الاكتظاظ ، شيخوخة الموارد البشرية ، انقطاع اعداد كبيرة من الطلبة عن الدراسة ، فوضى في القواعد والقوانين
يعتبر التعليم حق وجب أن يتمتع به كل مواطنة ومواطن بجانب الحقوق الأخرى كالصحة والسكن وكما ينص عليه الدستور 2011 في الفصل 31، حيث «تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في : […] الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة»، وتعد الجامعة ذات الاستقطاب المفتوح فضاء للمعرفة والتعلم مما يخولها أن تلعب دور الضامنة لهذا الحق، حيث يمكن لكل شخص كيف ما كان جنسه أو دينه أو سنه ويرغب في استكمال دراسته، الولوج إليها، شريطة أن يكون حاملا لديبلوم الباكلوريا، بطبيعة الحال، وله الحرية في اختيار المسلك الذي يتناسب مع كفاءته وميوله المعرفي.
وفي الآونة الأخيرة، بدأنا نلاحظ صعوبة تحقيق ذلك، حيث أغلقت الجامعة أبوابها أمام الطلبة، تحت ذرائع منها العدد الكبير من الوافدين عليها، رغم أن هذا ناتج عن قلة الأقسام والموارد البشرية الموفرة بحيث اضطرت بعض الجامعات إلى فرض شروط غير منطقية للولوج إليها.
و شرعت بعض الجامعات إلى تصنيف الطلبة، من الطالب العادي إلى الطالب الذي يشتغل في قطاع عام أو خاص، ومن الطالب الحامل لدبلوم باكلوريا قديمة إلى الطالب الحاصل على باكلوريا حديثة. حيث اقتصرت المِؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح خاصة على هذا الصنف الأخير وتم إقصاء العديد من الطلبة الآخرين، مما جعل دور الجامعة الحقيقي يتلاشى بسبب اللجوء إلى الحلول «الترقيعية» لمواجهة ظاهرة الإكتظاظ في غياب إستراتيجية فعالة متوسطة وبعيدة المدى.
في مطلع هذه الدراسة يتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية: كم هو عدد المؤسسات الجامعية التي تتوفر عليها كل جهة في بلادنا ؟ وكم عدد الأساتذة المتواجدون بها ؟ وكم عدد الطلبة المسجلون حاليا و أولئك الذين سيتوافدون عليها مستقبلا ؟
فبخصوص الموارد البشرية لقد تقدمت بعض الجامعات بتقارير تدق ناقوس الخطر بسبب شيخوخة مواردها البشرية و أكدت على ضرورة خلق مناصب جديدة للشغل في صفوف الأساتذة، بحيث أن هذه المناصب التي أعلن عن خلقها تبقي مع الأسف غير كافية، ثم أنها في الغالب، مما يزيد طين بلة، مناصب تحويلية (أي أنها تحول الموظفين من شتى القطاعات الوزارية إلى قطاع التعليم العالي) وأغلقت الأبواب في وجه أغلبية الشباب الحامل لشواهد الدكتوراه في مختلف التخصصات والذي ينتظر فرصته للعمل.
وأما في ما يتعلق بمسألة عدد المؤسسات الجامعية في كل جهة، فهي تعتبر مشكلا أساسيا لا يمكن إغفاله. بحيث أن المساحة الجغرافية التي تتوزع فيها المؤسسات، لا تستجيب للطلب، ويبقى إمكانات خلق مؤسسات جامعية جديدة ضعيفة، في حين تعرف بلادنا نموا ديمغرافيا مهما، وتحولات اجتماعية سريعة، كما تؤكدها معطيات الإحصاء العام للسكنى والسكان لسنة 2014 والتي جاءت بها المندوبية السامية للتخطيط.
