يظهر استخدام مفهوم العائق الإستمولوج ي في حقل العلوم التجريبية والرياضية مألوفذا، فقد بيّن باشلار في دراسته لتطور المعرفة العلمية، وخاصة الثورة العلمية المعاصرة في مجال الميكروفيزياء والرياضيات اللاإقليدية، أن ذلك ما كان يمكن ليحصل دون تجاوز العوائق الإبستمولوجية، هذه العوائق التي عملت المعرفة اللاعلمية على غرسها في بنية الوعي، بما في ذلك الحس المشترك، الملاحظة المباشرة، البداهة، اليقين، التطبيق العملي (…) في حين أن المعرفة العلمية المعاصرة تقوم على مبادئ وأسس جديدة مناقضة تماما لما سبقها.لقد أصبحت المعرفة تقوم على منهج البناء العقلي للحوادث بالإنطلاق من الفرضي إلى التجريبي.
إن الإقرار بوجود محاكم التفتيش التي تمارس رقابة مستمرة على الأفكار يتناقض مع أطروحات كثيرة من المفكرين الذين ينفون وجودها. مثل محمد عبده ورشيد رضا، بحجة أن الإسلام لم يعرف الكهنوت أو الرئاسة الروحية بتعبير رشيد رضا. بحيث لا يحق لأي أحد من الناس حتى الرسل منهم محاسبة الغير، ولا الإكراه والإجبار، ولا المحاسبة على القلوب أو الأفكار، ولا مغفرة الذنوب والأوزار، ولا الحرمان من الجنة وإدخال النار، بل ذلك كله لله الواحد القهار. وهذا ما يميز الخلافة عن «البابوية» أو الرئاسة الروحية. وبالعودة إلى الإحصائيات التي قدمها محمد عبده حول الأحكام الصادرة عن محاكم التفتيش، وبالمقارنة مع أحكام التكفير الصادرة في حق المفكرين. فالملاحظ أن هناك فرقا في كثرة المحاكمات في الغرب وقلتها في العالم العربي الإسلامي، وظاهرة التكفير تكاد تنحصر في المشرق فقط. ويرجع ذلك في نظر مصطفى المنساوي إلى وجود وحدة مذهبية في المغرب وعدم وجودها في المشرق قائلا: «لم يعرف المغرب في تاريخه الحديث عمليات «تكفي» مماثله لتلك التي شهدتها بعض بلدان المشرق العربي خلال هذا القرن، وخاصة منها مصر ولبنان، يعود هذا الأمر، من بين ما يعود إليه، إلى الوحدة المذهبية (كل المغاربة مسلمون سنيون، لا يتوزعون بين الديانات والطوائف)، وإلى طغيان الصراع السياسي على الصراع الثقافي وحلوله محله في غالب الأحيان…». وهذا ما يوضح أنه من بين الآثار السلبية للتكفير جعل المحكوم عليه يصدر أحكاما مبالغا فيها. وعنوان كتاب أبو زيد: «التفكير زمن التكفير»، يدل على ذلك، فقد جعل التكفير ظاهرة عامة، والتفكير ظاهرة خاصة ومحدودة، وبذلك غلب التكفير على التفكير. وحكمه على خطابات التيارات الإسلامية بنفس الحكم ووضعها كلها في خانة واحدة، لا فرق بين المتطرق منها والمعتدل حكم غير صائب. لأنه لا يمكن للتكفير أن يكون مشتركا بين كل الإتجاهات الإسلامية. فمحمد عبده الذي يمثل التيار المعتدل كان له موقف رافض للتكفير. فإن كان هناك خطاب يحتمل الكفر بنسبة تسعة وتسعين بالمائة ويحتمل الإيمان بنسبة واحد بالمائة فلا بد من اعتباره خطاب إيمان لا خطاب كفر. فهناك إذا تعقيد واضح في تركيبة «اليمين الديني» كما يستعرض ذلك حسن حنفي : « والحقيقة أن اليمين الديني أكثر تعقيدا، فهناك خطاب المؤسسة الدينية الرسمي الممثل في الأزهر( الطنطاوي)، وهناك خطاب الدولة الرسمي الممثل في أجهزة الإعلام (الشعراوي). وهناك الخطاب الإسلامي الذي يضم بدوره عدة تيارات مختلفة يجمعها جامع ولكن تتمايز فيها الأصوات، ويقترب البعض منها وهو الإسلامي المستنير (كمال أبو المجد، طارق البشري، فهي هويدي) إلى اليسار الإسلامي بينما يقترب البعض الآخر(محمد الغزالي، محمد عمارة) إلى اليمين الديني». وأبو زيد يضع اليمين الديني بكل تفرعاته (خطاب الدولة الرسمي، خطاب المعارضة الدينية، الإسلام المستنير، التيار العلماني الديني، الإسلام المستنير العلمي) في الطرف المناقض لليسار العلماني الذي يمثله هو نفسه.
