التصلب اللويحي، مرض لايكشف فقط طبيعة العلاقة بين الدماغ وبقية أعضاء الجسم، التي تتضرر نتيجة لإتلاف الغشاء المحيط بالأعصاب، وإنما يظهر لنا علنا تصلّبا بصيغة أخرى، هو الآخر مرضيا في عمقه، وقسوة غير مبرّرة، في تعامل بعضنا مع بعض المرضى، في نظرتنا لهم، وفي حكمنا الجاهز عليهم، حيت يتعالى البعض منا، ويحدج غيره بنظرة قاصمة للظهر.
مرض يبيّن لنا عطبا كبيرا نعيشه، وشرخا عميقا يتسع يوما عن يوم، ويبرز لنا الحاجة الماسة إلى ليونة للتعاطي مع هذا المرض والتعامل مع مرضاه، الذين يعانون الأمرّين، الذين يعيشون معاناة متعددة الأوجه، صحية، على المستوى العضوي والنفسي، اجتماعية واقتصادية، وإنسانية بالأساس.
إنه أحد الأعطاب التي تؤثث يومياتنا، سقم يخلّف الكثير من الأنين والوجع، لايتطلب مخططات وبرامج نظرية، فمرضاه في حاجة ماسة إلى خطوات عملية، لإنقاذ مايمكن إنقاذه، حتى يحس الذين يعانون منه بآدميتهم، وبحفظ ماء وجههم وصيانة كرامتهم، فهم ليسوا في حاجة إلى آلام أخرى، تنضاف إلى تلك التي يعيشونها.
محمد بركاوي، رئيس الجمعية المغربية لمرضى التصلب العصبي المتعدد بوجدة:
مرض يحمل أرواح المرضى على أكتافه إلى قبر غابر
التصلب اللويحي، التصلب المتعدد، أو التهاب الدماغ، هي كلها مسميات لمرض مزمن واحد يمكن وصفه بـ «مرض العصر» ازدواجي الخطورة، مما أدى إلى جدل طبي عالمي.
مرض، تكمن خطورته الأولى في استهدافه لفئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين و الأربعين عاما، في أوج عطائهم ومجدهم الجسدي والمعنوي. وخطورته الثانية تكمن في الهجمات العنيفة التي «يشنّها» هذا المرض على المصاب، الذي يعيش حالة صراع دائم مع نفسه بنتيجة لإصابة جهازه المناعي مما يؤدي إلى إتلاف الغشاء العازل للعصبونات بالدماغ والحبل الشوكي، فتتعدد الأعراض، مابين مشاكل بصرية، حركية وإدراكية، إلى المشاكل الأكثر شيوعا والتي تحدث على الجهاز العصبي الذاتي وتؤثر عليه، كما هو الحال بالنسبة لـ «التقلص العضلي، صعوبة الحركة، صعوبة نطق الكلام، مشاكل في النظر…»، وكل هذا يدخل المريض في دوامة من المشاكل النفسية التي تصل به إلى حد الاكتئاب، فضلا عن المعاناة التي تكون بفعل التطورات العنيفة للمرض والتي تأتي على شكل هجمات أو انتكاسات تزيد حدتها بتعرض المريض لدرجة الحرارة.
كل هذا وأكثر يعاني منه مريض التصلب اللويحي في العالم بأسره، والذي لا يرجو شفاء بقدر ما يأمل في أن يتوقف هذا المرض عن التطور، و السير نحو المجهول، فما يعانيه المريض بالمغرب هو أكثر من هذا بكثير، لأن المصيبة عنده مصيبتان، والداء لديه داءان، إذ أن هذا المريض، الذي قد يعاني في أغلب الأحيان من شلل جزئي أو كلي، هو يعيش في مدينة لا يتواجد فيها حتى قسم استشفائي واحد وخاص، مما يجعله عرضة لتوالي الهجمات وهو ينتقل من مدينة إلى أخرى في ظروف قاسية مادية ومعنوية، إضافة إلى التعب الجسماني الناتج عن مختلف ظروف هذا التنقل وتداعياته، الأمر الذي يعاظم من محنته، التي لاتقف تفاصيلها عند حدود الآلام العضوية والنفسية، بل تتخذ مناحي متعددة، اجتماعية واقتصادية وغيرهما…
لقد أصبت بمرض التصلب اللويجي سنة 2009، وأنا من مواليد سنة 1975، مسيرتي مع المرض هي مسيرة قتالية، شأني شأن العديد من المرضى، أتوفر على بطاقة «راميد»، التي لاتغطي سوى زيارة طبية بئيسة، لا تفتح نافذة أمل، ولا تخفف نبض ألم. إنني ومن خلال منبر «الاتحاد الاشتراكي»، أناشد كل المسؤولين لتمكيننا من تغطية صحية فعلية، وأن يتم توفير الأدوية للمرضى، التي هي متداولة عالميا وكباقي الدول العربية والشقيقة بالمجان.
