محمّد الصَبَّاغ في ذكرىَ رحيله .. صَوْتٌ مُتفرِّد أثقلته حُمُولةٌ من عَنبَر

 

في التاسع من شهر أبريل الجاري 2021 حلّت الذكرى الثامنة لرحيل الأديب المغربي محمّد الصبّاغ الذي وافاه الأجل المحتوم في مثل هذا التاريخ من عام 2013 .كان الصبّاغ من الأسماء الأدبية اللاّمعة التي حلّقت عالياً في سماء الخلق والعَطاء والإبداع فى المغرب، وبرحيله أفل نجمٌ ثاقبٌ – ويا للعُجْب – بزغ، وأشرق، وأشعّتْ أضواؤه الذهبية الأولي مطلّة في خشوع بين مرتفعات، وآكام، وهيادب السّحب الدّكناء الرّاسية على قمم جَبَليْ «دِرْسَا» و»غُورْغِيزْ» الشّاهقين اللذيْن يعانقان بين تضاريسهما، وآجامهما الوعرة في رفقٍ ودلال مدينة «تطّاوين» الفيحاء أو تطوان العامرة التي تبدو للناظر إليها من بعيد وكأنّها حمامة وديعة ناصعة البياض، وهو نفس الوصف الذي أطلقه عليها، ونعتها به الكاتب الإسباني الكبير» بِينيتو بِيريثْ غَالْدُوسْ» المزداد بجزر الخالدات 1843 والمتوفّى بمدريد 1920) في روايته «عايطة تطّاوين» التي تدور أحداثها عن الحملة العسكرية الضّروس، والهجمة الحربية الشّرسة التي قادها الجنرال الإسباني «ليوبولدو أودونيل» ضدها في الحقبة المتراوحة بين عاميْ (1860- 1859) ، و»الحمامة البيضاء» وهو النّعت الذي ما فتئت تُسمَّى به هذه المدينة الجميلة حتى اليوم، لابدّ أنها نفس الحمامة التي سبق أن رمق أمير الشعراء أحمد شوقي إحدى سليلاتها، أو مثيلاتها في مهجره، أو هو منفاه في الأندلس، والتي قال فيها أو عنها آنذاك :
حمامةُ الأيكِ مَنْ بالشّدو طارحها / وَمَنْ وراء الدّجىَ بالشّوق ناجاها .
وتُذكّرنا حمامة شوقي حتماً بحمامة أبي فراس الحمداني عندما كان فى أسره عند الروم حيث يقول :
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ / أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي.. مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى / وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ..

الأخت التوأم لغرناطة الحمراء

تُعرف مدينة تطوان بتوأمة غرناطة الحمراء التي نسجَ اسمَها الشّاعريّ أجداد من أرومة الأمازيغ الأحرار منذ بنائها أواخر القرن 15 من طرف الموريسكييّن النازحين، والمُبعدين عن دورهم، ووطنهم فى إسبانيا قهراً وقسراً وعُنوةً، والتي يعني اسمها في اللغة الأمازيغية « العيون» ( وهي تطاوين فى صيغة الجمع ومفردها ثِطّ ) . في قلب المدينة العتيقة، وفي زنقة تسمّى»القايد أحمد» وُلد الطفل» الصبّاغ « الذي سيحمل طفولتَه اليانعة معه بين جوارحه وأحشائه، وقراطيسه وأقلامه طوال حياته الحافلة بالعطاءات الثرّة في مختلف ميادين الأدب والشعر والإبداع الجميل، ولم تفارقه هذه الطفولة قطّ طوال رحلة عمره إلى أن أسلم الرّوح فى رباط الفتح إلى باريها .
في الذكرى الثامنة لرحيل هذا المبدع الرقيق يتطلّع إليه كل أصدقائه وخلانه وقرّائه وهم يبعثون إليه بكلمات نسجت خيوطها السّنون بأحرفٍ من نور سرمديّ، ويترحّمون على روحه الطاهرة، بعد أن خطفته يدُ المنون التي ما زالت تخبط فينا وبيننا خبط عشواء، وتسلبنا أحبّاءنا وخلاّننا وتتركنا حيارىَ في قبضة الزّمن العاتي الذي لا يرحم.

