في كل منطقة من مناطق المغرب، تواصل عدد من البنايات والمآثر، التي تشكّل جزء مهما وأساسيا من الذاكرة الفردية والجماعية، الوقوف بشموخ، وإن كانت تعاني الإنهاك، بعدما فعل فيها الزمن فعلته، حتى صارت تعيش مرحلة “أرذل العمر”، وتنتظر وقوعها أرضا، لتختفي كما لو أنها لم تكن يوما، فتلاقي بذلك مصير العديد من المعالم التي تم طمسها سابقا، وحلّت محلّها بنايات مفتقدة لأي روح، كان الهدف من وراء تشييدها الربح المادي الخاص بالأساس؟
بنايات، تتوزع ما بين أسوار، وفنادق، ومركبّات، ودور للسينما، وقصبات، وغيرها… بعضها تم التدخل من أجل إنقاذها و “إنعاشها”، وأخرى تُركت لحالها إلى أن جاء “أجلها” ووريث الثرى، في حين تنتظر أخرى التفاتة فعلية من الجهات المختصة للحفاظ على هوّيتها، وإعادة الاعتبار إليها…
تقع «الزاوية الدلائية على بعد 12 كلم شمال آيت إسحاق، والتي يعود تأسيس إمارتها خلال 1566 م على يد الشيخ أبي بكر الصنهاجي المجاطي، وكانت عبارة عن مركز ديني تقصده الوفود من مختلف مناطق المغرب، إلى حين بدأت الزاوية تنمو وتتطور في عهد ابنه محمد أبي بكر الصنهاجي الذي تولى قيادة الزاوية سنة 1612 م»، وتتعدد المعالم التراثية والمزارات الدينية والزوايا المرتبطة بها كما هو الحال بالنسبة للزاوية (الناصرية نموذجا)، ثم «القناطر التي شكلت جزءا من تاريخ بلاد فزاز لقيمتها الحضارية والتاريخية ووظائفها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية» (الإسماعيلية والبرج…).
وعلاقة بالموضوع تطرّق الباحث لحسن رهوان في مداخلة سابقة في هذا الصدد ل «ما يعترض الباحث في التاريخ المحلي من فقر في المصادر والدراسات»، اللهم إلا ما هو متوفر من روايات أو أبحاث هزيلة، قبل تطرقه لموضوع «إغرم أوسار» وما «يفرضه من حديث عن الثروة المعدنية في مغرب العصر الوسيط»، فيما اختار التفصيل في تاريخ الموقع عبر حديثه عن مناجم عوام وموقعها الجغرافي والاستراتيجي، وحجم تأثيرها السياسي والاقتصادي». وبخصوص النشاط المعدني بهذه المناجم، توقف المتدخل عند الدراسات والأبحاث والحفريات التي تشهد على ذلك من خلال ما جرى العثور عليه من بقايا (معاول، مطارق، قناديل زيتية، سلال، دواليب وأدوات فخارية وخشبية، أفرنة، مصاف…).
وفي ذات السياق، تناول الباحث رهوان موضوع مدينة «إغرم أوسار» التي أشارت في شأنها جل المصادر الكلاسيكية إلى كونها «تأسست من طرف أحد أمناء السلطان الموحدي عبد المؤمن، خلال القرن الثاني عشر الميلادي، غير أن روزينبيرجيه يثير الشبه الكبير بينها وبين الحصون والقلاع المرابطية (نموذج تاسغيموت وقصبة النصراني وزاكورة)، وقيل «إنها كانت في غاية التحضر والعمران والاستقرار البشري، قبل سقوطها تحت الصراع الموحدي المريني»، و»تخريبها خلال زحف السلطان المريني يعقوب المنصور الموحدي سنة 1262م نحو مراكش، وكيف ستبعث القصبة المدينة من جديد في عهد السلطان أبي الحسن الذي سيقوم بإنشاء قصرا لضرب السكة» .
كما شارك الفاعل المدني الحسين أكضى، بمداخلة حول موقع «إغرم أوسار»، وما تم العثور عليه من قبور تدل على ما عرفته المنطقة من كثافة سكانية، فيما لم تفته الإشارة ل «عمل بحثي تاريخي كان قد بلغ مقر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وبقي على الرفوف دون طبعه»، فيما توقف المتدخل كثيرا بحديثه عن فقهاء الكنوز الذين «ظلوا يتربصون بالمنطقة وينقبون بين الأسوار والأعماق، وبذلك أتلفوا الكثير من التحف والمخطوطات، بما في ذلك اليهودية، وتم الاتجار فيها بشكل عشوائي لم يقدر الأهمية التاريخية لها»، بينما حرص المتدخل على الانتقال للحديث عن تاريخ الاستغلال المكثف للمعادن وما ساهم فيه ذلك من تخريب للتاريخ.
ومن خلال مداخلته، تحدث الحسين أكضى عما تناولته الكتابات الاستعمارية حول المنطقة، وعما يقال حول حقيقة وصول الرومان لها؟ وما تكتنزه من معادن ورصاص وفضة، وما إذا كانت بعض المآثر بها لها علاقة بعصر بورغواطة أو الأدارسة؟، فيما لم يفته استعراض مجموعة من القطع النقدية التي تم العثور عليها ب «إغرم أوسار»، و»دور منجم عوام في بناء اقتصاد ونفوذ الدول المتعاقبة على حكم المغرب في العصر الوسيط»، فضلا عن «المعارك التي دارت رحاها للسيطرة على الموقع»، فيما توقف المتدخل للإشارة لما أنتجته هذه المناجم من فضة خالصة بقصد تزويد دور السكة بها، لاسيما في عهد الصراع الإدريسي البرغواطي.
وتكلل اليوم الدراسي بخرجة جماعية إلى موقع/ مدينة «اغرم أوسار» الأثرية، حيث تم الاطلاع على أطلال أسوارها الممتدة على نحو 26 هكتارا ببَابَيْن، وجرى تشكيل حلقية لتبادل الأفكار والروايات والمعلومات والشروحات المرتبطة بتاريخ هذا الموقع، وما تم اكتشافه بها من مسكوكات وتحف وأوان ومعادن نفيسة، وكذا بالمكونات الحجرية التي بنيت بها، ولغز اختفاء سكانها، والوجود اليهودي بها، وظروف نشوب إحدى المعارك على أرضها، فيما تم الوقوف على ما يتعلق بالزحف الممنهج على الموقع الأثري من طرف الشركة المنجمية بعد «انتصار الاقتصاد والمال على التراث والتاريخ».
( يتبع )