رجاء لا تتركونا مكبلي الأيدي ننتظر أن يختطفنا الموت! نرجو منكم العمل على تسهيل الولوجيات للمصاب بالمستشفيات المغربية، التي لا تفرق بين مريض بالزكام ومصاب بالتصلب اللويحي…
إننا نعيش في جوّ من التعتيم الطبي، فالناس يجهلون معنى هذا المرض وتداعياته. إن المريض المصاب بالتصلب يأمل في أن تتكلف الجهات المسؤولة بتنظيم حملات لرفع الوعي والتعريف بالمرض الذي قضى المصابون به السنوات الطوال وهم تائهون، عاجزون، عن معرفة ما بأجسادهم الباكية وجعا وألما!! التصلب اللويحي بالمغرب مرض يحمل أرواح المرضى على أكتافه إلى قبر غابر!
ازدراء .. غياب الاستقلالية .. والإحساس بالدونية…
هند العلام .. تفاصيل قصة عمر مع الداء
بالعاصمة الإدارية الرباط، كان اللقاء، توجهت صوب مكان الموعد، وهناك وجدتها تنتظر في ركن بعيد عن أشعة الشمس، كانت متوقفة تضع قبعة على رأسها، وتتكئ على عكاز. توقفت بسيارتي فبدأت تخطو بخطوات بطيئة في اتجاهي تبيّن لي منذ النظرة الأولى على أنها لم تكن بالسهلة، فتحت لها الباب، وتطلّب صعودها بضع لحظات لتلج إلى الداخل، ثم لتجلس، قبل أن نتبادل السلام، وأستفسرها عن أقرب مكان يمكن لنا أن نجلس فيه لنتواصل وتحكي لـ «الاتحاد الاشتراكي» قصتها مع مرض التصلب اللويحي.
هند العلام، شابة تبلغ من العمر 36 سنة، كغيرها من الفتيات كانت تمني النفس بكثير من الأماني، وكانت تحلم بمستقبل مغاير، وبوضع أفضل مما هي عليه اليوم، هذه الشابة التي تعيش رفقة والدتها، والتي وجدت نفسها مضطرة لمغادرة مقعد الدراسة من مستوى الباكلوريا، بالرغم من كونها كانت مجدّة ونشيطة، لأن المرض الذي أصيبت به وهي تبلغ من العمر 15 سنة، وقاومته جهد الإمكان، استطاع أن يفرمل مسيرتها ليس الدراسية فسحب، وإنما حتى المهنية، بالنظر إلى أنها لم تتمكن من أن تجد لها عملا يؤمن لها دخلا، يعينها على متطلبات الحياة اليومية، وعلى مواجهة الداء.
قصة هند هي واحدة من بين قصص كثيرة لمرضى التصلب اللويحي، قصة بألف معاناة ومعاناة، عنوانها وفصولها الألم المتواصل، ومع ذلك وبالرغم من كل الخيبات التي اعترضتها، كانت تتكلم وهي تبتسم، بلغة متفائلة، وإن كانت لاتخل من حزن، فهند تؤكد على أنها يجب أن تعيش اللحظة بآلامها وآمالها مادامت حيّة ترزق، ولاتخفي أنها تنتظر تغييرا، وتترقب بارقة أمل، قد تأتي لحظة، يوما، فتمنحها جرعة إضافية من القوة على الصبر وعلى الحياة.
