مدخل
يفيد تاريخ السينما العالمية بأنها ظلت في العديد من مراحل الإنسانية متورطة في السياسة، و في تناول الأوضاع المعايشة سواءا ابان النازية أوالستالينية أو غيرها، بل وظلت السياسة رافدا مهما في مصنع الأحلام بهوليود من خلال صناعة الرأي أو من خلال أفلام تعيد كتابة تاريخ موازي للحقيقة السياسية كحالة الأشرطة التي تناولت الحرب الفيتنامية.
من الصعب الاعتراف بالفيلم السياسي كنوع، لأن العديد من الأفلام التي تختفي وراء ما هو سوسيولوجي أو تاريخي هي في الجوهر أفلام عن واقع سياسي منفلت، لأنها تدبر أسئلة السياسة في فترة إنجازها بنوع من التمويه هروبا من مقص الرقابة خصوصا في العالم العربي، و إدا كان مفهوما خروج بعض الأفلام السياسية العربية من جلباب السياسة الرسمية، أو ظهور بعضها تزامنا مع تغيير أنظمة الحكم في بعض البلدان العربية لانتقاد النظام السابق- حالتي مصر و تونس على الأخص – فإن ما لا يستوعب هو نكوص تعامل السينما العربية مع القضية الأم – القضية الفلسطينية – حتى في فترة ما يعرف بالمد القومي، وهو ما يدفعني لمناولة بانورامية لعلاقة السينما العربية بالقضية الفلسطينية ودون تجاوز ذلك لإصدار أحكام، في نفس الوقت نتناول بعضا من مراحل السينما الفلسطينية و قضاياها في أفق البحث عن مقاربة لحدود التوافق و الاختلاف في تناول القضية الفلسطينية سينمائيا.
2– القضية الفلسطينية في السينما العربية
من المعلوم أن السينما العربية ترعرعت في ظل ظروف استلاب حضاري بعيدا عن جوهر الصراع التحرري، لأن السياسة الاستعمارية في الوطن العربي حالت دون قيام سينما عربية حقيقية، وعيا منها بدور السينما في تشكيل الوعي الجمعي و الوحدة الثقافية بين المتفرجين، هكذا وفي الوقت الذي كانت فيه السينما العربية تحبو بخطواتها الأولى بمصر إبتداءا من سنة 1927، كانت السينما الصهيونية قد ابتعدت بمسافة زمنية من خلال انجازها لأفلام تدعم نظرية أحقية شعب الله المختار في إقامة دولته بفلسطسين من خلال عدة أفلام نذكر منها فيلم « الماعز تبحث عن الحشائش» سنة 1900، فيلم « شمشون و دليلة» سنة 1901 أو شريط « الوصايا العشر» للمخرج « سيسيل ب دوميل» وغيرها ، بل الأدهى و الأهم هو أن الأفكار الصهيونية وجدت من يروج لها سينمائيا من داخل بعض الاستوديوهات العالمية حتى قبل قيام الكيان الصهيوني، ليستمر ذلك فيما بعد الاستيطان، حيث أنجزت المؤسسات السينمائية الإسرائيلية العديد من الأفلام الروائية و التسجيلية ،منها ما هو موجه للرأي العام الداخلي من قبيل شريط « الربوة 24 لا ترد»، ومنها ما هو موجه للرأي العام الخارجي للتأكيد على الحق التاريخي لليهود في فلسطين، لقد استخدمت السينما الصهيونية سلاح السينما بمهارة و عملت على إنشاء شركات إنتاجية عالمية من مثل شركة «كانون» لمناحيم غولا، بل وهيمنت على العديد من رؤوس الأموال لبعض الشركات الإنتاجية العالمية، و النتيجة الشاخصة لذلك هي ظهور أفلام من هنا وهناك تدعم طرح تشويه الإنسان العربي، وتزييف حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي من قبيل فيلم «معركة سيناء» للإيطالي « مورتيزو لوتشيدي « سنة 1968، وفيلم « حائط القدس» للفرنسي ‘ فرنسوا رايشبناخ» 1979 وغيرها من الأفلام التي لم تجد أمامها فيلما عربيا للمواجهة و تصحيح المغالطات، وهو ما ننتبه لأه «يوسف يوسف في كتابه ( قضية فلسطين في السينما العربية ) بالقول : « لقد ظلت السينما العربية غير متفاعلة مع الصراع العربي الإسرائيلي، و ظلت غارقة في أفلام الميلودراما و أفلام الغناء، بل ظلت بعيدة عن استخدام الفيلم كإبداع طلائعي من المفروض أن يكون في نقطة متقدمة من الصراع…..)
