توطئة :
عودتنا أغلب القراءات التي اتخذت من الأعمال الدرامية ( التلفزية تحديدا) موضوعا لها، على أن تكون قراءات نقدية سردية ،تعتبر الحكاية او المضمون القصصي ، عموما، أساس العمل الدرامي، هذا ما يجعلها تركز اهتمامها على مكون الأحداث، والأفعال، فالشخوص فاعلة ، والأمكنة محتضنة للفعل وشاهدة عليه ، والأزمانة ( السابق واللاحق ) منظمة له كرونولوجيا.
لقد أهمل هذا الصنف من القراءات النقدية الصورة السينمائية، وما تقدمه للمتلقي من إيحاءات وتضمينات، تتجاوز حدود الإحالات والتصريحات، اعتمادا على كفاءة كل من السيناريست والمخرج، وقدراتهما على توظيف الإمكانات التقنية المتاحة، اليوم، بوفرة، توظيفا جماليا وشاعريا، ينأى عن التقريرية ويجعل المتلقي ينتقل من مستوى استهلاك المضامين والمحتويات، ذات الطابع الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي ……..الخ . إلى مستوى التورط والتواطئ، الايجابيين، مع الصورة السينمائية واستيهاماتها .
( بين لقصور ) عنوان يبئرالمكان :
يقوم عنوان المسلسل، باعتباره عتبة مؤسسة لأفق انتظار درامي ما، على ظرف مكان (…. بين ….) مما يجعل متلقيه المفترض، يخندق نفسه داخل حيز مكاني محدد ومحدود ،مكان يقع على الحدود والتخوم بين قصر وآخر، فهو( قصر) و( لا قصر ) هو ثالث مرفوع، عصي على التصنيف، يستوعب المتناقضات ، يتحول المكان بذلك إلى شخصيةرئيسية، بل بطل يحاصر المتلقي وشخوص المسلسل، على حد سواء، الغندور نفسه .
الجنيريك- الصورة:
الجنيريك هو خليط من الكتابة ( معلومات حول طاقم التمثيل والإخراج ) والصوت ( الموسيقى المصاحبة ) والصورة، في علاقتهم بالموضوعة الرئيسة، كالحب والثأر والظلم والعدالة …….الخ . مسلسل بين لقصور، مسلسل يحتفي ، من خلال الجنريك،بالصورة ويجعلها تنتقل من مستواها الإبلاغي إلى مستواها البلاغي السيميائي، المتمثل في إنتاج دلالة ( إضافية) ورمزية، ذات نفحة شاعرية . ولنا في النماذح الاتي ذكرها أمثلة :
يبدأ الجنريك بعرض مكان (بين لقصور) من خلال زاوية نظر فوقية ( لقطة الغطس) يظهره كفضاء دوني، وقطعة معزولة، اجتزئت من محيطها على شاكلة مستطيل، حيث البنايات بفعل محاذات بعضها للبعض تظهر كزنازن حي سجني …… تجعلنا هذه العزلة، على مستوى الصورة، نتحدث عن سلطة قدرية للمكان، حيث لا أحد حتى أجهزة الأمن، نفسها، لا تدخله إلا لماما . حي هو حكر على أهله ( لقصور تاريخيا هي عبارة عن قلع أو فضاءات محصنة تكفي ذاتها بذاتها ) .
حي لا تغادره الشخوص إلا ميتة، حيث نشير الى : الطفل ( بيزي ) والزبير ابن لغندور ولغندور، هذا الأخير توفي وهو على أهبة مغادرة بين لقصور، على متن سيارة الأمن . فشخوص المسلسل تتحرك داخل فضاء هو من الضيق بمكان، فهي تسمح بالكاد بمرور الحاج ( ميلود الحبشي ) على كرسيه المتحرك ،الشيء الذي جعل أغلب اللقطات والمشاهد تتسم بعمق حقلها .
