مجموعة « اللعنة والكلمات الزرقاء» لعبد الرحيم مودن وإدريس الصغير تقارب الرؤية والنهج الإبداعي

« اللعنة والكلمات الزرقاء» أضمومة قصصية مشتركة لكاتبين ( عبد الرحيم مودن وإدريس الصغير) لا يمكن أن ننزع عنهما طابع الريادة والتأسيس لجنس قصصي ( قصة قصيرة) بما أضفياه عليه من تغيير وتحول في سيرورة أنتجا خلالها نصوصا متحت من واقع يزخر بحالات ومظاهر إنسانية واجتماعية، برؤية ترصد وقائع محيطهما مستجلية تناقضاته ومفارقاته، مجسدة ما تمور به راهنتيه من اختلالات وأعطاب ، راسمة حدود القادم المحفوف بتوقعات مدججة بزخم من هواجس وتوجسات أمام تضاعف حجم الآفات، وارتفاع منسوب الأزمات والخيبات في شقيها الاجتماعي والاقتصادي بالخصوص مع تضمينهما للحالات والمظاهر المحكية صيغا نقدية، نابعة تعكس انخراطهما في صلب محيطهما الذي عايشا وخبرا طبيعة العلاقات التي تجمع أفراده التي توحدهم هموم عيش تخترمه الحاجة والعوز.

 