لقد كان على السينما العربية وحتى تعيد التأمل في ذاتها المشروخة، وطرح أسئلة الهوية و الوجود، أن تعيش بمرارة نكسة 1948 كوازع للبحث عن الرد ضد الهجوم المعادي للعرب ، محاولة الاختباء في جبة القضية الفلسطينية، و للأمانة يجب التأكيد على أن تطور الوعي السياسي في السينما العربية تزامن مع الأزمات الكبري، فنكسة 1948 شكلت من خلال بعض الأشرطة السينمائية الملامح الأولى لاستنهاض الوعي بضرورة المواجهة البصرية، وتحويل الكاميرا نحو مناطق العتمة في حقيقة الصراع، حتى و إن ظلت مجموعة أشرطة هذا الخيار غارقة في الميلودراما ، من قبيل أشرطة « فتاة من فلسطين» للمخرج « محمود دو الفقار’ لذي يحكي عن فتاة تهرب من فلسطين لتتزوج بشاب مصري وتنسى همومها كذريعة من المخرج للتأكيد على المصير المشترك بين مصر و فلسطين ، وبذلك ثم تعويم القضية الأم، وأزاح عنها بعدها الحقيقي، وهي نفس الخيارات التي ستسلكها بنيات درامية أخرى كأشرطة «نادية» لفطين عبدالوهاب سنة 1949،»أرض» الأبطال لنيازي مصطفى ، الله معنا» لأحمد بدر خان، « صراع الجبابرة» لزهير بكير…. والفيلم الأردني «وطني حبيبي» لمحمود كعرس، ومن بين كل أشرطة هذه الموجة يبقي شريط «أرض السلام» (الشريط الذي يقدم صورة ناصعة للشخصية الفلسطينية المناضلة ، و التآخي العربي و التعاون ضد العدو المشترك ) كما عبر عن ذلك الناقد « هاشم النحاس» استثناءا، لتبقى معظم الإنتاجات حبيسة الوعي الشقي بجوهر الصراع العربي الإسرائيلي وهو ما أكده- و ليد شميط – بالقول: (إن السينما العربية ظلت بعيدة كل البعد عن القيام بأي اهتمام حقيقي بالقضية الفلسطينية من شأنه مواجهة ادعاءات و أكاذيب الإعلام الإسرئيلي)، و من ثمة يبدو أن نكبة 48 لم تنعكس انعكاسا حقيقيا وواسعا على ما يصطلح عليه مرحلة القلق في السينما العربية ،لأن أفلامها ظلت تتميز بعيوب في المضامين بحشرها لاسم فلسطين في حكايات ميلودرامية وهو ما سيؤكده يوسف يوسف بالقول ( إن انفتاح السينما المصرية على القضية الفلسطينية خلال فترة التوجه الأولى لم يكن بالمستوى الذي يجعل من هذه السينما وسيلة لاستشراف آفاق المستقبل) و يضيف ( لن نذهب بعيدا إدا قلنا بأن أفلام هذه الفترة لم تفعل أكثر من التذكير بالقضية، وبصورة أكثر تركيزا فإنها وقفت أمام بعض أسباب الهزيمة دون المرور بالأسباب الحقيقية)، تكاد قطعية هذا الحكم صادقة بالنسبة للأفلام الروائية الطويلة وغير قابلة للتعميم على كل أنواع الأشرطة، لأن بعض الأشرطة التسجيلية حققت نوعا من الجرأة و كانت أكثر انعكاسا للقضية الفلسطينية نذكر على سبيل المثل شريط « القدس لكمال مدكور 1955 و شريط « معسكر اللاجئين» لحسن حلمي سنة 1966 وغيرها.
