1
إن الراصد لطرائق تشكل أهم المنجزات الشعرية العربية المعاصرة ، سيلاحظ سعي أصحابها الدائم لإيجاد أشكال وصيغ فنية جديدة قادرة ومؤهلة للتعبير عن هموم ومشاكل الإنسان العربي، على المستويين الوجودي والاجتماعي، خاصة ونحن نعلم أن ظروف واقعنا الحديث قد وصلت إلى درجة من التعقد لم يكن لها مثيل من قبل، أدت إلى تغيرات عميقة ومتلاحقة في علاقة الإنسان بالإنسان والمجتمع والطبيعة. ومن هنا فالقضايا التي تواجه الشاعر المعاصر في هذه اللحظة ليست جديدة فحسب، وإنما تختلف بصورة كلية عن كل القضايا التي طرحت في عصور سابقة.
لقد ظلت شهوة التجريب ، في هذا المجال، مستمرة ومتوقدة عند ثلة ممتازة من شعرائنا المعاصرين المنتمين، على الأخص، لجيلي الرواد والستينيات، هؤلاء الذين امتازوا بعدة خصال، منها استيعابهم للشعر العربي القديم وتمكنهم من أسرار صنعته، واطلاعهم على العديد من معطيات الفكر الإنساني، وتفاعلهم الخلاق مع الحركة الشعرية العالمية بمدارسها وتياراتها المتباينة، وانفتاحهم لاستقبال الكثير من المفاهيم والأساليب الشعرية المستحدثة، من ثمَّ استطاع كل واحد منهم، وبطريقته الخاصة، أن يساهم إبداعيا وتنظيريا في إرساء العديد من أسس ومعالم القصيدة العربية المعاصرة في أفق تحديثها وتثويرها.
ونحن عند تأملنا في مدونة هؤلاء الشعراء، من أصحاب التجارب الشعرية المتميزة ، سنجد أن أهم وأنضج ما أنجزوه، على مستوى التشكيل الفني، يتميز بتجاوز أشكال القصيدة البسيطة ذات الصوت المنفرد، والجنوح إلى كتابة القصيدة ذات المستويات المتعددة المعنى والمنطوية على أكثر من صوت واحد، تلك التي اتخذت منحى تركيبيا في بنائها الشعري ، حيث عمد شعراؤنا إلى إثراء وإخصاب قصائدهم ذات الطبيعة الغنائية بالعديد من عناصر وأساليب الأجناس الأدبية الأخرى كالتوتر والصراع والحوار وتعدد الأصوات والمونولوغ والأمكنة والاسترجاع والمعطيات السردية وتيار الوعي وتعدد الأزمنة والضمائر ، بالإضافة إلى استعارتهم لتقنيات بعض الفنون كالرسم والتشكيل والمونتاج والملصقات وغيرها، فضلا عن الأساليب الفنية الأساسية في الشعر كالرمز والأسطورة والصورة الفنية واللغة والبنية الإيقاعية.
إن هذا الوعي الشعري الجديد لدى شعرائنا في تمثل العملية الإبداعية من خلال توظيفهم هذا التنوع الهائل من العناصر والأساليب والتقنيات والأشكال، سمح للبنية الشعرية التركيبية بالحركة والصراع وتقابل الشخصيات وما يرافقها من حوار داخلي وخارجي، وتعدد الأصوات بتداخلها وتضادها وتدفقها الدلالي والإيحائي مما يغني من اكتنازها الحضاري والثقافي والمعرفي الجديد ويقوي من بنيتها وأساليبها وخصائص التركيب الشعري والفني والتعبيري والجمالي فيها.
ومن الملاحظ أن انفتاح الأجناس الأدبية والفنية وتداخل بعضها في بعض في وقتنا الحاضر، واستفادة كل نوع من خصائص النوع الآخر، لا يعني البتة ضياع الحدود الفاصلة بينها، فالمراد هو تبادل المزايا الداخلية، دون إحداث أي نوع من الإرباك فيها ، بل ربما العكس من ذلك، سيؤدي ذلك إلى تنمية وحيوية كل منها وتطويرها وتوسيع مداها، وفتح آفاق تعبيرية رحبة أمامها.