تتذكر هند مراحها الأولى مع المرض، وتحكي كيف انطلقت «شرارته» من العينين، مرورا باليدين والقدمين، وكيف كانت لاتتحكم في حاجياتها الطبيعية، مبرزة أنها خضعت لفحوصات عديدة، بيّنت وجود «لطخة» في الدماغ، وأكّدت إصابتها بمرض، يطال الصغار والكبار، من الجنسين معا، مرضاه محرومون من الشمس، لايستطيعون ولوج البحر والحمّام، إسوة بغيرهم، ومدعوون إلى الحذر حتى لاترتفع درجات حرارة جسمهم، لما لذلك من تبعات وخيمة على صحتهم، بالنظر إلى أن «هيجان» المرض، كما وصفته هند، خاصة في فصل الصيف مما يؤدي إلى حالة شلل، وقد يتطور الأمر ليصل إلى حدّ الوفاة.
من بين التفاصيل المؤلمة التي تحكيها هند، تلك التي لها علاقة بالغير وبنظرات الآخرين وبالأحكام الجاهزة، ومن بين ماتتذكره في هذا الصدد، ما وقع لها في أحد الأيام، قبل سنوات خلت، وهي تمشي في الشارع العام بصعوبة، آنذاك لم تكن تستعمل عكازا، فكانت تترنح وتتمايل في وضعيات مختلفة، حتى تتمكن من مواصلة طريقها، فاستوقفها رجل أمن، الذي اعتقد بأنها في وضعية سكر، وظل «يستنطقها» إلى أن تأكّد من أنها مريضة وبأن شكه ليس في محلّه. واقعة حكتها هند بعين دامعة وبقلب يعتصره الألم، شأنها في ذلك شأن نعتها بالمعاقة في حالات معيّنة وغيرها من الحوادث التي عاشتها، والتي تقول أنها آلمتها، وتسببّ لها في ذلك الألم عدد من الأشخاص الذين يصعب عليها تصنيفهم، لكنها أكدت بالمقابل على أن هناك أشخاصا طيبين كثر، ينسونها أحداثا مماثلة.
مرض بدون علاج، هكذا أجابت هند عن الداء المصابة به، مبرزة أن المتوفر حاليا هو حقنة تفرمل من مساحة الالتهاب في الدماغ حتى لاتتسع رقعته، مؤكدة أنها تلج المستشفى 3 مرات في السنة، بفضل توفرها على بطاقة «راميد»، وتمكث به خلال كل فترة أربعة أيام، لتخضع للعلاج بـ «الكورتيكويد»، الذي يخفّف من معاناتها وآلامها ولكنه بالمقابل يفتك بعظامها، علما أنها تضطر وكغيرها من المرضى إلى إجراء تحاليل مكلفة خارج أسوار المستشفى حين يتعذر القيام بها داخله، كما أن هذه البطاقة لاتؤمن لها الحصول على علاج مكلّف يصل قدره على 12 ألف درهم، وهي التي تعيش وضعا اجتماعيا متأزما، وهي التي تحس بنفسها عالة غير قادرة على أن تكون منتجة.
مستشفى كغيره من المستشفيات لايستطيع تلبية حاجيات المرضى، بالنظر إلى قلة الموارد البشرية، وكثرة الأعطاب في التجهيزات وغياب الدواء أو قلّته، مبرزة أنه في عدد من المرات، خاصة خلال فترة الصيف، لم يجد العديد من المرضى أين ينامون لاستعمال الدواء نتيجة للاكتظاظ. إنه وضع مؤلم، تقول هند، موضحة كيف أنها تتمنى ألا يعيش الجيل الجديد من المرضى نفس المعاناة التي عاشتها، وبأن يتم الالتفات إلى هذه الفئة من المواطنين المغاربة، وأن يتم الاهتمام بحاجياتهم المرضية والاجتماعية، وأن تتكفّل بهم المصالح المختصة، كل من موقعها ومن منطلق مسؤوليتها.