إدا كان ما ميز السينما العربية ما بعد 48 هو الضبابية إزاء قضاياها المصيرية ومنها القضية الفلسطينية،فإن هزيمة 67 التي خلقت جوا متوترا سمته التأثير العميق في كل مناحي الحياة العربية وأبعادها ، كانت لحظة إعادة صياغة الأسئلة حول دور السينما العربية ودورها في استنهاض وعي عربي قومي بأطروحات فيلمية جديدة ، لقد هز واقع الهزيمة بالفعل الجيل السينمائي العربي ليرفع شعار النظرة الانتقادية، وهو ما عبر عنه المخرج التونسي – نوري بوزيد – بالقول : ( كانت هزيمة حزيران بمثابة المنبه الذي حرك الوعي العربي من شبه سباته ، وأيقظه من الحلم الذي تحطم وحطم معه كل الشعارات)، وفي نفس السياق صدح المخرج السوري محمد ملص بالقول:(جيلنا لم يعش إلا الهزائم المتكررة، البحث السينمائي أصبح ضرورة حتى نتمكن من الوقوف على الأقدام)، هكذا تشكل وعي جديد في السينما العربية ظهرت معه مفاهيم نقدية جديدة من مثل السينما النضالية و السينما البديلة، ونما أكثر مما مضى الوعي بضرورة انخراط السينما في دعم الفكر القومي، وفي المساهمة في إعادة الروح للسينما العربية، هكذا ظهرت في العديد من الدول العربية كمصر والعراق وسوريا أفلاما بتوجهات مختلفة، وكان نتيجة لذلك ظهور (جماعة السينما الجديدة) في مصر،والتي كان من بين أعضائها المخرج الفلسطيني «غالب شعت»، هذه الجماعة التي أكدت في بيانها الأول على وعيها الكامل بان التعبير عن القضية الفلسطينية لن يتأتى من خلال السينما السائدة إنتاجا وتوزيعا، ونجحت بالفعل من تدبير هذا الوعي بصريا من خلال أشرطة من قبيل «أغنية على الممر»لعلي عبد الخالق أو فيلم» الضلال في الجانب الآخر»إضافة إلى مجموعة من الأفلام التسجيلية.
لقد غدت هزيمة 67 الشعور بالمرارة، وأصبحت الثقافة بكل مشاربها وتنوعاتها تنحو نحو نقد الأوضاع السياسية في العالم العربي وصناع القرارات به، لكن كان على المبدعين مناورة الحقيقة المرة بحقيقة موازية منفلتة من كل قمع محتمل وذلك بالتخفي وراء القضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية، ومن ثمة التعبير بنوع من الجرأة التي تفضح وتعري مآل الإنسان في كل بقعة من بقع العالم العربي، وهو نفسه ما حاولت السينما العربية نهجه بأفلام للعديد من السينمات العربية انذك نذكر على سبيل المثل لا الحصر أشرطة : « أجراس العودة» من لبنان لتيسيرعبود، «فداك يا فلسطين» لأنطوان ريمي، ومن الأردن « كفاح حتى التحرير» لعبد الوهاب هنيدي،ومن تونس»صراع» لمحمد همامي، ومن الكويت « نعم-لا « لنجم عبد الكريم، ومن العراق» الأرجوحة « لنوفل فرحات، ومن سوريا « رجال تحت الشمس» لنبيل المالح ، « الأطفال يولدون مرتين» لصلاح دهني وغيرها من قبيل « فداك يا فلسطين» و « كلنا فدائيون»…..، إلا أن كل هذه الأفلام لم تكن في مستوى طرح القضية في بعدها الحقيقي، لذلك فرق النقاد بين نوعين من هذه الأفلام ، من جهة أفلام تدخل في إطار القطاع الخاص من منظور تجاري محض، حيث اعتمدت على إثارة العواطف الحسية بعيدا عن أي تحليل موضوعي ميزتها الخواء الفكري مما أفقد القضية واقعيتها، ومن جهة أخرى الأفلام التي أنتجها القطاع العام خصوصا في كل من سوريا و العراق كأفلام من مثل «هدية مقاتل» لنوفل فرحات أو « الزيارة» لقيس الزبيدي، وعلى الأخص الشريطين « كفر قاسم» لبرهان علوية الذي اعتمد الوثيقة التاريخية كأساس،وشريط « المخدوعون» لتوفيق صالح، لكن وبالرغم من أهمية أفلام القطاع العام، ومن أهمية الدور الذي لعبته في التعريف بالقضية الفلسطينية، إلا