من هنا فالقصيدة الغنائية الحديثة بتمثلها وتوظيفها لتلك العناصر الدرامية والملحمية السالفة الذكر، لا يعني بالضرورة أنها قد أصبحت جنساً أدبياً موضوعيا، وأنها فقدت خصوصيتها الشعرية وجوهرها الغنائي، فالشاعر يعرض دوماً ما هو موضوعي وخارجي من خلال بؤرة الذات.
إن تشكيل النص الشعري ، ذي المنحى التركيبي /الدرامي ، لم يأت إلا بعد مسيرة طويلة مبنية على الخبرة والتجريب، ولم يتحقق إلا بوجود شاعر يملك إمكانات موهبية وثقافية ولغوية، ومهارات متعددة ورؤية متكاملة تعينه على إنتاج تجربة شعرية متميزة ومن طراز خاص.
2
لقد تميز أدونيس، طيلة مساره الشعري، بعدم استكانته أو ارتياحه إلى أسلوب ثابت، فبقدر حرصه على تنويع تجاربه، عمد إلى تطوير أدواته الشعرية بأساليب متعددة مستفيدا في ذلك من ثقافته وخبرته ونمو وعيه الشعري، حيث أدرك بأنه أصبح بحاجة إلى أدوات وأشكال جديدة للتعبير عن رؤيته الخاصة لنفسه وللعالم.
وهكذا ومنذ ديوانه الثاني» أوراق في الريح» (1958) ، قام بفتح نافذة جديدة في معمار القصيدة العربية المعاصرة تطل على آفاق حافلة واعدة ، بحيث يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة مقدمة أو بداية لاتجاه درامي ساد معظم منجزه الشعري ، وهذا مَعْلم كان جديدا بالنسبة للشاعر وعلى طبيعة القصيدة العربية آنذاك ، إن الأمر يتعلق هنا بكتابته ما يمكن أن نطلق عليه بـ « القصيدة ـ المسرحية» أو « الحواريات الشعرية « حيث قام بمسرحة أصوات القصيدة ، إذ سعى ، من خلال ذلك، لتجريب قدرات أوسع في مساحته الإبداعية والتي ستشكل لاحقا ميزة في شعره ربما كان يدرك هو أهميتها من خلال حسه الدرامي، لقد اقتصرت هذه المحاولات على أن تستعير من المسرح عنصر الحوار، ومن المعلوم أن الحوار يعتبر أهم عناصر المسرحية وأخطرها، فهو العمود الفقري للفن المسرحي ، ويمكن اعتبار هذه الكتابات المبكرة مؤشراً بارزاً على حرص شاعرنا على تطوير أدواته الشعرية وإكساب قصائده مزيدا من القيم الدرامية في طريق انتقالها من مستوى الصوت الواحد إلى مستوى الأصوات المتعددة، وقد أفصحت هذه الطريقة من الأداء الدرامي عن نفسها في نماذج نضجت وأثمرت في قصائده اللاحقة ، وقد كتبت د. خالدة سعيد عن هذه التجارب التي عايشت عن كثب تطورها بالقول: « بدأ أدونيس تجربة القصيدة ـ المسرحية منذ عام 1954 مع قصيدته « الفراغ» التي جاء الجو المسرحي فيها ممثلا بتوالي اللوحات ؛ ثم في عام 1955 كتب قصيدة « مجنون بين الموتى» ، فجاءت التجربة المسرحية فيها أنضج … بعدها جاءت قصيدة « السديم» أو المجانين الثلاثة وهي كذلك ذات بنية مسرحية ، تعتمد في الدرجة الأولى على حوار المجانين. إلى أن كان ديوان « المسرح والمرايا» عام 1968، طبعا ليست قصائد الديوان مسرحيات بالمعنى المعروف، وإنما هي محاولة لإغناء القصيدة بالعناصر المسرحية كتعدد الأبعاد وجوانب الإضاءة وتعدد الأصوات وخلق التيارات والعلاقات الداخلية والحوار على مستويات مختلفة …»
ومن نماذج القصائد الممسرحة نقف عند قصيدة « حزمة القصب» التي اتخذ لها الشاعر الشكل المسرحي إطارا، بما اشتملت عليه من تعدد للشخصيات ، وتطور للحدث عن طريق الحوار الذي يدور بين هذه الشخصيات أو الأصوات، حيث يجسد الشاعر من خلاله الصراع القائم بين من يمثل الإنسان الثائر الملتزم بقضايا شعبه، وبين قوى الطغيان والاستبداد التي تسعى لخنق كل إرادة حرة عن طريق الترغيب والترهيب أو التصفية.