وربما تعود عدم الالتفات إلى تشييد مؤسسات جامعية جديدة في المدن التي تعرف خصاصا كبيرا، إلى المنظور الضيق للجامعة لدى الحكومات المتعاقبة و الذي يتجلى في اعتقادهما أن هذه الجامعة تخص فقط الطلبة الحاملين للباكلوريا الحديثة، أي الشباب الذي تتراوح أعماره غالبا بين 17 و 18 سنة ، من جهة، وتقييدها بسوق الشغل، من جهة أخرى. فوجب على الطالب أن يدرس ليحصل على شهادة قصد العمل فقط وكأن الجامعة هي بمثابة شركة، لابد لها أن تصنع منتوجا لكسب الربح وفي أسرع وقت ممكن. ويبقى طلب المعرفة من أجل تنمية الذات وتحسين المستوى الثقافي عند الشخص غائبا، لأنه ليس مربحا. وبهذا المفهوم الربحي الضيق وجدنا أنفسنا ننخرط في عملية نسف دور الجامعة في خدمة تنمية المجتمع، فأصبحنا نتحدث بطريقة سلبية عن الجامعة على أنها تنتج البطالة، وأن التكوينات لا تتلائم مع سوق الشغل. وبذلك نوهم الآخر بأنها هي المسؤولة بالفعل على الواقع المر الذي يعانيه الشباب بسبب عدم خلق فرص الشغل، وكأننا ننتظر منها أن تصنع الحدث، وهل تملك العصا السحرية ؟
إن عرقلة شريحة عريضة من المجتمع من اللجوء إلى الجامعة قصد استكمال دراستها، يعتبر تقصيرا في حقها وفي حق المجتمع ككل، ويمكن اعتباره أيضا من بين الأسباب التي تعرقل سبل النمو والتطور في البلاد حيث يؤدي إلى انتشار صنف آخر من الأمية والتي تتمثل في عدم امتلاك المعرفة الكافية للمشاركة في تطور المجتمع.
في حين أن الجامعة يجب أن تكون مجالا مفتوحا للتعلم، وكل من لجآ إليها فهو يعتبر طالبا للمعرفة والعلم، ولا يحق لأحد ربط الطالب ب»المقعد» أو بالشهادة الممنوحة بعد سنوات الكد والاجتهاد فقط. ذلك أن الطالب يمكن أن يكون موظفا مثلا وفي نفس الوقت أن يستفيد من تكوين جامعي لائق، وذلك بمتابعة دروسه عن بعد والبحث عن المعرفة بشتى الوسائل وفي فضاءات متنوعة، كالقسم والخزانة ومؤسسات أخرى. فكم من طبيب أو مهندس، أو تقني، أو مسؤول عن مصلحة ما التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية مثلا و أبدع في العلوم الإنسانية أو غيرها وأصبح كاتبا مرموقا، أو مسؤولا بارعا أو خبيرا دوليا. وفي هذا الإطار، يجب إيجاد مرونة في التدبير البيداغوجي الزمني لمختلف أصناف الطلبة حتى يتسنى لهم الحضور لمتابعة الدروس. كما يجب تهيئ المرافق اللازمة من مواصلات تسهل لهم الولوج إلى فضاء المعرفة. فكم من طالب لم يستطع اختيار المؤسسة التي تتماشى مع ميوله المعرفي وتخصصاته بحكم قلة أو غياب المواصلات أو مشكل البعد الجغرافي مما يجهض حلمه المعرفي. وكان من الممكن أن يصل إلى مرتبة مرموقة في المجتمع. كما يجب توفيرالأحياء الجامعية في بعض المدن، وإعادة النظر في مقاصف الطلبة.
وتعتبر هذه المشاكل في بعض الأحيان حاجزا تحول دون استمرارهم في الدراسة وخاصة أولئك الذين لديهم ظروف مادية ضعيفة.