من الآثار السلبية لعائق التكفير أن أبو زيد أصبح يمارس على خصومه نوعا من العنف. فهو أحيانا ومن خلال بعض المصطلحات يصفهم بالأصولية والسلفية والرجعية الظلامية… يمارس هكذا بدوره إقصاء لخصومه من الساحة الفكرية، معتقدا أن مثل هذه المفاهيم ستبعد القارئ عن تلك الأفكار. كقوله مثلا: ومن هنا تكون الدعوة إلى «التحرر من سلطة النصوص» هي في حقيقتها دعوة إلى التحرر من السلطة المطلقة والمرجعية الشاملة للفكر الذي يمارس القمع والهيمنة والسيطرة حين يضفي على النصوص دلالات ومعاني خارج الزمان والمكان والظروف والملابسات». ويصف كذلك خصومه بالخداع والتزوير والتضليل يقول: «هذا الإقصاء للعلمانية والعلمانيين من حيز «الوطن» و«الوطنية» يعتمد أيضا على آلية الخداع والتزوير والتضليل، التي توحد بين «العلمانية» و«الكفر» ولا ترى فيها إلا معاداة الأديان». بالإضافة إلى أن مفهوم السلفية الذي يصف به أبو زيد خصومه ليس دقيقا. فطه عبد الرحمان يعتبر أن هذا المفهوم لا يصدق فقط على الاتجاه الإسلامي بل حتى على الاتجاه التنويري يقول: «فليست الطريقة التي يفكر بها السلفي بمختلفة عن الطريقة التي يفكر بها هذا المدعي، فالفكر أيا كان ولأي كان وفي أي مجال كان،يعتمد دائما وأبدا نماذج «سالفة يرجع إليها في تحصيل المعرفة وتبليغها». فالتنويري في رجوعه إلى نموذج تراثي غربي يتصور العقلانية كما يتصورها أسلاف الغرب في القرن السابع عشر. وتظهر سلفية أبو زيد بالخصوص في رؤيته القريبة من المادية التاريخية في أصولها الماركسية، والتي تعطي الأسبقية للواقع على ما هو ميتافيزيقي أو روحي. مما أدى بأبو زيد إلى القول بأسبقية الشروط التاريخية وتأثيرها على النص الديني وتشكله. وحتى الفعل الإلهي حسبه يجري على سنن التاريخ وقوانينه. وبذلك يقع في تقديس التاريخ بل تأليهه، كما لو كان سيدا عظيما يقبض على كل شيء.
بالنسبة لأركون فيرى أبو زيد أن هذا الأخير قدم بعض الترضيات للحفاظ على موقعه الشرعي داخل الثقافة. من أجل ذلك يقوم بقراءة في فكر محمد أركون، يصل فيها إلى أنه يسعى من خلال أعماله إلى تجاوز الاستخدام الإيديولوجي للدين في الخطاب الإسلامي. وفي نفس الوقت يهدف كذلك إلى تجاوز الخطاب الاستشراقي الذي يدعي الحياد والموضوعية في تعامله مع ظاهرة الدينية. وأركون ليس منحازا إلى الخطاب الإسلامي، ولكن يشعر بنوع من التضامن مع الإسلام. وهذا ما يجعله يلتزم التفكير الحر، ويستخدم أفضل طرق الاجتهاد في التعامل مع الخطاب الإسلامي.
وحسب أبو زيد فإن أركون متردد في مشروعه بين الحفاظ على «التيولوجيا»، وبين التخلص منها من أجل تأسيس وعي علمي بالتراث. بحجة أن المنهجية العلمية المعاصرة لا تقيم تناقضا بين العقلي والأسطوري. يقول أبو زيد: «.. إن وضع التاريخية في قلب المجتمعات الإسلامية، تم تتبع مصدر الدين من حيث هو أحد مكونات تلك التاريخية،لا يعني- فيما يرى أركون «أنه ينبغي أن نهجر… مفهوم كلام لله الموحى به في القرآن». وهذا عكس ما كان حاصلا في عقلانية النهضة الأوروبية. ويتوجه أركون لنقد التراث لإظهار التعددية الموجودة فيه. عكس النظرة «الأرثودكسية» التي تدمج التاريخي والإجتماعي في المقدس، مظهرة التراث بمظهر الوحدة. وأخيرا يقوم أركون بتطبيق القراءة التزامنية على الوحي لجعله معاصرا لقارئه. عكس القراءة «الإسقاطية»، أي قراءة العجيب المدهش كما كان يتلقاه المسلم في اللحظات الأولى لهبوط الوحي. وعموما يهدف أركون إلى إقامة تعايش بين الخطابات الدينية الثلاثة (الإسلام، المسيحية، اليهودية) وبين الخطاب العلمي والخطاب الإسلامي المسيطر. ويعتبر أبو زيد أن فكرة التعايش وخاصة بين الخطاب العلمي والخطاب الإسلامي المسيطر ليست إلا محاولة لإرضاء الخطاب الإسلامي المسيطر. وخاصة وأن أبو زيد يقيم علاقة صراعية بينهما محاولا المحافظة على الأول وإقصاء الثاني مركزا على العقل. يقول: «والأصل والبدء هو سلطة العقل، السلطة التي يتأسس عليها الوحي ذاته، العقل لا بما هو آلية صورية جدلية، بل بما هو فعالية اجتماعية تاريخية متحركة. هذه السلطة قابلة للخطأ، لكنها بنفس الدرجة قادرة على تصويب أخطائها، والأهم من ذلك أنها وسيلتنا الوحيدة للفهم. فهم العالم والواقع وأنفسنا والنصوص». هكذا يقصي أبو زيد العرفان والتصوف. ويقيم النصوص على دعامة العقل ودعامة الواقع والتاريخ.