وتبدأ القصيدة ، كما تتخللها ، بتلك الإرشادات النثرية التي يسوقها عادة مؤلف المسرحية كي يوجه القارئ أو الممثل أو المخرج ، إلى وجوب تنفيذ حركة ما أو انفعال أو صمت أو تصوير تعليق ما أو وصف شيء معين أو نحو ذلك:
« وجوه وأقنعة .قاعة بمداخل كثيرة من طراز قديم».
وجه 1 : أسمع أنّ الناس غاضبونْ
تَتّحِدُ الصلاةُ في قلوبهم والنارُ…
قناع 2 : ( باستهزاء):
غاضبونَ؟
سرعانَ ما يَرضون ، يَهدأونْ ـ
السّيف والذهبْ
يُطفِّئان نارهم …
وجه 1: تشبُّ من جديدٍ
قناع 2 : ( بحماسة) :
يشبُّ من جديدٍ
يلفهم كحزمةِ القَصَبْ
السّيفُ والذهب،
ولَهبُ الجريمهْ
(يصمت . يتابع كمن يحلم)
فترتخي القلوبُ
والرّكبْ
تصير مثلَ خِرقةٍ …
وَيُطْبَخُ الثوار كالفراخ في وليمَهْ…
(يضحك)
ويستمر الحوار بين ( وجه1) رمز الإنسان/ المبدع المؤمن بقيمة الكلمة وقدرتها على الاحتجاج، باعتبارها وسيلة يستطيع بها أن يكون ملتزماً بحق ، وهذه الكلمة التي يطلقها والتي تتنقل من جيل إلى جيل، قد يرى أن مغالبتها قد تزيد كثيراً على مغالبة السيف؛ وفي الطرف الآخر هناك ( قناع2) والذي يرمز به الشاعر إلى السلطة الطاغية ، تلك التي تتفنن بشتى الوسائل لتستميل بها الشعب، فتستخدم المال( الذهب) كوسيلة لإغرائه واستمالته ، فإن هي فشلت في ذلك لجأت إلى القوة لإرهابه وإذاقته طعم العذاب في سجونها ومعتقلاتها التي فتحتها لخنق كل صوت حر حتى يكون عبرة لغيره. ويرد وجه (1) على قناع (2) مستنكراً عليه أعمال الغدر والخيانة، واصفا إياها بأنها أعمال وضيعة:
وجه 1 : تحتقرون الناسَ، تَزْربونهم
للذّبح،
تأكلونهم …
قناع 2 : ( مستغربا ):
حنجرة جديدة
شحذَْتها بشفرةِ الثُّوارِ؟
( بلهجة الناصح)
خلِّ الشعبَ ياصديقي،
فهو ، كما اختبرتُ، مثلُ وحشٍ يظلُّ في غَضَبْ
إلا إذا أطعمته للسيفِ
أو لقمته الذهب.
( يخرج) .
وتظهر في القصيدة أقنعة أخرى بعضها يمثل تلك الشخصيات التي تعتبر أدوات في يد الحكام الفاسدين لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية في حق الشعب المغلوب على أمره، وهذه الشخصيات تتميز عادة بنفاقها وتملقها لهؤلاء الحكام حتى تضمن لنفسها العيش الرغيد، وإن كانت تمثل، من خلال أفعالها الدنيئة، قمة الخيانة في حق الوطن وضد مصالح الشعب.
وهناك ( أقنعة منحنية حتى الأرض، في إحدى الزوايا تقف امرأة كالتمثال ، تحضن جمجمة).
قناع 1 : ( يبدو كالبرميل لا رأس له، يخاطب وجه (1) مشيراً إلى الأقنعة المنحنية):
الشعبُ ، تعويذتُكَ الدائمهْ رَأيتَ؟ ( يشير باحتقار إلى الأقنعة المنحنية)
وجه 1: ( بغضب) :
لا،
صورتُكَ الغاشمهْ
عرضتَها.
