تعيش جماعة الدار البيضاء في الأسابيع الأخيرة على إيقاع استنفار غير معلن، بعدما تحولت مكاتبها الإدارية إلى قبلة للجان تفتيش ثقيلة من المفتشية العامة لوزارة الداخلية والمجلس الأعلى للحسابات، اللتين فتحتا ملفات معقدة وحساسة تتعلق بالتراخيص التجارية وتدبير ممتلكات الجماعة واستغلال الملك العمومي البحري. وتفيد مصادر مطلعة بأن هذه الحملة ليست مجرد تفتيش روتيني، بل عملية تمشيط دقيقة تسعى إلى كشف طريقة اشتغال مصالح الجماعة، والوقوف عند مكامن الخلل التي تراكمت عبر سنوات من التدبير المرتبك والقرارات غير المتناسقة.
فالمجلس الأعلى للحسابات يركز عمله على قطاعي الممتلكات والتعمير، حيث أعاد فتح ملفات تفويت بقايا الطرق ومساحات صغيرة من الملك الجماعي، وهي ملفات تحمل في تفاصيلها الكثير من التساؤلات حول المعايير التي تعتمد في اتخاذ القرار، وكيفية تقدير القيمة المالية لهذه العقارات، ومن هم المستفيدون الحقيقيون منها. إذ تشير المعلومات المتوفرة إلى أن بعض هذه التفويتات تمت في سياقات غامضة، وبأسعار أقل بكثير من القيمة الحقيقية للأوعية العقارية، ما يجعلها اليوم تحت مجهر المحاسبة والمساءلة.
وفي الجهة المقابلة، باشرت المفتشية العامة لوزارة الداخلية، بمشاركة مديرية الشؤون القانونية والنزاعات، عملية تفتيش معمقة داخل المصالح الاقتصادية للجماعة، كان محورها الأبرز تدبير الشريط الساحلي لعين الذئاب، ذلك الفضاء الحيوي الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى مصدر جدل دائم بسبب طريقة استغلاله من طرف مستثمرين ومؤسسات سياحية. وقد شملت التحقيقات كل المنتزهات والنوادي والمنتجعات والمقاهي والمطاعم الممتدة على طول الكورنيش، لتخرج اللجان برزمة ثقيلة من الملاحظات التي تكشف عن اختلالات تدبيرية صادمة.
من بين أبرز ما وقف عليه المفتشون، وجود سلسلة من التراخيص بالإصلاح والتعديل منحت لمؤسسات سياحية بشكل متكرر، ما سمح لها بتوسيع نشاطها ومساحاتها دون أداء مقابل مالي يتناسب مع حجم الاستغلال الإضافي، وهو ما اعتبر هدرا صريحا لمداخيل كان يفترض أن تعود على خزينة المدينة. كما أثارت اللجان تساؤلات قوية حول أسباب الترخيص لنشاط تجاري أو سياحي دون الرجوع إلى إدارة الأملاك البحرية للتحقق من الوضعية القانونية لعقود الكراء، في خرق مباشر للمساطر الواجب اعتمادها في مثل هذه الحالات، وهو ما قد يكشف وجود تواطؤات أو تغاض غير مبرر.
غير أن الفضيحة الأكبر، والتي أثارت دهشة أعضاء اللجان، تتعلق بمنتجع شاطئي ضخم راكم متأخرات ضريبية واجتماعية قدرت بحوالي تسعين مليون درهم، ورغم ذلك تم منحه ترخيصا جديدا بعد تغيير الاسم التجاري للمؤسسة، في خطوة بدت وكأنها محاولة مكشوفة للتهرب من الأداء. وقد اعتبرت الاستفسارات الرسمية أن هذا الترخيص لا يمكن تفسيره إلا بكونه تسهيلا لمصلحة المستثمر على حساب القانون وعلى حساب المال العام.
ولا يقف الأمر عند حدود تراخيص الشريط الساحلي، فالتقارير الأولية تشير إلى وجود استفسارات أخرى شملت منشآت متعددة في مجالات مختلفة، تتعلق بطريقة تجديد عقود الاستغلال، وغياب آليات واضحة للمراقبة، والتأخر في تحصيل المداخيل، ووجود تفاوت كبير بين قيمة الاستغلال الحقيقية والقيمة المؤداة فعليا. وتضيف مصادر الجريدة أن بعض الملفات التي فُتحت مؤخراً ظلت لسنوات طويلة خارج دائرة التدقيق، وهو ما يفسر حجم الاختلالات التي بدأت تتكشف تدريجيا.
وتؤكد مصادر متطابقة أن هذه الحملة المكثفة من التدقيق جاءت في سياق الإعداد لمشروع إعادة تهيئة شامل لكورنيش عين الذئاب، مشروع من المتوقع أن يعيد النظر في طريقة استغلال الملك العمومي البحري برمته، بما في ذلك استرجاع أجزاء كبيرة من الساحل من يد المستغلين الحاليين، وهدم عدد من المنشآت التي تحولت إلى حواجز إسمنتية تحجب البحر عن المواطنين، رغم أنها تحقق أرباحا ضخمة مقابل خدمات بأسعار مرتفعة لا تعكس أي منطق اقتصادي سليم ولا تراعي البعد الاجتماعي للفضاء الساحلي.
لجان تفتيش من الداخلية والمجلس الأعلى تحل بالدار البيضاء للتحقيق في التراخيص وفي تدبير شواطئ المدينة
الكاتب : العربي رياض
بتاريخ : 21/11/2025