حيز مكاني أو مجال لا يعرف فسحات للاستجمام والترويح عن النفس، حيث يوجد الفضاء الواحد والوحيد لذلك، خارج مكان بين لقصور، على نحو ما نتابعه في افتتاحية الجنريك : نافورة خلف شخصية لغندور، عبر عمق الحقل، فالحياة تقع في الخارج، تقع في مكان أدار له لغندور ظهره .
نشير في هذا السياق، إلى مشهد سكينة ، خلال مستهل الحلقة الأولى، داخل فضاء المقبرة، تترحم على روح زوجها، قبل أن تهاجر صوب منشئها بين لقصور، رغم معارضة أبنائها . رحلة من عالم الأموات ( المقبرة) إلى عالم الأحياء – الأموات ( بين لقصور ) .
سلم اللقطات :
أغلب اللقطات المتعلقة بشخصية لغندور، هي لقطات مكبرة تسمح بإظهار وحشية ولا إنسانية هذا الأخير، حيث نتابع، غير ما مرة، شخص لغندور وهو يمررأصابع يديه،( الممتلئتين والصلبتين، المزينة بحلي تنم، عن ذوق وضيع) بخيلاء على رأسه وصلعته، الموحية بالقحط والجفاف، مخ يملي وأيادي تنفذ . فجميع حالات الوفاة، جاءت على يده سواء بشكل أو بآخر، إنه الشخص الذي يأتي الموت على يده . شر قدري لن تتم مجابهته، إلا من خلال حدث الزلزال، باعتباره قدرا وحتمية طبيعيتين، تم توظيفه، من طرف كاتب السيناريو والمخرج، توظيفا ذكيا، فهو بالإضافة إلى بعده الإحالي والمرجعي، أي باعتباره حدثا عرفته بلادنا خلال ليلة من شهر شتنبر من سنة 2023، فقد أحاطت به طقوس وسلوكات، لعبت دورا في البنية السردية للمسلسل، حيث كان المهماز الذي وجه المستوى الماكرو سردي، مما جعل المتلقي ينتقل من وضع سردي لآخر :
الوضع الأول : لغندور وعصابته يحتكران المكان .
الوضع الثاني : واقعة الزلزال تعمل على بلورة وضع سردي ثالث
الوضع الثالث : بروز مظاهر التلاحم والتوادد بين ساكنة بين لقصور من جهة وبينها وبين ساكنة الجبال والأرياف ، ونجد بالمقابل مشهد لغندور وحده منبطحا على بطنه داخل ( ورشته) بعد أن أصيب بأشياء متطايرة ، كبداية النهاية وإيذان باقتراب ( أفول نجمه ) كمتزعم لقطب الشر،حيث سيبلغ سلوك التلاحم والتعاضد، وبروز الحس المدني، أوجه وذروته، مع حدث تأسيس جمعية بين لقصور، وتخصيصها ببناية قائمة الذات .
الوضع الرابع : الانتقال من امبراطورية الشر والموت الفائقين، إلى امبراطورية الحب والحياة، حيث الكل يستعيد محبوبه، وموضوع رغبته على نحو منظم ومقنن ( الزواج) :
فريد الطبيب وسكينة
علي ( 14)ووردة
حمودة وعفاف
صطوفو الشريفة .
وضع جديد، لن يكون هناك من يعكر صفوه، أو يشوش عليه . فقد مات لغندور مبيدا نسله وذريته ( الزبير و الجنين في بطن شريفة ) .
وإذا كانت جميع شخوص المسلسل، مشدودة على نحو من الانحاء، إلى شخص لغندور و متعالقة به، كمركز جذب، سواء على المستوى المادي ( أفراد عصابته) أو على نحو رمزي ومعنوي ( ضحايا جبروته ووحشيته الراسخة والعالقة بالأذهان ) فإن شخص ( الأحمق أو المجذوب أو الناطق بالحكم صاحب الشعر الكثيف) يبقى الشخص الوحيد المستقل بذاته، فهو الشاهد والراوي والعارف بخبايا بين لقصور وضميره الحي. شخص حضوره المتخلل للمشاهد، يعتبر ضروريا،هذا ما يجعله من الظاهرين الأوائل، على الجنيريك، وهو يدخل بين لقصور راقصا …..