الشعب ليس قشاً
تحنيه، أو قناعاً …
قناع1 : ( ثائراً) :
خذوهُ،
خلّوا رأسه هديّهْ
كأساً من العظام،
آدميّهْ.
( يخرج بعض الأقنعة وهم يجرُّون وجه1).
( تدخل أقنعة جديدة) .
وهي تلك التي وصفنا، آنفا، أدوارها بجانب السلطات الغاشمة الظالمة، فهي جزء منها، وقد استمرت في بطشها بالأحرار، ومن ضمنهم (وجه 1) رمز المبدع الملتزم الذي سيق إلى مصيره المحتوم، وكأن هذا المصير كان جزءا من التتويج لرسالته النبيلة، لأن للكلمة جزاءها ولا يمكن أن يصبح المبدع ( قديسا) إلا إذا استشهد في سبيل كلمته وتحمل أوزارها، كما استشهد مكافحون آخرون في سبيل مواقفهم وهم يقفون في وجه الطغيان وصانعي مآسي الإنسان.
من البيِّن أن أدونيس لم يكن يريد لمثل هذه الحوارية/الحواريات الشعرية أن تكون مسرحية وإن اشتركت مع المسرحية في بعض العناصر، كما أنه ، في الغالب، لم يضع نصب عينيه تلك العناصر المتصلة بالعرض المسرحي، من أداء وحركة وغناء وأضواء ومكان وزمان وإخراج، مما يسمى بـ (المسرح الشامل) وإن تعددت في هذا المجال وجهات نظر أهل المسرح.
لنقرأ ، مثلا ، وصفه لصلب مهيار في هذه التوجيهات النثرية من حوارية شعرية أخرى بعنوان « تيمور ومهيار» : « تنصب خشبة تغطيها أمشاط الحديد. يُمدد عليها مهيار. يربط ، يجلد حتى يتقطع لحمه. يسمّر رأسُه بمسامير حُميت في النار. يؤخذ إلى السجن. يبطح على وجهه. توضع أسطوانة من الحجر على ظهره . تقيد بالحديد يداه ورجلاه».
ثم قوله « يُمدّد بين خشبتن. يقطع رأسه. يقطع جسده إلى أجزاء صغيرة تُرمى في جبٍّ للأسود ، الأسود لا تأكلها، بل تنحني وتبتعد عنها».
فهذه المشاهد لا يمكن تقديمها على خشبة المسرح، بل إن السينما نفسها قد تعجز عن تقديم العون للمسرح في عرض مثل هذه الصور. وعلى ضوء ما سلف، يمكننا تسجيل الملاحظات الآتية :
أولا : تطور أدونيس من الناحية الفنية كان تطوراً مستمراً ، فقد اختار عن وعي شديد وبقدرة فنية أصيلة أن يساهم في تجديد شكل القصيدة العربية مساهمة جريئة وعميقة . وما كتابته للقصائد الممسرحة، ومنذ فترة مبكرة، سوى شكل من أشكال هذا التجديد.
ثانيا : اهتمامه بدراما القصيدة، وبتعدد الأصوات في بناء القصيدة عنده، نرى أنه يحقق أكثر من قيمة فنية وموضوعية، ومنها:
1 – تخلص القصيدة العربية من الرتابة النفسية التي تتعرض لها عادة عندما تعتمد على الصوت الواحد، ذلك أن القصيدة التي تعتمد على صوتين وأكثر ، تملأ العالم الشعري بالحيوية ، وبالأنغام المتنوعة المتعددة التي يتم تركيبها بطريقة فنية تجعل منها أقرب إلى السمفونية المتعددة الألحان منها إلى اللحن المتكرر الممل.