و هناك مشكل حقيقي تعرفه الجامعة المغربية ألا وهو انقطاع أعداد كبيرة من الطلبة عن الدراسة بعد سنتين أو سنة بدون شهادة جامعية، وهذه المغادرة تحتاج إلى دراسة ميدانية لمعرفة الأسباب الحقيقية ، فلربما لا يجد هؤلاء الطلبة ضالتهم في هذا الفضاء الأكاديمي، لكن رغم ذلك كله يجب النظر إلى هذه الفئة بطريقة ايجابية، لأنها تعتبر قيمة مضافة بالنسبة للجامعة، ولا تحط من سمعتها كما يظن البعض. فرغم مغادرتها مبكرا لصفوف الدراسة فإن هذه الفئة قد حصلت على تكوين أكاديمي وحملت قيم وأفكار لقنها لهم أساتذة أجلاء، وأكيد أنها قد تأثرت على الأقل بمادة معينة أو أكثر، ورسخت في دهنها قيم، واكتسبت مهارات. وقد وظفتها في ما بعد، في حياتها اليومية أو العملية. وأستحضر هنا مثل العالم الأمريكي ستيف جوبس (Steve Jobs)، والذي صرح في خطابه، الذي ألاقاه بجامعة ستانفور (Stanford) بولاية كاليفورنيا لفائدة الطلبة، بمناسبة حفل التميز لسنة 2005، أن بعد التحاقه بجامعة ريد (Reed college)، قضى فيها سنة واحدة فقط، لأنه لا يميل إلى التكوين الأكاديمي (كان مولعا بالتكنولوجيا)، وكان لا يحضر إلا نادرا إلى الدروس التي تلقى في الجامعة، ماعدا مادة الخط (La calligraphie)، والتي كانت تجذبه بالفعل، وكان مواظبا عليها. وأكد ستيف جوبس على أنه عندما اكتسب مهارات في الكتابة، لم يستعملها في الحين، ولكن استعملها بعد عشر سنوات، حين اشتغل في ميدان التكنولوجيا. وقد وظفها في فن الخط الرقمي، عند اختراعه لأول كومبيوتر ماكنتوش (Macintosh). وهكذا كان المبدع الأول لخط واضح متنوع وجميل على مستوى الحروف والخطوط الرقمية. وفيما بعد، نقلت الفكرة وندوز (Windows) حسب قوله. وأكد العالم أنه لو لم يكن يحضر إلى مادة الخط، لما أبدع في فن الكتابة الرقمية ولما تمتعت آلة الكومبيوتر بشكل عام من انجاز كتابة مميزة.
وأحيانا إذا غادر الطالب الجامعة، هذا لا يعني أنه لا يهتم بها، ولكن لظروف ما، وقفت حاجزا للاستمرار في تكوينه، غادرها والحنين يهزه وضميره يؤنبه، ووعد نفسه بأنه سيرجع يوم ما للجلوس على الطاولة للاستماع إلى محضرات أساتذته، ومناقشتهم، أو الجلوس في الخزانة لتصفح والاطلاع على الكتب، و التحدث مع رفاقه في المؤسسة لتبادل الآراء والتجارب.
والتاريخ يشهد على أن عدة مسؤولين و شخصيات كبيرة تخرجت من الجامعة منهم أساتذة باحثون، فلاسفة، روائيون، لغويون، سياسيون …كمثال عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الكبيرخطيبي، المهدي المنجرة، طاهر بن جلون، محمد جسوس، فاطمة المرنيسي، رحمة بورقية، عبد الله ساعف، عبد القادرفاسي فهري، عبد الفتاح كيليطو، أحمد بوكوس…وغيرهم، تألق اسمهم وطنيا ودوليا. كما أن بعض الأشخاص قد يكون لهم تكوين ما، لكن بعد مزاولة مهنتهم، اكتشفوا أن لهم ميولات أكاديمية أخرى فمن حقهم الالتحاق بالجامعة لتطوير هذه الميولات أو المواهب، وكما هو الحال بالنسبة للأستاذ فؤاد العروي، الذي كان له تكوينا علميا لكنه عاد إلى الجامعة بعد ذلك ليستفيد من دراسات جامعية أدبية ليصبح بفضل ذلك مفكرا وكاتبا مرموقا على الصعيد الدولي. ولذا لا يمكن قمع ميولات الشخص لأن ذلك سينعكس سلبيا على حياته الشخصية والسوسيو مهنية و يشعر بالإحباط، لذلك يجب فتح مجال للتكوين والتكوين المستمر داخل الجامعات لكي نصنع جيلا يتحلى بالثقة في النفس وينخرط بطريقة فعلية في المشروع التنموي للبلاد.
وفي ما يخص الطلبة الذين يرغبون في تقديم ملفاتهم للتسجيل بالسلك الثالث، الماستر أو الدكتوراه، فهم أيضا يعانون من نفس المشكل وهو الإقصاء، وهذا ناتج أساسا عن قلة الأساتذة الذين يؤطرون الماسترات أو سلك الدكتوراه. مما يجرنا إلى طرح سؤال آخر يخص وضعية البحث العلمي في جامعتنا والسبل التي وجب اللجوء إليها لتحفيز الأساتذة للنهوض بهذا القطاع.
