتُ لعطرك أن يطهر دمي، وأمرت دمي ألا يستجيب إلا لعطرك..
ثم آمنتُ معك ببداية فصل البرد…
لأني كنت أنا الأخرى «امرأة وحيدة على عتبة فصل البرد» أبحث في السواحل والمجرات والفيافي عن دفء شبيه بدفئي.
عن سلام شبيه بالسلام الذي بسلطته أكتب إليك الآن رغم المسافة الفاصلة بين وهجك ورغبتي في عناقك..
«متعب هذا الزمان ومسلول» «صَدَقْتِ سَيِّدَتي، وصَدَقَتْ كل صرخاتك» فكل «أولئك الذين حملوا معهم سذاجة القلب إلى قصر الخرافة» أتعبهم الزمن فجمعوا أشلاء خرافاتهم وهاجروا من هنا إلى هناك، حيث يبقى الزمن وحده بلا جدوى ، بلا معنی، بلا حرائق.
أنا مثلك أليفتي «عارية كالصمت في رسائل الحب، ومن الحب آتية كل جراحي».
في تيهي تعلمت أن أحفظ للقلب كبرياءه وحقه في الشموخ، ومع ذلك هو القلب غابة ممتدة من جراحات لا تهدأ.. ما إن يبتسم في وجهي الحب، حتى نتصالح، أغامر في نواحيه، أنمحي في لذائذه، ثم، بالعواصف أنهي إبحاري..على الشاطئ خبل واحد يكون في انتظاري: ذكرى آخر اللوعة..
لا أثق، لا أصدق، لا أومن، ومع ذلك مع أول رفة تجذبني لجة أخرى، فأسبح، في أعضائي تبدأ الدهشة تكوينها المائي..لا أعلم هل سأزرع البنفسج ثانية في الحدائق؟
كل ما أعلمه الآن هو أن فراشاتي تسير بي الى «مرعى العشق».. أتمدد قليلا وإذا بوشوشة تنبئني بظمأ جديد.
قلت لنفسي: تعالي …في القصيدة نطلق النداء.
أيتها الوحيدة في المدى..
خذيني إليك… حتى أشفى قليلا من تعبجاثم على الصدر يقهر كل الصبوات، يأسر كل الرغبات، فقد «رحل الوقت وسقط الليل» فلِمَ أُبْقِ على بهجة لا تليق بروحي؟ ولِمَ يغريني الذي يأتي دائما كما لا أشتهيه؟
أي سحب أحملها رسائل عشقي؟
وأي بحر أزرع فيه موجتي السائبة؟
أي حديقة لوردي؟
أي ورد لجنازتي؟
وأية جنازة لعدمي ؟؟
حياتي كالنهر الغريب على ضفافه حكايا صباحات لا تنتهي في معنى واحد اختزلت تفاصيلها، وخلصت إلى عبرة هي ذاتها التي تقول : إنك لا تسبح في الهوى مرتين…
سيدتي
أنا الأخرى «لست أدري ما أريد، ولا عم تبحث عيوني المتعبة، ولم أصبح هذا القلب حزينا» أنا الأخرى «أبتعد عمن أعرفهم كي أستطيع الإنصات لأنات قلبي المريض».
أنا الأخرى انزويت، وصَمَتُّ، واكتويتُ، وطُعنْتُ فَغبْتُ،
وفي آخر المساء أسمع هتافات على ضفاف ذاكرتي، أطل على الرفاق، لا أجد رائحة تقودني إلى مشتلهم.
أفتح العين على أحباء كانوا هنا، فاختصروا المسافة وأغلقوا الباب خلف شغبنا المشترك، وظنوا أني سأخلص لوداعاتهم… هم كانوا أشباهي صاروا بلا معنى، يحلقون بين ربيع وآخر في سمائي التي لا تعرف الخداع.
فقولي: من يدل النحلة على خليتها ؟ أتراها تحمل تحت إبطها خريطة هذا العالم ؟
سعيدة بهذه اللحظة التي تسمو فيها ذاتي إلى لا منتهاك…
لم أنتبه كم مضى على رحيلك ما انتبهت إليه حقا هي هذه الألفة، وجَدْتُني أتلذذ بها، أتفاعل معها وأنا أنصت إلى عصفك.. وفي خلوتي في سكون جسدي، اخترت أن «أتلو دفاترك المنسية»، وأحسك تتنفسين، وأحس الشمس تشرق.
سائرة على نسقك…
أحنو على الزهر أصادق الشجر، أحترم الحديقة، أشاطر الغيمة أعراسها، وتحت سماء اللازورد، في اخضرار وهاج أفاجئ أنوثتي بنجمة، وبنجمة كذلك أحرض دواخلي على الضحك …
لقد وضعت على مشارفي معاناتك،
فنامي واطمئني….
سأحرس «الطائر الذي يوشك أن يموت» سأحرس «الحديقة»، سأحرس «الوردة الحمراء» سأحرس «الهدية» سأحرس الشمس إلى أن «تشرق الشمس»…
ثقي في اخضراري، إلى حين أهدى للموت، مثلما تُهدى الفراشة للنور.