2 – اعتماد القصيدة على أكثر من صوت يقرب خطوات الشاعر العربي من « الدراما « ، حيث تحتاج الدراما إلى الديالوج بدلا من المونولوج أو الحوار الفردي حيث يتكلم صوت واحد ويعبر عن نفسه بطريقة مباشرة . كما أن الدراما تحتاج إلى رسم الشخصية الإنسانية وتصويرها بصدق وأمانة، وليس من الإبداع الصادق الأمين أن نتصور الإنسان بلا قلق ولا تمزق ولا حيرة. وكلما اعترف المبدع بالقلق الإنساني، وكلما اعترف بتعدد الأصوات في النفس البشرية ، كلما استطاع بذلك أن يقترب من الإبداع الأصيل الرفيع.
3 – بناء القصيدة على أكثر من صوت واحد يعتبر من الناحية الموضوعية درجة عليا من درجات الفهم للتجارب الإنسانية، وهذه الدرجة العالية من الفهم تحمي المبدع من رؤية السطوح الخارجية للتجارب والاكتفاء بها، وتحميه من التعبير المباشر عن قضاياه.
ثالثا : لعل أدونيس بتجاربه السالفة ، كان يتجه نحو تبني النظرية الحديثة التي تلغي مبدأ الفصل بين الأجناس الأدبية ، حيث دعا إلى « تجاوز الأنواع الأدبية [ النثر، الشعر ، القصة، المسرحية …إلخ] وصهرها كلها في نوع واحد هو الكتابة.
وقد أكد على هذا التوجه موضحا مرة أخرى بالقول « يجب أن تتغير الكتابة تغيراً نوعياً ، فالحدود التي كانت تقسم الكتابة إلى أنواع، يجب أن تزول ، لكي يكون هناك نوع واحد هو الكتابة ، لا نعود نلتمس معيار التمييز في نوعية المكتوب: هل هو قصيدة أم قصة؟ مسرحية أم رواية ؟ وإنما نلتمسه في درجة حضوره الإبداعي».
وقد حقق أدونيس بعضا من هذا في جملة من أعماله الإبداعية اللاحقة، والتي لم تكن مغلقة على ذاتها، أي لم تكن مُشكّلة من جنس واحد صاف، بل اتسمت بانفتاحها على فضاءات أجناسية مختلفة ، حيث تجاورت فيها عناصر من فن الشعر والنثر والقصة والمسرح وغيرها.
وبالفعل ، فهناك العديد من شعرائنا المعاصرين المتميزين من اتجه نحو هذا المنحى ، بتبنيه لتداخل الأجناس داخل منظومة القصيدة العربية المعاصرة، وذلك من خلال خلق حوار بين شتى الأجناس الأدبية، وهو اتجاه يعتبر النص كتلة إبداعية واحدة، تتجاور فيها مستويات الخطاب، وتتفاعل فيها تقنيات التعبير وأساليبه المتعددة ، فيعتمد النص ، من ثمة ، على تعدد وتنوع الضمائر، والاتكاء على تحديد عناصر المكان والزمان والحدث، وعلى تداخل الحوار بمستوييه الداخلي والخارجي، وعلى البناء القصصي والدرامي وتنوع الشخصيات بصفاتها وأفعالها ، مما يكون له بالغ الأثر في تنوع الرؤى والمواقف الشعرية، بالإضافة إلى ما عمد إليه هؤلاء الشعراء من توظيف لشتى الأقنعة التراثية التي تحمل معها مرجعياتها وحمولاتها الفكرية والثقافية فتعزز الموقف الشعري وتزيد من قوة الثراء اللغوية والدلالي للنص.
-3-
يمثل القناع ملمحا هاما يميز القصيدة العربية المعاصرة في تشكلاتها الأسلوبية الجديدة التي تستوعب الأساليب السردية والدرامية . وتنهض قصيدة القناع على تجربة رؤية داخلية تجمع أنا الشاعر بأنا مغاير أو أكثر ، فهي القصيدة التي ينطقها صوت ثالثا ناجم عن تفاعل صوتين ، هما صوت الشاعر وصوت الشخصية التي يتماهى معها، وهذه القصيدة وليدة حركة درامية بالغة القوة والتوتر بين الشخصيتين.
