إضاءة أوّلية:
كلّ قراءة، هي في جوهرها، حمّالة تأويل، وكلّ تأويل هو محاولة لتوسيع المعنى وإشباعه، وذلك بالانتقال من ظاهر المعنى إلى باطنه، ولن يتأتى هذا المبتغى إلا عن طريق التشريح والتفكيك، بهدم المعنى الثابت وتشييد معنى متحوّلٍ وفق آليات منهجية تروم الإضاءة والكشف عن المطمور والمخفي والمنسي، والوعي بأن العمل الإبداع يبني كيانه الجمالي والفني وفق رؤية “ترى العالم وتصدر حكمها عليه من خلال الصيغة التعبيرية التي يتخيّرها لهذه الرؤية”، مما يحفّز القارئ على ممارسة اللعب ليلاحق النص في حركته ويقف على تعدديته -على حد قول عبد العالي بن عبد السلام- . من هذا المنظور ستتمّ مقاربة محكيات المحجوب عرفاوي التي اصطفى لها عنونة لافتة ” هناك.. ترجّني أوتار المكان” تتطلب الحفر في جغرافيتها اللغوية وبنيتها النصية لرصد جمالياتها وأبعادها الدلالية. ونحن نخوض غمار قراءة هذه المحكيات المختلفة التيمات، لكنها متوحّدة في التوغل في الذاكرة ” لإنتاج خطاب مركّب يمتحّ من المعيش والمحلوم به، من الذاكرة والتاريخ، من الأسطوري والواقعي، من النفسي والجسدي”. عَنَت لنا الأسئلة الآتية التي بِمُكنها إضاءة متاهات القراءة:
– هل يمكن اعتبار هذه المحكيات دعوة إلى الخلود إلى الثوابت والأعراف؟
– ألا يمكن اعتبار الذات منفية أمام سطوة هذا النسق الثابت؟
– كيف تواجه الذات وجودها المهدّد بالتّشظّي الوجودي والمكاني؟
(1) العنوان: الصياغة والمعنى:
أول ما يواجه القارئ، في هذه المحكيات العنوانُ باعتباره العتبة الأولى التي يطرقها قبل الدخول إلى عوالمها المنسوجة بالسرد والتخييل بطريقة عمادها الفهم والعلم بمكوناتها، مستعينا بخلفية تأويلية مؤطرة لفعل القراءة بإمكانها استكشاف المعنى بناء على مطية التشكيل الجمالي. والمتأمل في عنوان المحكيات “هناك.. ترجني أوتار المكان” يخلص إلى أنه يتكوّن من اسم إشارة ومركب فعلي، تحيل على الإشارة إلى المكان بكل تشعباته وأكوانه البعيدة والحاضرة، عبْر عملية الاستحضار/ الاسترجاع، وما بين الإشارة والحاضر تنوجد الذاكرة، وهي في حالة اضطراب وحيرة ودهشة واهتزاز، بعبارة أخرى إن المحكيات تتراوح بين الماضي القصيّ والحاضر القريب، من هنا تبدو ثنائية الحضور والغياب قائمة الذات في البنية العامة للخطاب السردي. وبالتالي تنجلي معالم التوتر والصراع داخل منظومة سردية يعتورها الخلل، وتتسيّد عليها مظاهر التيه والاغتراب، لأن ظرف مكان (هناك) إحالة ضمنية على حضور صوت الماضي وعلى صوت الحاضر. فالمكان المنسوج بلغة الحكي يعبّر عن الذاكرة المشتركة، أي ارتباط الحكي بما هو سيري وواقعي، ولنقُل التجسيد الأعمق لعلاقة الفن بالواقع، وهذا ما يلمس على مستوى السرد. مما يؤدي إلى القول بأن أثر المكان وتداعيات الذاكرة سيبدوان جليّين في أعطاف المحكيات. ولعل هذا ما سيعكسه محكي الذات والواقع والمكان.” باعتباره نصا تخييليا يقدّم تجربة إنسانية عامة قد تسهم في إثراء تجربته الذاتية”فكيف ذلك؟
(2) سؤال المرجعي والمتخيل:
كلّ نص سردي –حسب نظرية السرد- يقوم على مكونين أساسيين يتعلق الأمر بالحكاية والخطاب، فالأول مرتبط بالمتن التيماتي (الأفعال، الوقائع، الشخصيات، الزمكان) بينما الخطاب يقصد به الطريقة التي يجري بها تقديم المتن، ولهذا لا يجب النظر إليهما منفصلين، وإنما بكونهما مترابطين في النسيج النصي، “ففي داخل النص يحضر النص بكليته وشموله وتداخله وتكامله في ترتيبه وفي شخصياته، وفي عالمه الافتراضي كما يظهر للقارئ في أثناء القراءة.”، فالواقع الحكائي في المحكيات يحيل على مرجعيات مختلفة يمكن رصدها على النحو الآتي: -مرجعية واقعية: ذلك أن السارد يحاكي الواقع بطريقة مرآوية، حيث يزخر الخطاب السردي بأحداث ووقائع تعكس واقع المجتمع العميري بدون طلاء لغوي، كما أن السارد نجده يتماهى معه للتعبير راصدا أهم التغيرات والتحولات التي مسّت بنيته الاجتماعية، والدليل على ذلك الإشارات الكثيرة إلى ذكر الأمكنة والأحداث المستمدة من واقع الحال ( لاربعا/ بني عمير/ لكريفات/ تغناري ، أيام البون، ولد الكرشة صالح الطويل، الحسين الخريبكي، 1979، ص30، الحديث عن فريق الفقيه بن صالح ولاعبيه…)
-مرجعية ذاتية: يتعلق الأمر بسيرة الذات الكاتبة، وتفاعلها مع السياق السردي لمجريات الأحداث، فيغدو محكي الذات محور العملية الحكائية وجوهرها، بل المحرك لعجلة السرد وتشكيل الحكاية.
– مرجعية متخيّلة: نقصد بها توسل السارد بالاستعارات والتشابيه والصور التجسيمية بغاية تقريب صورة الواقع للقارئ، وجعله منخرطا في بناء وجودها اللغوي والدلالي، والمحكيات غنية بهذا المسلك السردي، إذ يلجأ إلى تقديم الشخصيات بأسلوب ممهور بباروديا تثير الضحك والغرابة والإدهاش (أحسه إبرا تلسع وجهي ويديّ وقدميّ (لن يذبل اسمها) ص32/ رجل زحفت التجاعيد على محياه (في السوق انزياحات ص 38/ ألفى القرية تنزف صمتا… (في محيط البئر أنهار))
هذه المرجعيات وغيرها لعبت دورا هاما في بناء خطاب سردي يتميّز بالحيوية السردية والعمق في الطروحات والمواقف المعبّر عنها داخل “المحكيات”، ودمغها بطابع شعريّ أماط اللثام على بنية سردية تعبّر عن نفسها من خلال اللغة التي تؤسس النص وتبني خطابا حكائيا يستمد كينونته من المزاوجة بين الواقعي والتخييلي. لأن «الفن، كما يقول علماء الثقافة، هو الذي يستطيع أن يستنفذ الأعماق الحقيقية للوقائع والأساطير الماثلة في حيوات ملايين الناس في أماكن محددة حيث يلقيها في بوتقة التخييل المتجسد فنيا ولغويا في الأدب ليمنحها الخلود والشعرية”
(2) تأريخ الذات واستعادة الكينونة المفتقدة:
يقوم العمل السردي على أساس المزج بين ما هو سيري وواقعي وتخييلي ، حيث ترتدي هذه العناصر الشكل الأدبي، فالسيرة الذاتية تؤدي وظيفة استرجاع لصوت الذات المتلاشي في صوت الجماعية، أي أن الذات تتحرّر من هذه القيود ل”تتوغل في استكشاف مناطق الذات المسكوت عنها” ، من أجل تحقيق أبعادها الوجودية والإنسانية داخل عالم لا ينفك يتفنّن في إشاعة الجنون والاغتراب. لهذا فمحكيات المحجوب عرفاوي تشعّ بهذا البحث المضني عن الذات انطلاقا من محكي ذاتي يتخذ الذاكرة الفردية للإبحار في كينونتها والقبض على لحظاتها والإحساس بكيانها المستلب بفعل المجتمع، ويتضح هذا في العديد من المحكيات كوشم في الوجدان( الدخول إلى المسيّد والهروب منه) وشامخ اسمها ( التسجيل في المدرسة والقيام بالمقارنة بينها وبين المسيّد) والطفل الذي كنته، وزلزال حزن (موت الأب) ولن يذبل اسمها ( التطرق إلى دراسته في تغناري وذكر الأساتيذ)، والذي يحبل بمعاناة الذات جراء العنف الممارَس عليها من لدن نسق تعليمي تقليدي وآخر تحديثي، والعودة إلى الطفولة، في كنهها، ما هو إلا ذريعة سردية للتعبير عن مرجعية الحنين، التي تؤطّر الذات في علاقتها بالواقع، ولحماية الكينونة المهدّدة بالتشظي والمكابدات.