أنها ظلت لذاتها محكومة ضمن آفاق الدول المنتجة، مادامت كانت تعكس مواقف هذه الدول أكثر مما تعكس مواقف الشعب الفلسطيني، هو ما دفع الناقد «غي هنيبل» سنة 1978 لاعتباره ( أفلام لا تحدد حقيقة الصراعات القائمة)،وهي حقيقة مؤكدة بالنسبة للأفلام الروائية الطويلة على الأخص،ليبقى الفيلم التسجيلي من أهم الأنواع التي عبرت عن حقيقة الصراع، لدرجة قيل معها إن القضية الفلسطينية وجدت أحضانا دافئة في السينما التسجيلية، خصوصا مع أفلام من مثل « زهرة المدائن»، و «القدس» و»مأساة شعب» و « بعيدا عن الأرض»………وهو ما طرحه المخرج «قيس الزبيدي» كاعتراف صريح حينما قال 🙁 إن الفرصة الذهبية للقضية الفلسطينية كانت وما تزال في الفيلم الوثائقي لا الروائي،ذلك فإن الفيلم الروائي حتى في حالاته الجيدة يبقى أسير تقاليد درامية يمكن أن لا تكون في هذه المرحلة كافية لطرح القضية بالمستوى المطلوب).وتبقى المفارقة الأكثر غرابة هي أن الأفلام المتضامنة من الغرب مع القضية الفلسطينية كانت أكثر عمقا في مناولتها ومساندتها، ويكفي أن نستحضر «شريط الفلسطيني» لفانيسا ريدغريف، او شريط «ليت للصبار روحا» للمخرج الفرنسي « جيل دينميان» .قد نجد أكثر من عذر للسينما العربية في علاقتها بالقضية الفلسطينية بعد النكسات السابقة،سواء قياسا إلى بنياتها الصناعية و انحسارها في رقعتها الجغرافية في أحسن الأحوال، أو حتى في معاناتها مع مقص الرقيب وشروط الولادات القيصرية لأفلام تشد على التوجه العام للدول أو الجهات المنتجة، لكن لا نتحفظ في القول بأن هذه السينما أخطأت الموعد مع التاريخ بعد حرب أكتوبر سنة 1979 وبعد (أن أصبح العالم كله ميالا للتعرف على الشعب العربي في كل المجالات بما فيها السينما) كما كتب ذلك «صلاح دهني» في مقال تحت عنوان ( السينما العربية و المواجهة الحضارية)، مؤكدا على أن ( كل المهرجانات التي تعقد في الغرب كما تعقد في الشرق على حد سواء صارت أحرص ما تكون على إشراك أفلام عربية في عروضها)، هذا ما كان يمنح للسينما العربية الفرصة النادرة لدعم الاتجاه القومي في السينما ومن داخله القضية الفلسطينية ، خصوصا بعد ما توسع مفهوم «الفيلم الفلسطيني» ليشمل كل عمل يتضامن مع القضية بغض النظر عن جهة الإنتاج أو جنسية مخرجه، لكن ما حصل هو نوعا من التراجع عن الصدام السينمائي الحضاري المشروع رغم ظهور شذرات متفرقة من أفلام عن فلسطين وهو ما أرجعه الناقد «كمال رمزي إلى (ظهور همومم جديدة عصفت بالتيارات الأساسية)، لتختل المواجهة مع أفلام من مثل «لائحة شليندر» للمخرج «ستيفن سبيلبرغ» أو فيلم الحصار….و التي ظلت وفية لدعم الفكر الصهيوني، إدا كان هذا هو وضع القضية في السينمات العربية من خارج فلسطين، فهل للسينمائي الفلسطيني من الداخل أو حتى في المهجر رؤية موازية ومعبرة تصحح بعض هنات بعض المعالجات السالفة الذكر
3 – السينما الفلسطينية بكاميرات فلسطينية
تعتبر السينما صيرورة تاريخية للبلد الذي تنتمي إليه، ومحكومة بقوة اقتصادها و باحتضان أفكارها من المؤسسات الرسمية لذلك البلد، وفي مسح تاريخي لظهور السينما الفلسطينية يتبين أن ملامحها تشكلت منذ نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، على يدي إتنين من روادها وهما صالح الكيلاني و إبراهيم سرحان الذي يعتبر أول فلسطيني قام بإنجاز أشرطة سينمائية داخل فلسطين عن الأحداث السياسية و الانتفاضة ضد الانتداب البريطاني منذ 1933 من قبيل شريط « فلسطين» وشريط «الأحلام الحقيقية» عن المسجد الأقصى.