في تقديمه للأضمومة، أشار الأديب إبراهيم السولامي إلى أن ما يجمع الكاتبين أكثر ما يفرقهما ( باستشعارهما لبؤس اللحظة حضاريا واجتماعيا وثقافيا… وانتمائهما لطبقة اجتماعية مكافحة ، ووعيهما الحاد بأن مجتمعهما مركب تركيبا خاطئا) ص :4 ،فضلا عن أنهما ( تخرجا من الجامعة بعد مرحلة الاستقلال) ص: 3 ، فواكبا ورصدا أنماط العيش المتدني لطبقة دنيا، مصورين ما تعانيه من ضنك وخصاص : «دفع باب بيتهم القصديري… ارتمى على الحصير» ص: 14 ، في ظروف يستفحل فيها العوز ، وتستشري الفاقة : « كل شيء أصبح مرتفع الثمن، ونحن الفقراء لنا الله» ص : 64، وتتوزع شخوص نصوص الجزء الأول من المجموعة بين ما هو أدبي ( طرفة بن العبد، بديع الزمان الهمذاني ) ، وما هو تاريخي بصفة الزعامة والبطولة ( المعتصم ، يزيد بن معاوية) ، وما يمتلك مهارة قتالية (مسرور السياف)، وما يحوز ملكة حكمية و» كاريزما « صوفية ( المجذوب) ، فضلا عن أماكن من قبيل ( باريس) بإشعاعها الحضاري والتاريخي والفني… و( كربلاء) كمحطة عقدية زاخرة بأحداث تاريخية مشهودة يتم ربطها بحالات تعكس سمو مقامها ، وشموخ منزلتها : « المجذوب يسير بقدميه المتشققتين على شظايا الزجاج المتناثر» ص: 9 ، وبطولاتها الخارقة وما يحفل به سجلها من فتوحات مظفرة وغزوات عظمى دفاعا عن حوزة الأوطان ، وذودا عن سيادتها المهابة والمصانة : « فتقدمت جيوش المعتصم، وأنقذت المدينة من مخالب الشر والدمار» ص: 10، وإغناء لنسيج المتن القصصي، وتعميقا لأبعاده الدلالية يدرج الكاتب ( عبد الرحيم مودن) أمثالا شعبية متداولة مثل ( الدرهم الأبيض ينفع لليوم الأسود ) ص : 23 ، كما يستلهم حكايات شعبية ك( حكاية هنية مع الغول) ص: 15، وما تضفيه على صيرورة الحكي من تنويع وتعدد. وأيضا عنصر غرائبي غني الأبعاد ، عميق المرامي والدلالات : « المساحة المخصصة للقدمين تتسع .. تصبح مادة مطاطية .. تغطي فناء الدار ..» ص: 14 لتتطور من خلال أنسنة مادة كالزجاج : « تبادله الزجاجة الابتسامة بابتسامة عريضة .. يقهقهان..» ص: 19 ، أو ما يعرفه الاختناق من تحول مريب: «الاختناق يتحول إلى غول مخيف يطارد ني ..» ص: 22. وتتميز قصص عبد الرحيم مودن بمكون وصفي لا يخلو من جمالية بأبعاد دلالية ومجازية : «سفينة راسية في خمول أبدي..» ص: 11 ، ينحو نحو تشبيه يعكس طبيعة حالة إنسانية بحمولات حسية ونفسية : « انتفض مثل طائر مبلل بالمطر» ص: 25 مضفيا عليها مشهدا أكثر إيحاء وتعبيرا، وهذا لاينفي عن لغة الكاتب نبرة عنف وحدة : « ضغطت على زر المذياع بعنف، أخذت معطفي الأسود بعنف كذلك « ص: 28 بحيث تتجاوز الحركات والأفعال إلى مستوى الصراخ والانتفاضة : « أصرخ ، أنتفض ، ألعن كل شيء» ص: 31، لغة ذات طابع مشحون يرفض الاستسلام والخنوع: « كلمة « نعم» ، تخلق صفحات لا نهائية، وطنينا لا يرحم» ص:32 ،ويصر على التمسك بنبذ كل أشكال التواطؤ الشائع، والالتفاف المألوف انسجاما مع قناعة راسخة تصدر عن وعي مختلف، ورؤية مغايرة لما يحدد طبيعة العلاقات وآثارها داخل محيطه: «إنني أرفض أن أكون مثل هؤلاء الناس» ص : 31، مما يخلع على لغته طابع العنف والحدة كما ورد في تقديم الأديب إبراهيم السولامي: « أما مودن عبد الرحيم فذو طبع عنيف ، يؤثر معه رسم الواقع ببشاعته … ولغة مودن مسننة تدمي وتحفز على اليقظة المستمرة» ص : 5 ، عكس لغة إدريس الصغير ، حسب إبراهيم السولامي : « فإدريس الصغير مرهف الحس. شاعري الأسلوب» ص : 4، لغة بطابع رومانسي ينضح رهافة وشفافية : « برقة تتطاير الفراشات تزقزق الطيور تغرد تمتص النحلة رحيق زهر عبق الشذ ا» ص : 45 ، تمتح من معين خيال يضفي عليها مسحة من جمال تلتئم فيه مكونات الطبيعة لتغدو أكثر تجاذبا وتناغما فإلى جانب الفراشات والطيور والنحل تنضاف عناصر من قبيل القمر والنهر والغدير : « على الرمل نبني القصور نكتب قصائد الحب محمومة مجنونة عنيفة … نضحك للقمر للنهرو للغدير…» ص : 45 ، في حلة خيال يرتشف من نبع العشق، ويرتوي من منهل الغرام .
وعلى نهج رفيقه عبد الرحيم مودن، تضمنت نصوص إدريس الصغير شخوصا بحمولات تاريخية وعقدية كعمر بن الخطاب، ومسرور السياف وأسطورية فكرية كسيزيف، وبطولية تنبض بألق الغزو ومجد البطولات مثل طارق بن زياد ، فضلا عن نجوم تألقوا في مجال الفن الحديث كبريجيت باردو( في مجال السينما والغناء) ، والفقيه برمزيته الدينية ومكانته المحفوفة بهالات التقدير والاعتبار لدى فئات عريضة داخل مجتمع يستشري فيه الجهل ، وتستفحل الأمية. إلى جانب شخصيات كبلواس وزوجته : « قتل بلواس في الظهيرة على قارعة الطريق وفي يده معول مترب . سجلت الجريمة ضد مجهول» ص: 52 ، مما يكشف عن اختلالات القضاء وأعطابه ، ويكرس الإفلات من العقوبة والمحاسبة في احتيال على القانون وبنوده. وأمكنة كسور الصي ، وحائط برلين وما تجسده من عراقة تاريخية وحضارية في إشعاع أثيل ، وبعد كوني بعمق مرجعي متجذر أصيل . وقاسمه تضمين نصوصه لأمثال شعبية : « الخواف ما تخاف عليه ماماه « ص : 50 ، بشكلها المتوارث والمتداول، واستلهام الحكايات الشعبية : « ونحكي لهم للمرة الألف قصة الغالية بنت منصور، القاطعة سبع بحور « ص: 53 ، إغناء لسيرورة الحكي، وتشريعه على آفاق ميسمها التنوع والتعدد. كما يحضر في قصص إدريس الصغير الجانب الديني: « والله فضل بعضكم على بعض في الرزق « ص: 53 في سياق ما يفرزه التفاوت الطبقي من مفارقات تمس حياة الأفراد وتؤثر على معيشهم اليومي . وكرفيقه عبد الرحيم مودن لجأ إدريس الصغير إلى النمط الغرائبي : « كان الفنجان الموضوع أمامي قد امتلأ بالدم» ص: 40 تجسيدا لإحساس عميق باللوعة والأسى داخل فضاء مدينة شهدت جنباتها ما ساوره من هم ، واستشعره من معاناة في مجابهة أعباء حياة تتعدد متطلباتها ، وتتجدد ضغوطاتها : « والمدينة تعصرني فتضحك وأبكي» ص : 46 ، نمط يستحضر فيه شخصية مسرور السياف في مشهد شاذ يجرده من هالته البطولية ، ونخوته الأخلاقية : « وهذا مسرور السياف يقف أمام باب منزلنا خجولا مطأطئ الرأس …» ص: 49 ،أو كائن غيبي (جني) خالعة عليه مظهرا مثيرا للعجب و الاستغراب: «رأيت جنيا أسود ينزل من السماء غاضبا مزمجرا يدخن سيجارة من النوع الجيد « ص: 52. ولا يفوت إدريس الصغير الإشارة إلى بعض مظاهر الاعتقادات الغيبية التي كانت سائدة داخل أوساط الأسر والمجتمع : «أمي تهيئ البخور وتتأكد من احتفاظي بالحرز المشدود إلى عنقي بخيط صوفي» ص : 49، وتحضر الموسيقى في نصوصه كشكل فني يغني لغته السردية خصوصا في جانبها المرهف الشفاف : « وتحب كثيرموسيقى «الباسو دوبلى » « ص : 39 ، مما يشكل تزاوجا ينضح بدلالات أكثر عمقا وثراء عبر انصهار لغة الموسيقى بتأثيرها الحسي والذهني مع لغة حكي بمنحى رومانسي وجداني لخلق أجواء إبداعية تكسر خطية السرد ، وتنزاح عن نمطيته ورتابته.
وأخيرا يمكن اعتبار مجموعة « اللعنة والكلمات الزرقاء» منجزا قصصيا نوعيا بصم المتن السردي المغربي والعربي بتغييرا ت وتبدلات تروم بنية الحكي ودلالاته دون تنافر أو نشاز بين كاتبين منحا جنس القصة القصيرة طابعا من الفرادة والتجديد . ولعل تقاربهما في الرؤية الإبداعية والوعي بآفاقها وأبعادها هو ما ساهم في خلق توليفة قصصية أكثر توافقا وتكاملا.


الكاتب : عبد النبي بزاز

  

بتاريخ : 01/11/2021