وقد استطاعت قصيدة القناع هذه أن تؤثر في حركة الشعر العربي المعاصر حيث « برزت في الأعمال الشعرية الجديدة الأقنعة التاريخية والأسطورية والأدبية ، المستقاة من عيون التراثين العربي والإنساني. وكان لهذا الاستخدام وظيفته الجمالية والموضوعية، فقد ساعد على كسر حدة الرتابة الغنائية في القصيدة العربية ، وأسهم في إثراء وتوسيع مناخات التعبير، كما جعل الدراما في القصيدة الحديثة جزءا من دائرة التشكيل والإيقاع ، وعنصراً من عناصر التطور والتحديث الفني والموضوعي».
ومن الملاحظ أن التجربة الشعرية هي التي تحدد أهمية القناع ، وأهمية استخدامه . فهناك العديد من التجارب مما لا يحتاج معه الشاعر إلى أي قناع بالمعنى المألوف للقناع، بل إن هناك تجارب يمكن إطلاق أفق الإبداع فيها عبر وسائط أخرى كثيرة غير القناع.
كما أن الشخصيات التراثية بمصادرها المتعددة لا تصلح جميعها، كما نرى، لكي يستخدم القناع لإبرازها ، لأن بعض هذه الشخصيات لا تمثل سوى العصر الذي وجدت فيه. لكن هناك شخصيات أخرى كان لها القدرة على الديمومة والاستمرار في الرحيل من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، بعد إضفاء بعض الملامح الجديدة عليها والتي هي من ملامح الحاضر، وذلك لكون هذه الشخصيات التراثية أو المعاصرة لم تعش في زمانها حياة مسطحة، ولم تعش عمراً راضياً ليناً مستقراً، إن رموزاً مثل: علي والحسين والحجاج ووضاح اليمن وعبد الرحمن الداخل والحلاج وأبي العلاء المعري …إلخ ، لا تجسد لحظات عادية ولا تمثل، حين تندرج في سياق الزمن ، أجزاء ساكنة متناغمة بل موجات ممتلئة بالحركة والصراع والتفرد.
وبالإضافة للأسباب الفنية التي دعت الشاعر المعاصر إلى توظيف أسلوب القناع، فهناك كذلك أشياء لا يمكن البوح بها والتعبير عنها بشكل مباشر، نظرا لسيادة الأنظمة السياسية الغاشمة في البلدان العربية ، مما حتم على الشاعر أن يلجأ إلى توظيف الأقنعة ليبث من خلالها آراءه ومواقفه أو ما يرغب في الإيحاء به، وهذه وسيلة من وسائل الإبداع المستخدمة في الرواية والمسرحية والقصة القصيرة وسواها من الأجناس الأدبية.
وفي القديم تمكن الشاعر الدرامي بواسطة القناع من اختراق التابو، فاستطاع أن ينجو من المقصلة ، في حين حُكم على سقراط بالموت بتهمة التجديف. لقد أُعدم الفيلسوف بينما نجا الشاعر، والفضل في ذلك يعود إلى القناع، لأنه كان يوفر الحماية من قول الكلام مباشرة بلسان الشاعر.
على ضوء ما سلف ، فإن من الطبيعي بالنسبة لشاعر حداثي معاصر مثل أدونيس ، أن يلجأ إلى توظيف القناع/ الأقنعة كوسيلة تعبيرية ذات فاعلية لاستشراف شمولية أوسَع للتعبير عن رؤياه تجاه الواقع والعالم، ولما فيه أيضا من إثراء لتجربته الشعرية ، هو الذي توزعت درجات الشعرية عنده على أكثر التنويعات التعبيرية في الأساليب الشعرية المعاصرة.
وقد تعددت أقنعة أدونيس ـ على سبيل المثال ـ بين ما هو أسطوري (أدونيس ـ جلجامش ـ الفينيق ـ تموز ـ سيزيف ـ أورفيوس …) وتاريخي ( عبد الرحمن الداخل ـ الحجاج ـ علي بن أبي طالب ـ معاوية ـ القرمطي …) وديني ( نوح ـ زرادشت ـ الرسول محمد ـ سليمان ـ الحسين ) وصوفي ( النفري ـ الغزالي ـ الخضرـ الحلاج) وأدبي ( المتنبي ـ أبو العلاء المعري ـ أبو تمام ـ أبو نواس ـ بودلير ـ ريلكه..).