لقد تسلحت حركة التحرير الفلسطينية بالسينما كوسيلة إعلامية – نضالية في مواجهة الغزو الإسرائيلي،وهو ما أكده أحد رواد هذه السينما « مصطفي أبو علي قائلا ( إن الثورة الفلسطينية إدا أرادت أن تجند الأشكال الفنية،فإن السينما يجب أن تكون في مقدمتها)، وبالرغم من أن ملامح السينما الفلسطينية بدأت مع نهاية الثلا ثينيات، إلا أن ولادتها الحقيقة ستتأخر إلى ما بعد نكسة 67، وقد جاءت هذه الولادة كمعادل لتحرير الكاميرا العربية ، لكن أيضا من أجل صيانة الذاكرة الفلسطينية من خلال أنجاز أرشيف خاص بالشهداء وبمواد و وثائق الثورة الفلسطينية، وذلك بفضل مجموعة من السينمائيين الذين آمنوا بدور الصورة الإعلامية وقدرتها على المساهمة بجانب البندقية في حركة التحرير،لذلك كان شعار هؤلاء الرواد من قبيل «سلامة مرسال» و «هاني جوهرية» و « مطيع ابراهيم» هو (الكاميرا في يد و البندقية في اليد الأخر)، وهو ما كان له فعلا ثمن استشهاد بعضا منهم من مثل «هاني جوهرية».
لقد نحت السينما الفلسطينية في بدايتها نحو صون الذاكرة والتراث بأفلام وثائقية وتسجيلية ،وبالرغم من كونها كانت بداية متعثرة نظرا لقلة الخبرة و الإمكانات، و بالرغم أيضا أنها كانت ساذجة على المستوى الفني و الجمالي بتعبير العديد من الدارسين، لقصور في الثقافة السينمائية و الجمالية على العموم ، أو حتى فيما يعتبر قصورا في النظرة السياسية، ألا أنها و مع كل ذلك نجحت في إبراز الجوانب الإنسانية و النضالية للقضية الفلسطينية،لكن الأهم هو إبراز مبررات حمل الشعب الفلسطيني للسلاح و دحض مزاعم الصهيونية،وهو ما استخلصه الناقد الفرنسي « سيرج لوبيرون» قائلا ( يواجه السينمائيون الفلسطينيون ببساطة مهمة إعادة تشكيل ذاكرة حياة ونضال تهدف إلى التعبئة ، و إلى الدفع نحو المستقبل، مستقبل حاضر في أعماق كل فلسطيني كان لاجئا في الداخل،أم مهاجرا في الخارج الا وهو العودة)، نستشف من هذا الرأي أن السينما لفلسطينية حاولت الإلمام بكل جوانب القضية في سياق التعبئة والفضح، من خلال تنويعات مواضيعها حتى لا أقول أنواعها أو إتجهاتها، وهو ما دفع ب «جان ألكسان» في مقال له تحت عنوان -العرب – العلم – السينما – إلى اعتبار السينما الفلسطينية تتجاذبها وتتداخل ضمنها ستة أنواع من الأفلام:
1: أفلام تصور الأحداث المباشرة كالعدوان على جنوب لبنان- 2: أفلام تفضح مزاعم الصهيونية – 3: أفلام عن مكافحة الجاسوسية -3: أفلام الحالة الاجتماعية وواقع المخيمات – 4: أفلام الحضارة و الفن الفلسطيني – 5: أفلام تحريضية تتناول جوانب المقاومة في كل دلالاتها – 6: أفلام الأغاني الدعائية.