في مقهى باليما

إننا ما فتئنا نذكرك في كل حين وأنت جالس فى مكانك المعهود بإحدى المقاهي الكبرى التي تتوسّط مدينة الرّباط، وما زالت تلك الحرقةٌ الحارقة، والغصّةٌ العميقة، والحزنٌ المضني ينتابنا إلى اليوم لفقدانك. ما زلنا نتذكّر ابتسامتك المعهودة، وتواضعَك الجمّ، وكلماتك الهادئة المتناغمة المتراصّة، حيث كنت تبادل أصدقاءَك، وأحبّاءَك الحديث وكأنك مخلوق بلّوري، كنتَ طيّبَ المعشر، خفيضَ الصّوت، يكاد حديثك أن يكون همساً، وديعَ النفس، رقيقَ المشاعر، عذب الكلام، صافي السّجايا والشمائل، حميد المزايا والشمائل. كانت الكلمات تخرج من فيك وبالكاد تلامس آذانَ مُخاطَبيك، كنت تُحاوِرهم نابهاً، يقظاً، ذكيّاً، وقّاداً. فأنت الذي أعطيتَ للحرف معناه الجميل، وللكلمة مغزاها العليل، فى هذا االرّبع القصيّ من الوطننا الغالي الكبير، وألبست اللغة هيبةً، وسحراً ودرراً ووقاراً، ومن محيّاك السّمح كان يُدرك مُحاوروك من أوّل وهلة أنّ لك قلباً شاعريّاً أرقّ من الحمائم .
كان أدبك يعانق الآمال والآلام، ويتفجّر بالمكابدة والمعاناة، كان مشحوناً بالرّموز البعيدة الغور، وبالدّلالات العميقة ، كان أدبك ولا يزال لا يُقرأ بالعين المجرّدة وحسب بل باللسان، والقلب وبالعقل، كانت قصصك ومقالاتك، وشعرك ومترجماتك، وإبداعاتك تستحوذ على قارئيها وتشدّهم إليها شدّاً، وما انفكّت أصداء كلماتها، وشذى أسلوبها ومعانيها، وأحداثها وتعابيرها، وأغوارها وأبعادها تفعل فينا فعلَ السّحر، وهي لمّا تزل عالقة، لصيقة بأذهاننا ووجداننا إلى اليوم.

لوركا والصباغ

إسبانيا التي التي تربطها ببلدك صلات وطيدة، وأواصر وثقى، التي طالما هِمْتَ بها، وعشقتها، وأعجبت بماضيها المجيد، وتاريخها العتيد، ما زالت تذكرإسهامك الوافرإلى جانب صفوةٌ من رفاقك المغاربة والإسبان في درب الخلْق، والعطاء، والإبداع في التعريف بأدبائها وشعرائها ،وفي طليعتهم شاعرها المنكود الطالع، المأسوف على شبابه ، الذائع الصّيت فيدريكو غارسيا لوركا، وما فتئت تذكر بإعجاب إسهامك الوافر فى مجلتيْ «المُعتمد» التي كانت تصدرها صديقتك الأديبة الإسبانية « ترينا ميركادير» بمدينة العرائش المغربية، وفي مجلة» كتامة» الذي كان يصدرها صديقك وصديقنا الأديب الإسباني خاثنطو لوبث كورخي بحاضرة تطوان، وكلتا المجلّتين شكّلتا سبقاً عظيماً لم نر له مثيلاً ولا نظيراً في العالم العربي حتى اليوم، إذ كانتا تصدران في آنٍ واحدٍ فى ذلك الإبّان -مناصفةً- باللغتين العربية والإسبانية. ذكراك العطرة في هذه الحقول الإبداعية وسواها مازالت، وستظلّ نابضة ،متّقدة في قلوبنا كالشّعاع الوهّاج، بأدبك وإبداعك وطيبتك ونبلك وأريحيتك.