بالموازاة مع ذلك فالجامعة مطالبة بأن تلعب دورا مهما في ما يخص الدبلوماسية الموازية وذلك لتوطيد العلاقات الخارجية للمغرب وربط الجسور مع الخارج عبر تطوير عملية استقبال الطلبة الأجانب من دول العالم، على غرار ما تقوم به الدول المتقدمة، كفرنسا وانجلترا ودول أخرى. فالطلبة الذين يتواجدون في جامعتنا من الدول الإفريقية والأسيوية والدول العربية يبقى عددهم ضعيفا جدا. ولتطوير عملية استقبال الطلبة الأجانب يجب أن نحسن من مستوى الاستقبال و المصاحبة وتسهيل شروط الإقامة، و مساعدتهم على حل مشاكلهم، ليتمكنوا من الاندماج ومتابعة تكوينهم في أحسن الظروف. وتعتبر هذه الشريحة من الطلبة بمثابة سفراء لدولهم بالفعل في المغرب، لأنها هاجرت من أجل طلب العلم، لكن اندماجها في مجتمعنا، سيمكنها من التعرف على ثقافتنا ولغتنا وقيمنا، وستعمل إلى ابعد الحدود على نشرها في ما بعد في بلدانها، كما يمكنها أن تدافع مستقبلا عن قضيتنا الوطنية، ولا ننسى أنها ستحمل اسم الجامعة المغربية بدون انقطاع.
إلى جانب هذا المجهود يجب على السفارات المغربية أن تعطي أهمية للدبلوماسية الموازية من خلال الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعة في هذا الشأن في ما يخص الطلبة.
وعلى مستوى الشكل المعماري للجامعة، يجب الاهتمام بجمالية التصاميم، من حيث المباني والأقسام والمطاعم والخزانات وكذلك الحدائق. فما يستوقف المتتبع أن بعض الجامعات المغربية ليست سوى تراكما كميا من الأسوار والبنايات التي لا تجلب الناظر، في حين يملك المغرب أقدم وربما أول جامعة في العالم، والتي شيدتها فاطمة الفهرية سنة 859، والتي أعيد ترميمها فيما بعد. وتشتهر بتصميمها، الذي يدهش حقا الزائر ؛ في حين تتميز الجامعات الغربية بجمالية في البناء، وإذا تجولت فيها، تحسب نفسك أنك في احد المتاحف، حيث تجدب الناظر بأسوارها الشامخة وأبوابها الصامدة وبفضاءاتها المتنوعة والزاهية، تدفعك لتسأل عن علمائها وتتصفح كتبها وتجالس أساتذتها ولتبحث للتعرف عن ثقافة بلادها. فلا يمكن الاقتصار على استدعاء أي مهندس معماري لوضع تصميم للمبنى، لأن الجامعة ليست عمارة للسكن ولا إدارة لاستقبال الزبناء من أجل خدمة ما، ولكنها فضاء للمعرفة والتحاور، لدى وجب إشراك خبراء مختصون في شتى الميادين الإبداعية لوضع تصاميم خاصة تجمع بين الأصالة والحداثة، وخاصة أن بلدنا يزخر بثقافة عريقة كما يتجلى ذلك في الصناعة التقليدية.
نحن في هذا الزمن، في حاجة ماسة إلى نخب من مفكرين ومثقفين ومبدعين ولا يشك احد أن فضاء الجامعة هو الذي يساهم في صنع هذه النخب فكيف نتطلع إلى مستقبل مشرق بمنظور حداثي ومتطور في وقت أن الفضاء الجامعي لا يساير هذه التطلعات، وجل الذين لديهم رغبة في التعلم يوجدون على الهامش، في ظل فوضى عارمة على مستوى القواعد والقوانين التي تحكم الجامعة. وكيف يمكن أن ننجح في الحد من أفكار التطرف والتعصب ونشر قيم الانفتاح والتواصل في ظل تهميش وعزل فضاء الجامعة.
أستاذة جامعية*