لقد عرفت السينما الفلسطينية تحولاتها الكبري مع تحولات القضية الفلسطينية، كانت أولها بداية 1970 حيث انبثقت عن مؤسسة «وحدة فلسطين» مؤسسة سينمائية جديدة « جماعة السينما الفلسطينية»، لتتعدد بعد ذلك الوحدات السينمائية بتعدد الفصائل منها: «قسم الثقافة الفنية» التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، و « اللجنة الفنية» التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،و « وحدة الأفلام الثقافية» التابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ثم مِؤسسة «صامد للإنتاج السينمائي»، لقد خلف تعدد الأقسام والوحدات الانطباع لدى العديد من المتتبعين بأن السينما الفلسطينية هي ( سينما الشتات)،وهو ما لم يخدم الجبهة الموحدة للنضال، مما عجل بإصدار مذكر قدمتها الثورة الفلسطينية للجنة التحضيرية للمهرجان الأول لأفلام وبرامج فلسطين سنة 1970 من أجل الحرص على تقدير الأمور كيفيا وكميا تقديرا علميا وموضوعيا،ومما جاء في المذكرة ( لابد من أخذ كل الإحتياطات التي تجنبنا الوقوع في التناقض بين ما يمكن أن نقدمه محليا، وما نقدمه عالميا) ، وقد كان من نثيجة لذلك أن ثم الإعلان خلال مهرجان دمشق السينمائي الأول حول أفلام فلسطين تأسيس مؤسسة موحدة للسينما الفلسطينية تجمع الجهود و الكفاءات المتناثرة في مؤسسة واحدة وهي المؤسسة التي أعطت العديد من الأفلام التسجيلية والتي اعتمدت في أغلبها على الأرشيف السينمائي و التلفزيوني مهما كان مصدره من مثل أشرطة « نحن بخير» و « مشاهد من الاحتلال في غزة» و « رؤى فلسطينية» و غيرها،أو حتى الأفلام الروائية وكنموذج شريط « عائد إلى حيفا».
إذا كان النوع الذي ظل مهيمنا في السينما الفلسطينية هو التسجيلي – الوثائقي،لشروط موضوعية تتمثل في غياب صناعة سينمائية بالمعنى الاحترافي، لكن لأنه أيضا يمتلك القدرة على صياغة وجوه ذات أبعاد متعددة ،إلا أن الاجتياح الإسرائيلي لبنان وضرب منظمة التحرير والمقاومة اللبنانية سنة 1983 دمر الكثير من الأقسام و المعدات السينمائية، وأتلف حقبة هامة من موثقة
من تاريخ الشعب الفلسطيني، لم يكن هذا التدمير كافيا للقضاء على السينما الفلسطينية، بل كان دافعا لظهور جيل جديد من السينمائيين له تصور جمالي و سينمائي خاص، «جيل الانتفاضة السينمائي» كما يصطلح عليه، جيل السينما الفردية بدل السينما الجماعية أو سينما الفصائل، جيل بدل مقود النوع من الوثائقي إلى الروائي ، وحول الخطاب من خطاب سياسي تحريضي، إلى خطاب ثقافي اجتماعي، وذلك من خلال مخرجين من مثل» ميشيل خليفي» وفيلميه « الذاكرة الخصبة» وعرس الجليل»، و»رشيد مشهراوي» بفيلمه « حيفا» ، و « إيليا سليمان» بفيلمه « سجل اختفاء»،إلا أن ما يسجل عن هذه الأفلام أو غيرها هي أنها أعمال فردية تحاول تطويع الإمكانات المادية.