شَلاّلات وفوّارات

محمد الصباغ قرأنا له العديد من الرّوائع الموشية الجوانب، والمطرّزة الحواشي، فمن منّا لا يذكر بنات أحلامه السّابحات فى عالم أثيري بهيج، اللاّئي ينسبنَ إنسياباً فى رفق ودلال ورقّة مع أمواج فكره وخياله على صفحات كتبه أمثال «العَبيرُ المُلتهب» الذي ما زال يفعل فينا فعلَ السّحر، و» شجرة محّار» التي ما زالت تظللّنا بوارف ظلالها الوارفة النقيّة، الطليّة ،المزخرفة الموشّاة، وما زلنا نقترب بها من فوهة آذاننا ، فى نشوة الأطفال، وإنتشاء الصغار وبراءتهم، لتسمعنا إيقاعات هدير الأمواج العاتية البعيدة وروعة الأسطورة المسحورة، وتحكي لنا خرافة الجنيّ المارد العملاق، الذي يستوي مربّعاً كالحزمة داخل الزّجاجة الصغيرة، ثمّ ما ينفكّ يخرج منها فى رفق وينتشر في السماء وعنانها . و»اللهاث الجريح» الذي ما زال يلهث في أناة، وينفث لنا مع كلّ زفرة من زفراته، أنّات وآهات باكية شاكية متأنيّة. وما فتئ « زورق من قمر» الذي أثقلته حمولة من مسك وعنبر، يحكي لنا عن أسراره كلما حوّم وساح في البعد اللانهائيّ الفسيح، ثمّ لا يلبث أن يعود إلى مستقرّه ليستوي على عرش القلب ويحيط بشغافه.
وتتسابق الحروف، وتتلاحق، وتتبارى الكلمات في الحديث، والحديث عنه ذوشجون، شدواً، وهمساً، وصّياحاً، ما بين «أسد شلاّلاته» ، و» فوّارة ظمئه» و» عنقود نداه»، و» شموعه» البّارقات التي لا تنطفئ مهما بلغ عتيّ الريّاح، بل إنهّا تزيدها اتّقاداً، ولمعاناً، ونوراً، وبهاءً.
هكذا كان « الصبّاغ « فكأنّما من نفسه صيغ أو صبغ إسمَه، فإذا الجوهر سرّ المخبر، وكأنّي بريشته قد قُدّتْ من روحه لتصبغ لنا ألواناً زاهية رائقة من الأدب الرفيع، وإذا بالكلمة عنده تشبه ملائكة الفجر الصّبوح، تتيه في دروب قلوبنا المظلمة، فتشعّ وتشيع فيها وعليها من نورها ضياءً ساطعات، سرعان ما تتحوّل فى حياتنا إلى صوًى أو صُوّاتٍ ، وأصواتٍ نهتدي على هديها في المسالك الوعرة، والحوالك الصعبة، ونجتاز بها المفاوزَ، والمهامه والقفارَ .
وكتابه «كالرّسم بالوهم» حزمة عواطف، وشحنة آهات وباقة خواطر، تبدّت جدواها فى حياة الكاتب الألمعيّ، فكان لها قلمه بالمرصاد مسجّلاً، حاكياً، شاهداً، ناطقاً، صادقاً، ينتقل بنا فى سياحة فكرية وأسلوبية رائعة، فمن حديثه عن :ألفية ابن زيدون»، وعن رحلته الضوئيّة من» الأندلس إلى المغرب» ، ثمّ نراه يعرّج على « لوركا» المعذّب الحائر المكابد، ويذرف الدّمعات حرّى ساخنة على «أمّ كلثوم» التي يرى فيها « الحرب والسّلم، والنّار برداً وسلاماً، وخمرةَ هوىً، وأسطوانةَ حياة، تديرها ملايين الأصابع»، ومنها يطير إلى «لبنان» المخضب، المتالّم والذي لا يبرحه الألقُ، والرّونقُ والبّهاءُ أبداً.
ومن لبنان الجميل ينتقل للحديث فى شفافية فلذات الأكباد الصّغار، أمل الغد، ورجال المستقبل، ثم اعتراف بسبق عظيم فى عالم « القصّة» بتقريظه لمجموعة « العمّ بوشناق» لعبد الرحمن الفاسي، الذي يقول عنه أنّه « ألبس القصّة فى هذه الرّبوع عمامةَ التوحيدي، وخلعَ عنها قبّعةَ موباسّان..!».ويقول عن صديقه الكاتب الراحل عبد الجبّار السحيمي :» قبل أن يأتي هذا الوجه فى سياق الرّؤيا، كانت القصّة في هذه الرّقعة ضرباً من الخرافة تُرسل فى الأسمار،أمّا على يديه فقد استوت فنّاً مُربّعاً يصدّره المغرب إلى الخارج مع أنفس ما يصدّره من بهاء».

