لزاكورة واحات وإني راحل.. غاضب لمليون شجرة موؤودة في الرمال!

في‭ ‬كلمة‭ ‬المكتب‭ ‬السياسي،‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬الكاتب‭ ‬الأول،‭ ‬كانت‭ ‬الرسالة‭ ‬واضحة‭ ‬بضرورة‭ ‬دمج‭ ‬زاكورة،‭ ‬التاريخ‭ ‬والتراب،‭ ‬في‭ ‬مجالها‭ ‬الصحراوي،‭ ‬وأن‭ ‬تشملها‭ ‬تدابير‭ ‬تأهيل‭ ‬الأقاليم‭ ‬الجنوبية‮.‬‭ ‬وحضرت فيها‭ ‬بالفعل‭ ‬التضحيات‭ ‬والمساهمات‭ ‬بالدم‭ ‬والروح‭ ‬في‭ ‬تحصين‭ ‬المغرب،‭ ‬عبر‭ ‬التاريخين‭ ‬الحديث‭ ‬والقديم‮.

 

أول ما فتحت زاكورة نفسها لي، كان ذلك بالذكرى: المدينة التي زرتها لأجل موعد سياسي، كانت قد زارتني أول مرة أرضا لسردية عاطفية، كانت أول الطريق إلى الرومانسية، ومن الأراضي الأولى التي سالت فيها مياه الحب ربما. كما ارتبطت في ذهني بالعديد من الأسماء البسيطة والأخوية، كالفقيه الصحراوي الذي كان »يشارط« في قريتنا . والصديق عزيز بائع التمور، الذي تعرفت عليه من بعد عقود ..زاكورة هاته، زرتها من بعد في العشرية الأولى من الألفية الثالثة في سياق محطة جماهيرية. لعلها سنة 2010. وقتها كانت البلاد على أهبة ربيعها الفبرايري والعالم يتحسس قلبه، يسارا !
لكن زاكورة في نهاية أول أسبوع من مايو، كانت على مشارف صيف متردد. وكانت قد تغيرت عن نفسها، تدحرجت بعيدا عن منابع الواحات، نحو فضاءات أكثر حداثة، لكنها زاكورة التي لم تفقد روحها، وسحنتها، وملامحها المتداخلة الأعراق والبسمات.
في الطريق من المطار إلى المدينة، كان الحزام الأخضر يمتد محتشما، في أول خطواته. هنا تغامر 120 ألف شجرة بالحياة،. وتحسب حظها ما بين حرارة صيفية قاطعة وجفاف مستدام، على مساحة تقارب 300 هكتار. ويقول مرافقنا، إن المشروع يتوقف على إعادة استعمال مياه عادمة والطاقة الشمسية الموجودة بغرفة كبيرة . وتقول الأرقام إنه تطلب مبالغ ناهزت 46 مليون درهم.
لا شك أن زاكورة ستتغير وتغير نظرة الزوار وأهل المكان إليها بعد أن تتسامق الأشجار المغروسة/..
وتكتمل الطفرة بوقف زحف الرمال، التي تحملها الرياح الصحراوية القوية. في الأشجار أنواع غنية تقاوم بدورها، وتنتظر أن تصير السور الأخضر في وجه الغبار المتطاير .
قبل الربيع المرتقب كان الحزام قد وهب المدينة جائزتها الأولى وهديتها البكر: جائزة الحسن الثاني للبيئة سنة 2021.
المشروع يشكل مفخرة عبد الرحيم شهيد، الذي كان وقت إطلاقه رئيس المجلس الإقليمي لزاكورة، الإقليم. إضافة إلى كورنيش على واد درعة الجاف في هذا الموسم..
تغيرت ملامح المدينة، وزاد من تغيرها موسم الجفاف، وامتدت أشجار النخيل صفراء، وبعضها صار غثاء أحْوى وقد شاب خضرتَه سوادٌ..وهو ما سنشاهده مرارا وتكرارا. ويتقوى عند زيارة واحة رنتاتة على أطراف المدينة رفقة الأخت رجاء ميسو العارفة بشعاب الواحات وبمفازات الناس وأرواحهم. أخبرتنا عن العديد من المشاريع التي وقفت عليها تجربة الاتحاد في شخص آل شهيد. إشارة لها حضور قوي في المجتمع المدني، تتوزعها مبادئ جمعوية ومدنية، ذات انحياز واضح إلى قيم الديموقراطية الاشتراكية. تتوسط العقد الأخت مجيدة النشيطة، القوة الهادئة ..
كان الموعد يوم السبت 4 ماي مساء، مع المؤتمر الإقليمي الرابع لإقليم زاكورة، ولم يكن الشعار المنتقى له اعتباطيا في الدفاع عن العدالة المجالية باعتبارها مدخلا للتنمية المنصفة.
فقد كان تعبيرا حقيقيا عن مزاج جماهيري وعن حالة ذهنية للناس، يعيشون بها طوال السنة. في القاعة التي احتضنت المؤتمر عشرات المؤتمرين، ما يلفت الانتباه في حضورهم ألبستهم المتنوعة، التي يعيشون بها مناسباتهم الاحتفالية. هكذا فهمت شخصيا من حديث الإخوان والأخوات المنظمات، جاؤوا لحفل فيه السياسي والمجالي والإنساني. ولعل الترجمة التي أرادها المناضلون في القيادات المحلية والجهوية والإقليمية هي الأهازيج التي استقبلوا بها الحضور، وتخللت كل فقرات المؤتمر.
كانت هناك مفاجآت سارة عديدة ، ولعل المفاجأة الأكثر سرورا هي أن تكون أخت مناضلة هي التي تتولى القيادة الجهوية للتنظيم النقابي. ما لم يحصل في مناطق الحداثة في الوطن وفي التنظيم وفي الهيئة!
وكانت مناسبة مفرحة وجود تلاحم بين منتخبين ومنتخبات بالخصوص، وبين مسانديهم في الدوائر الانتخابية.
وحضرت الثقافة كلها، كما حضرت الأهزوجات كلها، وهي تنبع من أعماق لا تزيف أحاسيسها بفعل مبررات سياسية أو تنظيمية تحرِّم الأجواء الاحتفالية.
في كلمة المكتب السياسي، التي ألقاها الكاتب الأول، كانت الرسالة واضحة بضرورة دمج زاكورة، التاريخ والتراب، في مجالها الصحراوي، وأن تشملها تدابير تأهيل الأقاليم الجنوبية. وحضرت فيها بالفعل التضحيات والمساهمات بالدم والروح في تحصين المغرب، عبر التاريخين الحديث والقديم.
من المنصف، فعلا، أن ينصف الحاضر… التاريخ، وأن يتخذ الاعتزاز به، صورة برنامج اقتصادي!