لقد وقع اختلاف نظري حول مفهوم الفيلم الفلسطيني وهويته،فإذا كان البعض من مثل أحد رواد السينما الفلسطينية «مصطفى أبو علي» كان يرى بأن الفيلم الفلسطيني هو انتماء نضالي و ليس جغرافي، أي أن الفيلم الفلسطيني هو كل فيلم- بغض النظر عن جنسية المخرج و الجهة المنتجة – يحكي عن معاناة فلسطين ،ويقدم الحياة الفلسطينية في بعدها الإنساني بتسليط الكاميرا على تفاصيل الحياة في الداخل تحت وطأة العدو، فإن البعض الآخر من مثل « جبريل عوض» كان يرى بأنه (مهما كان الأجنبي متعاطفا مع قضيتي لا يمكن أن يشعر بمأساتي التي أكتوي بنارها).
صحيح أن هوية الفيلم وبشكل عام تطرح إشكالات نظرية عميقة، وإذا ما حاصرنا شروط انتماء الفيلم وهويته في جنسية مخرجه،فإننا يمكن أن نحدد نوعين من الأفلام الفلسطينية: أفلام يصنعها فلسطينيون من داخل الأراضي المحتلة كأفلام «رشيد مشهراوي»، وأفلام يصنعها فلسطينيون خارج الأراضي المحتلة كأفلام « ميشيل خليفي» الذي يعود له الفضل في وضع أسس السينما الروائية الفلسطينية بأفلام من قبيل « الذاكرة الخصبة « عرس الجليل» و» حكايات الجواهر الثلاثة»، وأفلام مخرجين آخرين من مثل :»عمر قحطان « و « إليا سليمان»…….لكن يبدو أن هذه النوعية من الأفلام صاحبتها انتقادات كبيرة و كنموذج وصف شريط»سجل اختفاء»لمخرج «إليا سليمان « بالفيلم المهادن و المتخلي عن المواجهة،لأنه حاول أن يعبر فيه عن الهوية من موقع وضع السؤال حول ما معنى أن تكون فلسطينيا في فضاءات تغيرت أشكالها، أي عن مدى الشرخ بين الهوية و المكان، وهو ما دفع بالمخرج للدفاع والرد عن هذه الانتقادات بالقول 🙁 اعتاد المشاهدون على رؤية سينما فلسطينية باكية، شعاراتية ودعائية،لذلك صدمهم الفيلم الذي يسجل وقائع من غير اكليشيهات».
يمكن عموما ومن خلال جل الأفلام الفلسطينية التي أخرجها فلسطينيون في الداخل أو الخارج أن نسجل على أن هذه السينما و بصيغة الجمع دأبت على معالجة الحياة اليومية للفلسطينين داخل المخيمات،و إظهار رد الشعب الفلسطيني من خلال معالجات متعددة يتم فيها التعبير فيها من خلال شخوص واقعية ،وتحولت بعضا من هذه الشخوص إلى علامات سيميولوجية ، كشخصية أم الشهيد المقابل للهوية و الاستمرارية، وشخصية الشهيد المقابلة رمزيا للنضال المتواصل، هكذا يمكن أن نرصد بعض المواضيع المعالجة في:
قضية الهوية، وهي القضية التي ثم طرحها في العديد من الأفلام من مثل شريط « جواز سفر» لرشيد مشهراوي والذي يحكي عن معاناة فلسطيني يحرمه الإسرائيليون من الهوية وجواز السفر.
أفلام المرأة كفيلم « الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي والذي يحكي عن قصة فلسطينيتين،إحداهما عاملة والأخرى مطلقة، ومن خلال حياتهما نكتشف صورا عن حياة المرأة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة و المجتمع الفلسطيني بصفة عامة.
أفلام عن المخيمات لحكي عن حياة الفلسطينين في المخيمات وطموحاتهم ،والإطار العام الذي يحكم علاقاتهم الاجتماعية و الثقافية
أفلام عن الانتفاضة و أطفال الحجارة كفيلم « الربع الأخير» لمحمد السوالمي او فيلم «أطفال من جبل النار»
أفلام عن حضارة وثقافة فلسطين كفيلم « عرس الجليل» لميشيل خليفي والذي حاول فيه إبراز دور الثقافة و التقاليد الشعبية و تصوير الصمود اليومي للفلسسطينين.