بالإضافة إلى هذه الأقنعة/الرموز، هناك أقنعة شخصية أخذت شكل الاسم العَلَم ومن أهمها : « عليّ « في قصيدته « هذا هو اسمي» وديوانيه:» مفرد بصيغة الجمع « و» المطابقات والأوائل»؛ و «إسماعيل» في « كتاب الحصار».
كما عمد الشاعر إلى ابتكار قناع خاص به ابتكارا محضا ، ويتعلق الأمر بالقناع الرمز» مهيار « الذي استخدمه في ديوانه في ديوانه الشعري «أغاني مهيار الدمشقي « الصادر سنة 1961 . وقد تعدت سيطرة هذا القناع على هذا الديوان بأكمله، إلى حضوره، بشكل أو بآخر، في أعمال شعرية أخرى لاحقة، وهي:» كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل» و «المسرح والمرايا» و» هذا هو اسمي « و» المطابقات والأوائل» .
ونحن ، في هذا الحيز، سنكتفي بالوقوف على قناعين رمزيين أساسيين يمكن اعتبارهما من أهم أقنعة أدونيس. الأمر يتعلق بـ « مهيار الدمشقي» باعتباره شخصية مبتكرة ، و» صقر قريش « ( عبد الرحمن الداخل) باعتباره نموذجا للاقنعة التي تستند إلى شخصيات حقيقية من التاريخ.
أولا : مهيار الدمشقي.
لقد اتجه مجموعة من الباحثين والنقاد لإيجاد بعض المسوغات أو أوجه التشابه التي تجمع بين هذا القناع وبين الشاعر العباسي مهيار بن مرزويه الديلمي الذي عاش في أواخر القرن الرابع للهجرة وبداية القرن الخامس (360 هـ ـ 428 هـ) . حيث أشار د. كمال خير بك بالقول :» كان مهيار الديلمي ، الذي أوحى لأدونيس بشخصية « مهيار الدمشقي» شاعراً من الطراز الأول في العصر العباسي ( نحو عام 1037 ) . ولكن أصله الفارسي وتشيعه جعلاه يتلقى تهمة « الشعوبية» ، كما تجاهله مؤرخو الشعرالعربي وأهملوه. أما أدونيس ، الذي كان منتميا في البدء لتيار فكري وسياسي وُجَّهتْ له التهمة ذاتها، والذي خرج من وطنه الأصلي وتعرض لتجاهل الأوساط الأدبية وعدائها في أغلب الأقطار العربية ( خصوصا في سوريا، موطنه الأصلي ، وفي العراق ومصر) فإنه يتمتع بأكثر من سبب للتعرف إلى نفسه في تجربة مهيار».
أما د. جابر عصفور ، فقد ذهب إلى أن « كلا الشاعرين ـ الديلمي والدمشقي – متمرد يعيش رافضاً عصره، وكلاهما عانى من هذا الرفض، فلاحقته لعنة الاتهام وسوء الظن غير مرة، بل انسحبت لعنة الأول على الثاني، فاقترنت شعوبية الديلمي بما سمي شعوبية أدونيس ـ الحزب القومي السوري ـ اقترانا غير حميد . ومع ذلك فليس يربط بين أدونيس والديلمي سوى التمرد… إن « التمرد» و « الشعر» هما الشيء المشترك بينهما فحسب».
وعن هذا الموضوع بالذات، أوضح أدونيس دواعي ابتداعه لهذا القناع كالآتي: « لا شك في أن وراء ابتكاري لشخصية « مهيار الدمشقي» تأثراً بنماذج غربية : زرادشت نيتشه، فاوست غوته ، ما لدورُور لوتريامون. وهناك بعض النقاد العرب خلطوا بين شخصية : «مهيار الدمشقي» والشاعر مهيار الديملي، وليس ما يجمع بينهما غير الاسم» مهيار» ، ما عدا ذلك ، لا صلة بينهما، إطلاقا، على أي مستوى.
وقد أردت من ابتكار هذه الشخصية أن أخرج من الخطاب الذاتي الشعري المباشر، وأن أقول عالمنا بلغة غير ذاتية ، لغة رمزية تاريخية، موضوعية ، ينطق بها شخص، رمز وأسطورة في آن . وهو ، في ذلك أكثر من قناع …».