محمد الهرادي تخييل في أقصى الكتابة

يعتبر محمد الهرادي أحد أعرق كتاب جيلنا، جيل ستينات وسبعينات القرن الماضي. نشر كتاباته الأولى، وكانت عبارة عن قراءات محمّلة بتأويلات شخصية، في جريدة (العلم)، ثم في (الملحق الثقافي) لنفس الجريدة، والذي كان يشرف عليه الراحل عبد الجبار السحيمي. كانت كتاباته مثيرة لنا كقراء لم نقتحم بعد مجال الكتابة، وكان ما يثيرنا في ذلك هو صغر سنه ثم سهولة قبول ما يكتبه من طرف الجريدة المذكورة، مع وضعه في إحدى صفحاتها البارزة التي تنشر عادة لكتاب وصحفيين نابهين ذوي أسماء معروفة.
تعرفت على محمد الهرادي في مطالع السبعينات، وكان وضعه الاعتباري، بالنسبة لي في ذلك الوقت، مدهشا ومثيرا لنوازع إعجاب غامضة يصعب تبيّن محتواها. كنت أقرأ له ما ينشر باهتمام، وكانت تنتابني حينها تساؤلات عن مصادر معرفته، وعن طبيعة أسلوبه الذي لم يكن يخلو من غموض على صعيد الصياغة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بقصصه القصيرة. لكن التحول الكبير الذي حصل في مسار محمد الهرادي، وكان مفاجئا لي، هو اقتحامه مجال الرواية، والذي كان، حسب ظني، أشبه بتسلق جبل سامق على حين غرة. في هذا السياق شكلت رواياته (أحلام بقرة) و (اللوز المر) الصادرة في دمشق، و(ديك الشمال)، و(دانتي)، مراودات لعالم لا نظير له في أدبنا الروائي الحديث، حيث تمتزج تجارب معيشه، بتخييلات رعناء، ويوحي كل ذلك بأن الكاتب امتلك ناصية سرد مبهم لا يعرف مفاتيحه سواه. ذلك ما نستنتجه من قراءة روايته الأخيرة (معزوفة الأرنب) الصادرة في إيطاليا، والتي يلتقي فيها عالم كفكاوي، معتم، رتيب، في سرد متقشف يحفل بمكونات إضمامة تخييلات بطل الرواية (إدريس الروسي) الذي يعمل موظفا بأرشيف الدولة في الرباط، ويعتقد أنه ينتمي إلى عائلة ملكية روسية، كما ينتمي إلى حاشية السلطان مولاي إسماعيل، ومن ثَم يستحق لقب (صاحب السمو)، فيما يعاني من حالة عزلة مريرة يفرضها عمله في أضابير المخابرات، ولا يلطّف منها إلا حضور فتاة اسمها (سعاد) وُظفت حديثا في مكتب الأرشيف.
أستنتج، في المُحصلة، أن الهرادي كاتب متعدد، يعيش حياته كمحكي عن الكتابة، ويخفي في إبداعه مصادر تجاربه، ويرنو إلى ابتكار عالم سردي ، أشبه بحلم او كابوس، متميز عن الواقع المباشر، والواقعية المبتذلة.


الكاتب : إبراهيم الخطيب

  

بتاريخ : 13/02/2023