الواحات

تحضر الواحات في الحديث وفي الصمت، كذلك،. ومن دون زاكورة جنتان:تنزولين ورنتاتة!
قادتنا إليها الأخت رجاء، ولما وصلنا لم نكن في حاجة إلى الكلمات لنصف ما نرى وكيف تتساقط الخضرة عن النخيل وكيف تتقزم الباسقات من الشجر وكيف تعلوها صفرة وسواد..كان الزمن غير ذلك تاريخيا: واحات إن أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ….فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ.
تراجع الوابل وقل .. الطل! والناس في حيرة من أمر واحاتهم، في وقت اشتهرت المنطقة بالدلاح الذي يهرب في فواكهه الماء. في ثنايا الماء والواحة تكون زاكورة السياسة والمجال والتراب، ولعل الذين ينتبهون، يذكرون بأن زاكورة كانت هي الحاضنة الأولى للغضب بسبب الماء، وكانت زاكورة قد خرجت غاضبة بفعل العطش، وسار البشر وسار خلفه النخيل من بعيد، احتجاجا على الحرمان من الماء، في وقت كانت زراعات بعينها تشرب مياه المنطقة القليلة.
حدثنا أحمد شهيد، الذي يتابع الملف من منصات عديدة، عن مشاريع زراعة مليون شجرة، والتي كانت موضوع نقاش عمومي.
ما زال المسؤولون يزرعون أشجارا.. يعرفون أنها ستموت وأن شريانها سيجف وأنها ستصفر وتسود وتذهب هباء.
لكنهم يتعللون : أمرنا بأن نزرع مليون شجرة.
ولعل الحكيم هو من خاطب المسؤولين عن هذا العناد المثير للسخرية بقوله:جلالة الملك أمركم بزرع مليون شجرة، وليس بقتلها في تراب بلا ماء!
إنهم يئدون الشجر/ الفسيلة. في التراب الجاف باسم الامتثال لإرادة ملكية، وهي بريئة براءة النخيل من قراراتهم.
غارت المياه، حتى أصبح البئر يتطلب حفر قرابة 30 مترا عوض الأمتار الأربعة أو الخمسة سابقا. وشحت قنوات الري التقليدية. فكان أن تحولت مساحات الواحات إلى كثبان، وتراجع إنتاج التمور، وتحول سرير وادي درعة إلى سرير حجري، حل الصفير الحاد للرياح محل خريره الجذلان!
ليس لي أن ألخص أنين الواحات، فالناس يعرفون أكثر من أي زائر، مسؤولا كان أو مناضلا، ما تهمس به الواحات ليلا وفي عز الظهيرة عندما تنشق السماء عن شمس حارقة. وليس لي أن أقول غير ما يقوله ناس الواحات عن التهميش، .. ولكن لي أن أسأل: لماذا غابت كلمة الواحات ومشاكلها غيابا تاما في حصيلة رئيس الحكومة، التي قدمها أمام البرلمان، في تزامن مع وصولنا إلى المدينة؟
رئيس الحكومة قال إنه فعل في نصف الولاية ما لم يفعله آخرون في ولاية كاملة. يبدو أنه على حق، لقد أخرج من دماغه الواحات بكاملها!!!
نغادر المدينة صباح الأحد…تمر الأشجار أمام أنظارنا ونحن نقتفي نفس الطريق. ربما، من هنا مرت قافلة إلى مالي، ولربما من هنا سارت الجمال تضرب في الرمال نحو تشاد. لم تعد من ذكرى سوى ما علق بالأصوات من شجن في أغاني الليل، التي ما زال صداها في الأعماق..في منتجعات ليلية في الكثبان.. الذين ينامون هنا، لا بد أن يروا في منامهم قوافل واضحة الصورة، الذين ينامون هناك، لا بد أنهم سيسمعون أصوات التجار والرحالة والمنشدين. تركوا أصواتهم على الرمال.. نجمعها من آلات موسيقية ..
وحدها زاكورة تمنحك قطعة من ليلها لترافقك صباح يوم الأحد. من بعيد معمار قصورها وقصباتها وأبراجها تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد!


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 29/05/2024