في كل منطقة من مناطق المغرب، تواصل عدد من البنايات والمآثر، التي تشكّل جزء مهما وأساسيا من الذاكرة الفردية والجماعية، الوقوف بشموخ، وإن كانت تعاني الإنهاك، بعدما فعل فيها الزمن فعلته، حتى صارت تعيش مرحلة “أرذل العمر”، وتنتظر وقوعها أرضا، لتختفي كما لو أنها لم تكن يوما، فتلاقي بذلك مصير العديد من المعالم التي تم طمسها سابقا، وحلّت محلّها بنايات مفتقدة لأي روح، كان الهدف من وراء تشييدها الربح المادي الخاص بالأساس؟
بنايات، تتوزع ما بين أسوار، وفنادق، ومركبّات، ودور للسينما، وقصبات، وغيرها… بعضها تم التدخل من أجل إنقاذها و “إنعاشها”، وأخرى تُركت لحالها إلى أن جاء “أجلها” ووريث الثرى، في حين تنتظر أخرى التفاتة فعلية من الجهات المختصة للحفاظ على هوّيتها، وإعادة الاعتبار إليها…
كانت فاس، المدينة التي أسسها إدريس الثاني سنة 182 ه، وإلى عهد قريب، عاصمة للمملكة المغربية، ولما حلّ الجنرال ليوطي بها في عهد الحماية، حيث أدرك الدور السياسي الذي يقوم به علماؤها في مبايعة الملوك أو رفضهم لهم، وخوفا من انطلاق الثورة منها لتحرير المغرب من الاستعمار الفرنسي أمر بنقل العاصمة الإدارية للمغرب إلى الرباط.
لقد عرفت فاس، على امتداد 12عشر، قرنا إشعاعا حضاريا في كل المجالات العلمية والثقافية والسياسية مما جعلها تتبوأ مكانة هامة على الصعيد الوطني، لتصبح العاصمة الروحية للمملكة، وقد تعاقب على السلطة بها المرابطون والموحدون والسعديون والمرينيون والوطاسيون، وتركت كل دولة بصماتها على الحضارة بفاس، فالمرابطون بنوا الأسوار المحيطة للدفاع عنها من الغزاة، ومنها كانوا ينطلقون في حملاتهم العسكرية، والموحدون بنوا فيها مجموعة من القناطر، في حين اهتم المرينيون بالعلم حيث أسسوا عددا من المدارس، نذكر منها المدرسة البوعنانية، والساعة المائية، والمدرسة المصباحية، وغير ذلك من المدارس والمساجد.
ومن المعلوم أن فاس تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي المدينة العتيقة التي بنيت في عهد الأدارسة التي تعتبر متحفا حيا وتواكب التطور الحضاري، وفاس الجديد عاصمة المرينيين التي أسسها يعقوب المنصور المريني في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم المدينة الجديدة التي بناها الاستعمار الفرنسي على عهد الجنرال ليوطي. وتشتهر فاس بأبوابها كباب بوجلود، وباب الكيسة، وباب الفتوح، وغيرها من الأبواب وكلها تفضي إلى عمق المدينة العتيقة.
ومن أشهر مآثر فاس العتيقة، نجد مسجد القرويين، ومسجد الأندلس، وضريح إدريس الثاني، والمدرسة البوعنانية، والمدرسة المصباحية، ومدرسة العطارين، والبرج الشمالي الذي يستغل كمتحف للأسلحة القديمة، وبرج سيدي بونافع، وفندق النجارين الذي تحول إلى متحف لروائع المصنوعات الخشبية، بالإضافة إلى سقاية النجارين، زيادة على الأسواق العتيقة كسوق العطارين الخاص بتجارة التوابل، وسوق السلهام لبيع المنسوجات الحريرية والصوفية، وسوق الحناء المشهور ببيع الحناء والغاسول ومنتجات التجميل الطبيعية، وغير ذلك من الأسواق التقليدية كسوق الرصيف، وباب السلسلة. وجدير بالذكر أن فاس العتيقة يخترقها وادي الجواهر الذي يفصل بين عدوتي الأندلس التي استوطنها العرب الوافدون من الأندلس، وعدوة القرويين التي استوطنها العرب والوافدون من تونس، ويربط العدوتين قنطرة الخراشفيين.
وغير خاف أن فاس العتيقة تعاني من عدة مشاكل في طليعتها الدور الآيلة للسقوط، وحتى تظل المدينة المشهورة عالميا، محافظة على مكانتها التاريخية، فقد أمر الملك محمد السادس في سنة 2013 بإعادة الاعتبار للمدينة العتيقة باعتبارها تراثا إنسانيا، لتظل محافظة على ماضيها التليد، ومتطلعة لمستقبل زاهر تشجيعا للصناعة التقليدية، وجلب السواح الأجانب، حيث أمر جلالته بإعادة هيكلة دورها الآيلة السقوط وبإصلاح مآثرها التاريخية، حيث تم خصيص غلاف مالي لإعادة هيكلة 27 مشروعا بلغ أكثر من 270 مليون درهم، وأسندت هذه المهمة لوكالة التنمية وإنقاذ فاس، إذ تمت هيكلة المدرسة المصباحية والمدرسة البوعنانية ودار المؤقت، حيث ارتدت حللا زاهية من النقوش الجبسية والخشبية والخليج الفاسي الزاهي الألوان، وأصبحت كما كانت عليه في السابق، كما تم ترميم قنطرة الخرشفيين وقنطرة الرصيف وعدد من الفنادق، منها فندق القطانين، وفندق الشماعين وغيرها، بالإضافة إلى حمام ابن عباد. ومازالت عملية إعادة الهيكلة سارية في فاس الجديد، وبرج سيدي بونافع، ويجري التفكير حاليا في إعادة هيكلة مصنع الأسلحة بباب الماكينة الذي أسسه السلطان الحسن الأول.