مؤرخ ومهندسة معمارية يسبران أغوار المبنى السجني بالمغرب

صدر مؤخرا عن المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، ضمن منشورات (Bouillon de culture) في حوالي 243 صفحة من القطع الكبير والمعزز بعدة صور فوتوغرافية ونماذج من الوثائق التاريخية كتاب «المبنى السجني: الفاضاءات والهندسة المعمارية» لصاحبيه المؤرخ المغربي جيلالي العدناني، والمهندسة المعمارية سليمة المنجرة ويندرج هذا المؤلف الفريد ضمن سلسلة ترمي إلى التعريف بالشأن السجني في أبعاده السياسية والاجتماعية، ، وهو كتاب خصص لعالم السجون بالمغرب، تناولا فيه تيمة المبنى المعماري السجني. وتبرز الأهمية الأكاديمية لهذا الكتاب في كونه تطرق لموضوع قلما كتب حوله، بسبب ندرة الشهادات التاريخية، وشبه انعدام الدراسات الأكاديمية، اللهم إذا اسثتنينا ما ورد من إشارات متفرقة في مصادر تاريخية لم يكن موضوعها الرئيسي هو السجن. ولعل اعتماد المؤرخ الجيلالي العدناني على وثائق الأرشيفات الأجنبية وبخاصة محفوظات أرشيف الخارجية الفرنسية بنانط(CADN) والأرشيف الوطني ما وراء البحار بإيكس- آن- بروفانس قد مكنا الباحث جيلالي العدناني، وهو أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية أكدال الرباط ورئيس وحدة التكوين في الدكتوراه الزمن الراهن، من السبق في اسثتمار هذه الوثائق الأصيلة في الموضوع بشكل جامع مانع ؛وهي الوثائق التي تجمع عن مسألة مادية الاعتقال في تاريخ المملكة المغربية.
لقد انطلق الباحثان من إشكالية مفادها؛ أن أماكن الاعتقال تمثل فوائد جمة للبحث الأكاديمي الجاد، وذلك من خلال كشف النقاب عن اللامفكر في تدوينه حول السجون المغربية. فالمبنى السجني ثابت عبر تاريخ الأسر الحاكمة، لكن القضايا الاجتماعية والسياسية للسجن والسجناء ظلت تعتريها بياضات.
إن الكتاب موضوع التعريف يسلط الضوء على القضايا السياسية، والاجتماعية لظاهرة الاعتقال؛ أي أنه محاولة جادة لإزالة اللبس وتنوير القارئ الذي ظل يرى في المصادر، والكتابات التي تناولت هذا الموضوع ارتساما أجوف حول السياسي، والاجتماعي في ظاهرة الاعتقال بالمغرب. فضبط أسباب الجريمة وعدم البث فيها، وعدم الوقوف عند وضعية الجناة يجعل هؤلاء خارج الحياة الاجتماعية وهم في وضعية اعتقال. وهو مايروم الكتاب الوقوف عنده حتى لا تظل مراكز الاعتقال ولزمن طويل مكانا للنسيان.
استهل الباحثان عملهما الرصين بالوقوف عند وضعية ممارسة الاعتقال بالمغرب وسبر أغوار جذوره التاريخية بالتطرق إلى الأماكن المخصصة لهذا الاعتقال التي ظلت موجودة تحت الأرض، وهي خاصية مميزة لجميع سجون العالم. واستمرت لعدة قرون. وقد رصد الباحثان مظاهر الاعتقال والحياة اليومية للسجناء؛ حيث كانوا يقيدون بالسلالسل في ظروف قاتمة إذ يغيب الضوء وتنعدم صيانة المباني السجنية. وقد تعددت أماكن الاعتقال حسب الباحثين؛ فتارة تشمل مخازن الحبوب، وتارة فضاءات أخرى للتخزين تم تحويلها الى أماكن اعتقال كما توصل الباحثان إلى غياب الرونق المعماري الذي يميز السجون عن باقي العمارات الأخرى؛ مثل الحمامات، والمساجد التي تجسد المعيش اليومي لدى الساكنة.
يعتبر القرن التاسع عشر الميلادي حسب الباحثين الحقبة التي عرف فيها المبنى السجني تحولا عمرانيا. هذا الأخير سوف يتطور مع الحماية الفرنسية؛ إذ وضعت إطارا تشريعيا ومرجعيا أسهم في تفعيل النظام السجني الاستعماري من خلال بناء مؤسسات سجنية جديدة وترميم أماكن الاحتجاز القديمة.