«أعتذر من والدتي، فقد حمّلتها فوق طاقتها، وأنا التي أعيش عالة عليها، غير قادرة على أن أكون مستقلّة في ممارساتي اليومية»، هكذا أرادت هند أن تختتم الجلسة، موجّهة رسالة حب إلى والدتها، التي تعاني الأمرّين من أجلها، رسالة أرادتها كذلك أن توجّهها لمن يرمقونها وغيرها من المرضى بنظرات ازدراء، بشماتة، لتكريس الدونية، داعية إياهم إلى مراجعة أنفسهم قبل التلفظ بكلمة أو رمي الغير بنظرة، كلها سهام تمزق القلوب العليلة، قلوب أتعبها المرض ومخلّفاته، أرهقها الجحود والنكران، ولم تعد تقو على المزيد من الآلام.
آهات على امتداد الوطن
فضّل المرضى الذين تواصلنا معهم وأسرهم خلال إعدادنا لهذا الموضوع، ألا يخرجوا للعلن، وأن يكون التعبير عن محنهم مع التصلب اللويحي جماعيا، تعدّد المصرّحون بشأنها لكنها تطابقت وكأنها وردت على لسان واحد. مرضى، مشتكون، معذّبون، كما هو الشأن بالنسبة لـ «ح . ز» من مكناس، «ك . ا» من الدارالبيضاء، «ن . ح» من برشيد، «إ . ك» من سلا، «س . ر» من الحي الحسني بالدارالبيضاء، «إ . م» من أسفي، وآخرون، من الجنسين ومن مختلف الأعمار، ومن فئات اجتماعية متباينة، جمعهم المرض، ووحّدهم الألم، فقرروا توجيه صرخة واحدة بشكل جماعي، يترقّبون أن تجد آذانا صاغية، وان يكون لمناشدتهم وقع على نفوس المتلقين.
مرضى، لم يكن أمر تلقّيهم لخبر إصابتهم وطبيعة مرضهم بالأمر الهيّن، فقد نزل على العديد منهم كالصاعقة، خاصة وأنهم يجهلون عنه كل شيء علميا وعلاجيا ، لكن الصدمة الحقيقية بالنسبة لهم، وبناء على الشهادات التي استقيناها، والتي يعيشونها لحدّ الساعة، هي تلك التي تخص الجانب الاستشفائي. إن المصاب بمرض التصلب اللويحي، لا يستفيد من أي امتياز ولو كان بسيطا في المواصلات، أو في كلفة الدواء الباهظة جدا، ولا يملك تغطية صحية شاملة، باستثناء بطاقة «راميد» التي تخوّل له إمكانية الاستشفاء الأولي إذا توفر، علما أنه غالبا ما يتحمل مصاريفه من جيبه الخاص أو من عطف بعض المحسنين الذين رقت قلوبهم لهؤلاء المرضى الذين يحتجزون في متاهات العزلة والتهميش، علما أنهم يضطرون للانتظار لما يزيد عن الأربع ساعات عند باب «المستشفى» من أجل أخذ موعد طبي، الذي غالبا ما يتعدى تاريخه الأربعة أشهر…
هكذا تحدث المتضررون، وهكذا عبّروا عن بعض أوجه المعاناة، وهذه هي الرسالة التي قرروا توجيهها، رسالة ألم، رسالة عتاب، رسالة استغاثة في انتظار جواب. معاناة لها صور متعددة، ومن بينها أيضا، أن المصاب بمرض التصلب اللويحي، يكون عرضة نتيجة لعجزه وشلله لاستهداف كليتيه، فتعجزان عن الاستمرار في القيام بوظيفتهما الطبيعية، وغيرها من التبعات العضوية المتعددة «الهضمية والبولية…». عجز ليس شخصيا فحسب، بل ينضاف إليه عجز المنظومة، فقطاع الصحة لم يعمل على تكوين أطر وممرضين بالقدر الكافي، الذين يستطيعون التعامل مع مريض التصلب اللويحي بالمهنية التي يتطلبها هذا المرض على وجه التحديد، مقارنة مع باقي الأمراض الحركية الأخرى، تؤكد الشهادات، فالترويض الذي يتلقاه المصاب في كل المستشفيات المغربية يعكس، من وجهة نظرهم، جهلا تاما بالمرض، ويزداد الأمر حدّة في المناطق الهامشية التي لا يصلها الدواء، ولا تتوفر حتى على طبيب مختص في الجهاز العصبي لمواكبة المريض.