بين ميخائيل
نعيمه والصبّاغ

« الصبّاغ «.. هذا الكاتب المُعنّى من أيّ عهد تدفّق علينا بفنّه الرائق…؟ بشلالاته أُسْدِه وشجيرات محّاراته..؟ وصدفاته الملساء..؟ وعناقيده المدلاّة الصّافية كثريّات الذهب، أو كالبلّور الناصع النقيّ..من أيّ عهد نبع ونبغ ونبت هذا الشاعر النثّار.. والحالم السّماوي…؟ كان عطاءً من نوع خاص، جادت به تربتنا الفيحاء، ونفخ فيه تراثنا العريق، واستظلّته أدواح الغرب، فكان هذا الحلم المبعثر بين ثنايا الزّمن..هذا الشّادي، الحادي الذي تحوّل اليراع على يديه إلى نايٍ مصداح فى لمح من العين، فأطربنا وأشجانا، وأعذبَ الكلامِ وحلوَه أسمعنا .لقد كان بحقّ صوتاً فريداً في الأدب المغربي أثقلته حمولة من مسكٍ وعنبر.
قال الأديب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمه رحمه الله، عندما قدّم كتاب محمد الصّباغ « اللهاث الجريح» (1955): «يعتبر الصباغ من ألمع رجالات النهضة الأدبية في المغرب العربي، فهو كاتب تتفجر عواطفه وأفكاره من شق قلمه عنيفة، صاخبة، ولذلك تراه يتنكّب العادي والمألوف من قوالب البيان. إذا نظم فبغير وزن وقافية كما تشهد مجموعته الشعرية المترجمة إلى الإسبانية «شجرة النار»، وإذا نثر كسا مفرداته وعباراته حللاً من الألوان بين زاهية وقاتمة، ثم أطلقها تدرج على أوتار تعدّدت مفاتيحها وتنوّعت قراراتها».
كان بديعاً في الديباجة، رائعاً في المعاني، أديباً سما به أدبُه، ما مافتئنا نستحضر، ونتذكّر كتاباته التي تطفح بالتفاؤل وتحفل بالآمال، ونردّدها في ما بيننا بين الفينة والأخرى، وعلى الرّغم من الألم الممضّ الذي يعصرنا، والحزن العميق الذي يهدّنا، فإنّه مع ذلك ما زال يجعل شفاهَنا تندّ حتى اليوم عن ابتسامات صافية عريضة في زمنٍ كئيب شحّ فيه الابتسام..!.

*كاتب من المغرب، عضو الاكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.


الكاتب : د. محمّد محمّد خطّابي *

  

بتاريخ : 03/05/2021