(3) محكي الواقع وسؤال الإدانة:
المحكيات شهادة سردية تحوّل الواقع إلى محكيّ يقول صوت الجماعة أو النسق الثابت، حيث تحبل بأحداث وشخصيات استطاع المحجوب عرفاوي رسمها في لوحات فنية ناضحة بماء السرد وأصالة الطرح، إذ تمكّن عبر المخيال الأدبي والشعبي أن يعكس مسارات شخوصه ومصائرها بطريقة تنهل من الواقع، الذي تمزجه بتوابل استعارية ورمزية مما أضفى على عوالم المحكيات طابع العجائبية حينا، وأحيانا سمات ميتافزيقية، حيث السحر والشعوذة والممارسات اللاعقلانية وشخوص مآلاتها كانت تراجيدية مستقاة من عالم بدوي طافح بالمفارقات والتناقضات، كان له أثر بالغ في نفسية الكائن وهو يواجه قدره في جغرافيا ملعونة ومنذورة للمسخ والقبح، إذ نعثر على شخصيات غارقة في المدنس داخل المقدس (نموذج الفقيه) والمحرّم ( شرب الخمر/ القمار / الزنى) ( حسن الخلفاوي (الكلب الذي) سعدان(هلوسات) والمولودي (للباخوسيين وظيفتهم)، وغيرها من المحكيات التي تعكس المظاهر الاجتماعية التي تعكس القاع والمهمش والمنسي. وغيرها من المحكيات التي تؤسس لعلاقتها الوثيقة مع الواقع في جدلية تقود إلى ضرورة ترميم تشظياته وارتكاساته القيمية والحضارية، كما تعبّر بل ترصد مظاهر تغيّر المجتمع ورؤيته للوجود وتقاليده، وترسمه بلغة قريبة من نبض الأرض وارتجاج الروح ودهشتها من نداء الأحراش والمسالك المتربة والسهول المترامية. والاحتفاء بالمكان ماضيا ما هو إلا دعوة مبطّنة للعودة إلى الأصل الإنساني المتوحّد، ونبذا له بحاضر يقصد من وراءه إدانة صارخة وصريحة ضد التشوه والاستلاب الذي سقط في فخه الكائن والكون، الزمان والمكان، والعلاقات الإنسانية داخل نسق اجتماعي متغيّر نحو الأسوأ.