وبعد حصول المغرب على استقلاله بدأ تطور البناءات السجنية التي ستعرف نموا كبيرا. وفي عهد الملك محمد السادس ستأخذ ظروف الاعتقال طابعها الإنساني الذي تؤطره مفاهيم من قبيل الكرامة وحقوق الإنسان، ودولة الحق والقانون، والمفهوم الجديد للسلطة، وربط المسؤولية بالمحاسبة ولعل الشكل المعماري الذي أصبح يميز سجون المملكة ليعكس صراحة التطور البارز في تاريخ أماكن الاحتجاز بالمغرب. فقد أصبح هم الدولة والمندوبية المشرفة على سجون المملكة هو الاهتمام بالنزلاء وتأهيليهم وإعادة إدماجهم. وهي الوظيفة التي ظلت مغيبة في تاريخ السجون والسجناء.
وبعد سبرهما لأغوار المبنى السجني بالمغرب، وتحديد خصوصياته المعمارية وأدواره الاجتماعية الباهتة ينتقل الباحثان إلى الوقوف عند خصوصياته خلال المرحلة الراهنة باعتباره مكانا يتوفر على نظام محكم يحُول دون الهرب أو محاولة ذلك، وبالتالي فالنظام السجني الحالي يجمع بين العمل العقابي وتطور المقاربة المعمارية.
إن الثورة التكنولوجية حسب الباحثين ألهمتهما التفكير في حدود لا يمكن اختراقها من طرف المعتقل دون اللجوء إلى القضبان الحديدية التي تؤدي نفس الدور. ولكن لا تسمح بممارسة نفس الوظائف وهي إعادة إدماج السجين على أساس تحمل المسؤولية. إن أطلال السجون التي غالبا ما توجد في وسط أحياء المملكة يمكن التفكير في إعادة تأهيلها باعتبارها جزء لا يتجزأ من الذاكرة الشعبية الجماعية دون الخلط بين إرث الماضي وسجون الغذ، وهذه مهمة المهندس المعماري الذي يجب أن يرى في السجن فضاء للاستلهام والدمج المشترك بين هذين الزمكانين .ففي ظرف عشرين سنة أصبح مكان الاعتقال مهيئا ومحدثا بشكل يستجيب للمعايير الدولية فعلى الأقل إن هذه الأمكنة تحاكي إلى حد ما أشكال المعمار المتعارف عليه بالشكل الذي يصون كرامة الإنسان.
أما فيما يخص الجزء الثاني من الكتاب فإنه يجعل القارئ يحل محل المهندس المعماري الذي أوكلت إليه مهمة بناء السجن تصميما وبناء؛ فإلى جانب التصميم التقني والمواصفات التي تقدمها المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج للمهندس المعماري فإن هذا الأخير لا يغفل جانبا ظل منسيا لعقود؛ يتعلق الأمر بإنجاز هندسة معمارية تأخذ بعين الاعتبار الجوانب النفسية للمعتقل والموظف والزوار بشكل يستجيب لمشروع الحياة حسب تعبير الباحثين، فالفضاء السجني يجب أن يساهم في العقوبة مما يطرح أمام المهندس مهام جسيمة أي كيف يمكن تصميم بناء سجني بمعايير عمرانية تجمع بين كون المكان خصص لقضاء عقوبة سجنية تحرم السجين من الحرية، وتجعله ينخرط في حياة جماعية قسرية خاضعة للمراقبة والانضباط المفروض وبناية تجعله يحس بأنه مستعد للتأهيل والادماج بعد مغادرة أسوار السجن. ولابد من التذكير أن الكتاب المقدم يأتي في إطار سلسلة من الكتب التي تهم المسألة السجنية بالمملكة المغربية وهو بالتالي إضافة نوعية تكمل الإصدارات السابقة لهذه المندوبية من قبيل ؛»الفنون من داخل السجون»، «صناع مصير مغاير»، «الكرامة» وكلها كتب ترمي إلى حفظ كرامة السجين الذي واكب التغيير في المنظومة السجنية خلال العقدين الاخيرين .

أستاذ باحث في التاريخ المعاصر