محمد اللغافي: جارح الشمس في غسق الليل

لمواكبة التجربة الشعرية لمحمد اللغافي، يلزمك التنقيب في أحجار الواقع، كإركيولوجي آت من زوايا العصور، ومدرك لما تشمله كل وصلة، يخاتل اللغة كذلك الأجير الذي أدرك قبل هوبز، بأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى…وصوت إنسان فكدت أطير.
هذا الإدراك تسلق سلالم الشعر والشعرية، وفق صور تأتي من المدهش، والفارق لكل ما هو مألوف في تجربة الشاعر، وارتباطه بواقعه وحياته، هو يخيط ما يشاهده ويراهن بلغة تعاشر صورها، بما توده لخلق فرادة الشاعر وتميزه.
كلنا ندرك محاربة العالم بكامله للعراق، لكن ذائقة الإبداع لم تتوقف، فكان الشعراء يبدعون دواوين بحجم الكف، لأن الورق قليل، ومناسبة هذا الإتيان، مقارنته ببدايات الشاعر محمد اللغافي، حيث كان يؤلف دواوين صغيرة، لقلة ذات اليد، وأذكر بالمناسبة كيف أتاني إلى ثانوية الأمير سيدي محمد، رفقة الرسام والمبدع إبراهيم عاطف، وسلمني ديوانه «حوافر في الرأس»، قرأته بإمعان وتمعن، ونشرت دراسة حوله بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» آنذاك، مشيدا بأفق الشعرية المتطلعة إلى الأبد اللايحد، وعوض الصورة تنشأ ذات الصورة، بالمعنى الذي ينشده الفيلسوف ؟؟؟، أي أن الصور تمتح من معاناة الشاعر، وتصوره لواقعه أو حياته، ممزوجا بشروخ الذات.
في أطروحة «شعرية القصيدة المغربية»، التي أنجزتها حول الشعرية الكاملة للشاعر محمد بنطلحة، بدأتها بجملة للفيلسوف إبكتيتيوس (القدم مقياس للحذاء، فإن تجاوزت مقاسك، فسوف تسقط سقوطا مريعا على شفا حرف على الأرض)، ومن شدة إعجابي بمهنة الشاعر اللغافي، من أجل توفير الخبز، أقارن الألف الألم إذا هوت المطرقة على الأصبع بدل المسمار، يقوم الفم بابتلاع الألم، كذلك تقوم الورقة بابتلاع الحبر، وتوزيعه جملا تجمع بين الداء والدواء، والألم والفرح، إذا أتت اللغة بصيد ثمين، فليس اعتباطا أن أعنون هذه الورقة: (محمد اللغافي: جارح الشمس في غسق الليل)، في الليل، يعود كل واحد منا إلى ذاته، يحاسبها إذا أخطأت، ويضحك إذا قامت بعمل نبيل، ويسد أكثر، إذا صادت معنى شريدا، وأرقت صاحبها، ليدون اللغة، لأن الحلم لا يستمر حتى الصباح، إذا لم تزرعه في الورقة،حيث للذاكرة عدة طرق وأزقة وشوارع وثقوب، فلا بد أن تفنى جملا أو بعضها في مهب النسيان ويصبح الأمر مؤسفا، وحجرة في الساقية، تمنع وصول الماء إلى حوض ما، وغرس ما، ومستودع شعري ما.
الكتاب الصادر في هذه الفترة (شاعر لا يهادن)، النفي هنا بشهادة ودراسة الأصدقاء والدارسين، نفي يرتبط بالمشاكسة، بدءا من اللغة، حتى تطيع وتلين،وتقبض المعنى، وتشده (شدان الأعمى في عكازه)، وتقطره حتى (إغوت لحمار في البحر) ليتأسس معجم لغافي، يبصم لغته، ويشكلها وفق ما يريد، وما يشاء.
«لا يهادن» ظله، بل تراه يشاكس الدوري وقت الظهيرة، حتى انتباه (الجوش) لا يسلم منه، في البحث عن الشارد، والمدهش.
«لا يهادن» الحملات الانتخابية، ذات مرحلة، أيام تم الاختيار بين الصندوق أو الرصاص، ولا نهادن بل نترشح في دوائر الأقزام، أصحاب الشكارة، هكذا نعود في المساء، لضرب كأس شاي برزته، مع تأجيل موعد إصلاح حذاء، يبحث اللغافي عن دواء لجرح الشمس، بعدما كان الصيد وافرا ومثمرا.
صديقي محمد اللغافي، لا تهادن، بل استمر.


الكاتب : محمد عرش

  

بتاريخ : 29/05/2025