(4) المحكي الشفهي وبناء الهوية:
يشكّل المحكي الشفهي نسقا اجتماعيا وثقافيا يعبّر عن هوية الكائن، وتجسيدا لنمط التفكير القائم في منظومة اجتماعية محكومة بالأعراف والتقاليد والمواضعات المشتركة، لهذا عمد صاحب المحكيات توظيف هذا الموروث في بنية الخطابات المحكية، بغية إضفاء طابع الواقعية عليها، و”تجسيد المادة الحكاية في محكي سردي تخييلي، أي ضمن فضاء لغوي ينسج علاقة تأثير وتأثر مع القارئ… ومن تمّ فإن ما يلفت انتباهنا هو ما يميّز هذا الخطاب وليس ما يشترك فيه مع غيره، وما يحدّد الخصوصية كما نتصورها هو صيغة هذا الخطاب وليس محتواه، أي العناصر الجمالية المميزة له في تحققاته النصية”، لهذا نؤكّد على أن محكيات عرفاوي تشكّل وعاء صبّ فيه محكيا تراثيا يجمع بين الأمثال والأغاني الشعبية والنوادر في تركيبة جمالية فنية عضّدت الموضوع وخصّبته جماليا وفنيا، حيث برع الكاتب في نسجها داخل بنية نصية بأسلوب بارع ينز بالسخرية اللاذعة واللاذغة، ويثير الكثير من علامات الاستفهام والاستغراب حول طابع العلاقات الإنسانية الذي كان سائدا في بيئة بدوية، وينمّ عن عمق التجارب الإنسانية، والشواهد المستقاة من متن المحكيات يثبت ما تمت الإشارة إليه ( عزوز وليدي الزوين ولحنين مات/ كبدتي شعلات فيها نيران وزهرات/ نبكيه ونزيد نبكيه فجميع لوقات/ فراقو محنّي بزاف وخلا فيّ كيّات) ( الرقة بنت لحرام/ كتحيطم لعظام/ لعدس لذيذ/ فين يبان الكدّيد/ هو لعدس مزيان فين يبان لبنان) ( هي بلاد الخير/ في بني عمير/ هما الكريفات/ كاع كببات/ عركها ولد المشنتف/ مكال الله يخلف)( لاربعا عجبتني / سايرا تبني/ فلوس الطليان / زادو فلبنيان/ العمارات بانو/ بفلوس ميلانو) ملفوظات عضّدت موضوعات المحكيات ووسعت من مدلول الخطاب السردي، وهي توجه دعوة للقارئ بتفكيكها وتشريحها لأنها تشكّل خطابا داخل خطاب، وتعبّر عما كان رائجا من ثقافة شفهية، وتعطي صورة واضحة عن واقع المجتمع العميري الذي يتغيّر ويتبدل، وتحيل هذه البراويل على ما يجري من هدم بنى اجتماعية واستبدالها ببنى جديدة تستجيب للحظتها التاريخية.
على سبيل الختم:
على ضوء ما سلف، فإن محكيات المحجوب عرفاوي تثوي خطابا مبطّنا يراوح بين رغبتين متناقضتين، الأولى مرتبطة بالتشبث بالماضي كنسق اجتماعي فكري تقليدي، لذا كانت محكياته تعتمد على الحنين والإصرار على إحيائها، وهذا يتناقض مع تبدلات الزمان وسيرورة الوجود، والثانية تجسيد لرفض الحاضر لأنه ساهم في فقدان هوية الذات والجماعة –حسب منطوق المحكي- لذا تجد الكينونة نفسها متعلقة بالأنساق الثابتة، ومنفصلة عن واقع التحوّل، مما جعلها تعيش نوعا من التشظي الداخلي والإحساس بالتيه والاغتراب والنفي.
الهوامش:
– د.أحمد يحيى علي: ماوراء الحكاية: تقاطع الواقعي والمتخيل في فن القصة (نماذج من إبداعات إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، مجلة عالم الفكر، ع 189، يناير –مارس 2023، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص112.
2-د. مرسل العجمي: تجليات الخطاب السردي: الرواية الكويتية نموذجا، ضمن كتاب جماعي: الرواية العربية … “ممكنات السرد” أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر،11-13 ديسمبر2004، ج1، الكويت 2008، ص71.
3- نفسه، ص69.
4- صلاح فضل: التجريب في الإبداع الروائي، كتاب جماعي، ص 107.
5- محمد برادة: الرواية العربية بين المحلية والعالمية: الرواية العربية: الكونية أفقا، ضمن كتاب جماعي: الرواية العربية “ممكنات السرد” مصدر مذكور، ص 27.
6- إبراهيم عمري: خطاب الرواية المغاربية، منشورات شعبة الآداب واللغات والتواصل، الكلية متعددة التخصصات بتازة، ص 37.